وليد الرجيب
شاهدت صورة بشعة ومؤثرة وذات دلالة من واقع الثورة السورية، كانت صورة رغيف خبز ملطخ بالدماء، أشعرتني بهزة كيان واستدراك بأن كل شيء في وطننا العربي ملطخ بالدماء، أجساد الأطفال وكرامة الإنسان والحرية والعدالة والإنسانية كلها ملطخة بالدماء.
يكفي أن تطالب بحريتك حتى يصبح لون الدنيا أحمر قاني، ويكفي أن تحتج حتى يمتلئ الفضاء بالدخان المسيَل للدموع وتنهال على رأسك الهراوات ثم الرصاص المطاطي ثم الرصاص الحي يليها قصف المدافع والطيارات لكن السادية تتمادى ومنظر الدم يثير شهية استخدام أسلحة الإبادة الجماعية.
يتساءل المستبد: لم الشعوب بأرواح سبع؟ قتلتها مرات ومرات فلم لمْ تمت؟ وضربتها مرات ومرات فلم لم تكف عن احتجاجها ومطالبتها بالحرية؟ لم لمْ تقتنع الشعوب بأنها لا يجب أن تحلم بالحرية لأنها مُضرَة لي؟
ويبدو أن ثورات الشعوب لم تباغت الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية فقط، ولكن على ما يبدو أنها أربكت بعض أصحاب القلم من المثقفين والمبدعين، المتكئين على إرث الثورات الذهنية، هؤلاء الذين تغنوا بإرادة شعوبهم وبالحرية «إذا الشعب يوماً أراد الحياة…» و«للحرية الحمراء باب…» -ليس كل المثقفين بالطبع-، هؤلاء الذين عرفناهم بـ «اللاءات» والذين فاضت أحرفهم بالرفض والمعارضة وعاشوا في العقود الماضية بالمختلف والمغاير، حتى أصبحوا رموزاً لانحيازهم لشعوبهم وردد الناس أشعارهم بافتخار، هؤلاء الكتاب والمبدعون المرتدون عباءات «الثورجية» مثل القومية واليسارية والديموقراطية والوطنية الذين تذوق بعضهم مرارة السجون والمنافي، ونعوا حريات شعوبهم على مقاهي أرصفة بيروت.
هذه القامات الشعرية التي لا نريد ذكر أسمائها التي يعرفها الجميع خشية سقوطها المدوي في أذهان الشعوب، وبعض نظرائهم في الدول العربية الأخرى كشفوا تخلفهم الفكري عن تفكير شعوبهم الغارقة في وحل الجهل والفقر والاستبداد، ولم يفرقوا بين التنظير الثقافي والأيديولوجي وبين الاستيعاب الحسي للألم والإدراك الواقعي للكرامة والحرية والعدالة، فهل نأتي بمزيد من الأمثلة الثقافية والإبداعية التي فرشت لها شعوبها سجاداً أحمر بلون دمائها التي سُفكت في العامين المنصرمين؟
هؤلاء الذين يكررون أنهم ليسوا مثقفي سلطة، رأوا في غضبة الشعوب تنفيذاً لمؤامرات خارجية إمبريالية وصهيونية وإقليمية، بل من كان منهم ينكر التعالي «المزعوم» على شعوبهم وآلامها وآمالها، تخلوا عن مفرداتهم اللفظية الشعرية وتبنوا المفردات اللفظية للسلطات «فوضويون غوغائيون انقلابيون مندسون»، مبررين ذلك بالخطر الآتي من القوى الظلامية التي ستُطبق على عنق الشعوب العربية لزمن طويل، فالظلم السلطوي بالنسبة لهم أرحم من سلطة قوى الظلام، وبرهنوا عن سادية مواربة وتواطؤ اتخذ شكل الصمت والتبرير لاستخدام الهراوة والغاز المسيَل للدموع والقمع الدموي والاعتقالات التعسفية وحجز الحريات والتعذيب الوحشي، وحتى تدمير المدن ودور العبادة والآثار العربية الإسلامية العظيمة، وقالوا انها من صنع العصابات التي تحركها الإمبريالية وقوى الظلام.
ربكة واختلال هؤلاء وتعصبهم الفئوي والطائفي جعلت بعضهم يفرق بين دم مُبرَر ودم مُستنكر، لأن الثورة عاشت لعقود في رؤوسهم فقط، أما أن تحدث على أرض الواقع فهو أمر لا تفسير له، كما أنها مقبولة عند شعب ولكنها غير مقبولة عند شعوبهم.
تلطخت حروفهم بدماء شعوبهم العربية، وبينما التاريخ يتغيَر أمام أعينهم ظلوا هم العارفون بكل شيء والقابعون في معرفتهم الكلية، وفي أقل الأحوال يتحدثون عن فضيلة الاختلاف في الرأي بينما نحن نتحدث عن الموقف من الدم، فلا طريق ثالثا إما مع الشعوب وإما ضدها.
* نقلا عن “الراي” الكويتية