الحرب المقدسة ليست مقدسة

geoegemasouhالأب جورج مسوح: النهار اللبنانية

“وأمّا ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلاّ الآب. انظروا ! اسهروا وصلّوا، لأنّكم لا تعلمون متى يكون الوقت” (إنجيل مرقس 13، 32-33).

لا أحد يعرف الساعة التي تحلّ فيها نهاية الأزمنة متى تكون. ليس لأحد أن يتنبّأ عن نهاية الأزمنة. الإنجيل واضح، والمسيح يستثني حتّى نفسه من هذه المعرفة. فكيف لإنسان أن يزعم أنّه يكشف الأوقات والأزمنة، ويتنبّأ عن سقوط أمم ودول وصعود أخرى، وعن انتصارات مسيحيّة “أرضيّة” لم نعهدها عند القائل إنّ مملكته ليست من هذا العالم!
مناسبة هذا الكلام هي نشوء حالة أخرويّة (نشوريّة) عند بعض المسيحيّين في بلاد الشام التاريخيّة، وبخاصّة بعد دخول روسيا الحرب في سوريا، إذ اعتبر بعضهم أنّ هذا الدخول هو بداية لتحقيق نبوءة القدّيس باييسيوس الشيخ، كما اعتبر بعضهم الآخر أنّ الرئيس الروسيّ هو “الرئيس المؤمن المستقيم الرأي” الذي أتى ليخلّص المسيحيّين من “الإرهاب الإسلاميّ”.

القدّيس باييسيوس
في مقالة نشرها موقع “النهار” الإلكترونيّ تحت عنوان “باييسيوس أحدث القدّيسين الأرثوذكس… ماذا تنبّأ عن الشرق الأوسط؟” استنادًا إلى موقع تابع لأحد الديارات الأرثوذكسيّة، ورد أنّ أشهر نبوءات باييسيوس المتعلّقة بالشرق الأوسط تؤكّد أنّ “الروس سيأخذون تركيا ويعبر الصينيّون نهر الفرات. تخبرني العناية الإلهيّة أنّ حوادث كثيرة ستجري. سيأخذ الروس تركيا وتختفي تركيا من خريطة العالم، لأنّ ثلث الأتراك سيصبحون مسيحيّين، ويموت الثلث الآخر في الحرب، ويغادر الثلث الأخير إلى بلاد الرافدين. سيصبح الشرق الأوسط مسرحًا لحرب تلعب فيها روسيا دورًا كبيرًا. ستراق دماء كثيرة. سيعبر الصينيّون نهر الفرات بجيش عدده 200 مليون، ويسيرون وصولاً إلى أورشليم”.
أمّا علامة اقتراب هذه الحوادث فستكون “دمار جامع عمر، لأنّ دماره سيعلن بدء عمل اليهود في إعادة بناء هيكل سليمان الذي كان مبنيًّا في الموضع نفسه. ستنشب حروب كبيرة بين الروس والأوروبيّين. ستراق دماء كثيرة. ولن تلعب اليونان دورًا كبيرًا في هذه الحرب. لكنّ الروس سيعطونها القسطنطينيَّة، ليس لأنّهم يحبّون اليونان، لكن لأنّهم لن يجدوا حلاًّ أفضل، وستسلّم المدينة إلى الجيش اليونانيّ حتّى قبل أن يصل إليها”.
ثمّ يتنبّأ باييسيوس عن اليهود فيقول: “يزداد اليهود اعتدادًا بقوّتهم، وسيساعدهم الأوروبيّون، فيبلغون غطرسة تفوق كلّ تصوّر. وسيتصرّفون بلا رادع، حتّى إنّهم سيحاولون أن يحكموا أوروبا. سيجرّبون كلّ أنواع الخداع. لكنّ الاضطهادات الناتجة ستوحّد المسيحيّين كلّيًّا. إلاّ أنّ هذه الوحدة لن تكون في الشكل الذي يرغب فيه من يحاولون بأساليب عديدة توحيد الكنيسة تحت قيادة دينيّة واحدة. سيتّحد المسيحيّون، لأنّ الحوادث التي تنكشف ستفصل تلقائيًّا الخراف عن الجداء. عندئذ ستتحقّق النبوءة: “رعيّة واحدة وراع واحد”.
أقرّت البطريركيّة المسكونيّة في القسطنطينيّة قداسة باييسيوس في بداية هذا العام بعد نحو عشرين عامًا على وفاته (ولد في العام 1924)، وذلك في مدة تعتبر قصيرة وغير اعتيادية، وفقًا للمعايير الكنسيّة. وقد شكلّت شعبيّته الواسعة بين المؤمنين كـ”نبيّ” و”رجل حكيم” أحد أبرز الدوافع إلى إعلان قداسته. وقد ورد في المقالة المذكورة أنّ “الراهب باييسيوس الذي عاش في جبل آثوس في اليونان، اشتهر بتعاليمه ومواهبه الروحيّة ونبوءاته. وحتّى قبل إعلان قداسته، اعتبره المؤمنون من أكبر القدّيسين في جبل آثوس في القرن العشرين. وعلى مرّ الأعوام، قصده آلاف لنصيحته ونبوءاته، وتجاوزت شهرته اليونان إلى مختلف أرجاء العالم”.
يأتي التدخل الروسيّ في سوريا ليوقظ لدى بعضهم الشعور الدينيّ بأنّ نبوءة باييسيوس قد بدأت بالتحقّق. وما الرئيس الروسيّ سوى الأداة الإلهيّة لإعادة مجد القسطنطينيّة، وإعادة السيطرة اليونانيّة على هذه المدينة العظمى. فبدأنا نسمع كلامًا على “الحرب المقدّسة” الدائرة في سوريا يتبنّى هذا التوجّه، علمًا أنّه لا يمثّل رسميًّا وواقعيًّا رأي أيّ كنيسة من الكنائس. فحلّ بوتين في أيقونة مار جرجس مكان القدّيس الشهيد، وأوباما أو أحد الإرهابيّين مكان التنين. وبدأنا نشاهد صورًا أخرى لـ”الرئيس المؤمن”، القيصر، وتحت صورته ترنيمة عيد الصليب: “خلّصْ يا ربّ شعبك وبارك ميراثك، وامنح ملوكنا المؤمنين الغلبة على البربر، واحفظ بقوة صليبك جميع المختصّين بك”.
لا بدّ من التأكيد أنّ المؤمنين ليسوا ملزمين قبول كلّ ما نطقه القدّيسون في حياتهم. المؤمنون ملزمون فقط ما يختصّ بالعقيدة وبخلاصهم، أي ببنائهم الروحيّ. لذلك لنا الحقّ في التشكيك في نبوءة باييسيوس، لا في قداسته الشخصيّة ولا في معظم تعاليمه الروحيّة، وبخاصّة أنّ العديد من أتباعه يشكّكون بدورهم في صحّة هذه النبوءة المنسوبة إليه. سندُنا في ذلك هو أنّ المسيح نفسه دعا إلى عدم احتساب الأزمنة والأوقات. وقد خاب إلى الآن كلّ مَن وضع أوقاتًا من كلّ الديانات، اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، ومن كلّ الشيع والفرق الدينيّة كشهود يهوه والألفيّين…
معظم التراث الآبائيّ يذهب إلى القول بأنّ النبوءات كلّها قد تحقّقت بمجيء السيّد المسيح، واستمرّت النبوّة بصورة أخرى مقياس صحّتها، كما يقول الرسول بولس في رسالته إلى رومية، “فمَن أوتي النبوّة فليتنبّأ بحسب قاعدة الإيمان” (رومية 12، 6). ليست نبوّة، إذًا، تلك التي لا توافق القواعد الأساسيّة للإيمان المسيحيّ، ولا سيّما في ما يختصّ بالعقائد الأساسيّة التي يقوم عليها هذا الإيمان كالثالوث الأقدس والتجسّد والصلب والقيامة… لذلك يبقى أرثوذكسيًّا مَن لا يؤمن بنبوّة القدّيس باييسيوس طالما هو يؤمن بالأساسيّات، والنبوّة هي من الثانويّات!
الكنيسة، إذًا، ليست ملزمة أن تأخذ أقوال كلّ القدّيسين، قديمًا وحديثًا، على المستوى ذاته الذي تخضع فيه لنصّ الكتاب المقدّس. طبعًا، لا بدّ من التكرار حتّى لا يساء فهمنا، يستثنى من عدم الإلزام الكلام الذي أجمعت عليه الكنيسة، ولا سيّما المجامع المسكونيّة السبعة.

سفر الرؤيا
هنا لا بدّ من العروج قليلاً إلى سفر “رؤيا يوحنّا” الذي يلجأ إليه بعضهم لتأكيد صحّة بعض النبوءات المتعلّقة باليوم الأخير. يخطئ مَن يظنّ أنّ كتاب “رؤيا يوحنّا” يتنبّأ عن نهاية الأزمنة. ويخطئ مَن يقرأه قراءة حرفيّة، كأنّه يقرأ تحقيقًا صحافيًّا عن حدث جرى، أو كأنّه يشاهد فيلمًا وثائقيًّا… كتاب “رؤيا يوحنّا” لا يقدّم إلى قارئه صورة عن نهاية العالم، بل يتحدّث بلغة رمزيّة عن مسيحيّي عصره الذين عانوا من الاضطهادات، وتاليًا عن كلّ عصر مماثل.
لم يكن هاجس كاتب الرؤيا أن يلقّن قارئه علامات نهاية الأزمنة، بل أن يحضّه على الثبات في الإيمان وعدم الارتداد أمام الدولة الرومانيّة وحكّامها الذين عادوا المسيحيّين واضطهدوهم ومارسوا تجاههم أشنع التعذيبات كي ينكروا إيمانهم، وكي يقدّموا الولاء والعبادة لهم لا لإلههم. يسعنا القول إنّ الرؤيا نصّ عظيم في مديح الشهادة والاستشهاد وعدم التخاذل مهما قست الظروف.
كتاب الرؤيا دوّن في نهاية القرن الأوّل المسيحيّ إبّان حكم الأمبراطور دوميسيانوس الذي أطلق على نفسه لقب “السيّد والإله”. فأضحت عبادة الأمبراطور والسجود له العلامتين المميّزتين للمواطن الصالح، وتاليًا الوسيلة الوحيدة لممارسة بعض الوظائف أو القيام بالأعمال التجاريّة. هكذا، وجد المسيحيّون أنفسهم أمام خيار مرّ لا مساومة فيه: إمّا أن يؤدّوا فروض العبادة لقيصر، وإمّا أن يرفضوا هذه الوثنيّة فيعيشون متّهَمين بعصيان الدولة ويتهيّأون للاستشهاد بين أنياب الأسود أو بقطع رؤوسهم بالسيف…
كتاب الرؤيا هو كتاب الثورة ضدّ السلطات الغاشمة. لم يهادن المسيحيّون الأباطرة والجلاّدين، بل واجهوهم بصلابة الإيمان والوفاء لتعاليم السيّد المسيح ومقتضيات الإنجيل. لم يمارسوا التقيّة للحفاظ على أنفسهم، ولم يكن لديهم ظاهر وباطن. جاهروا بإيمانهم في الميادين والشوارع وفي ساحات الاستشهاد، ولم يتراجعوا عن اقتناعاتهم. بقوا مخلصين لربّهم وسيّدهم إلى آخر رمق، لأنّهم لم يفقدوا الرجاء بالخلاص الآتي.
كتاب الرؤيا كتاب ثورويّ لأنّه لم يتوانَ عن تشبيه السلطة القائمة بالوحش، وعن تشبيه الأمبراطور- الإله بالشيطان. فكاتب الرؤيا يقول: “وهنا لا بدّ من الحكمة؛ مَن كان ذكيًّا فليحسب عدد اسم الوحش. هو عدد اسم إنسان وعدده 666 (أو في مخطوطات أخرى 616)” (الرؤيا 13، 18). يدعو كاتب الرؤيا قارئه إلى اكتشاف الرمز الكامن خلف الرقم 666 (أو 616). فإذا استعملنا حساب الجمل، أي أنّ كلّ حرف من حروف الأبجديّة العبريّة يقابله رقم، لوجدنا أنّ الرقم 666 يعني عبارة “القيصر نيرون”، أمّا الرقم 616 فبالحساب اليونانيّ يعني “قيصر هو الله”.
ليس كتاب الرؤيا كتابًا يتحدّث عن الغيب وعن أزمنة لم تأتِ بعد، ولا يدعو المسيحيّين إلى الحياة الأبديّة عبر التكاسل والتخاذل وعدم اتّخاذ موقف إزاء ما يجري في عالمهم من اضطهادات. هو ليس كتابًا يدعوهم إلى الخوف والتقوقع والانعزال والهروب من مواجهة الأمر الواقع. هو كتاب يدعوهم إلى الحرّيّة التي زرعها الله في الإنسان لتمييزه عن باقي المخلوقات، وإلى الدفاع عن هذه الحرّيّة وإن كان ثمن ذلك باهظًا، ثمنه حياتهم.
لكنّ الكتاب أيضًا هو كتاب الرجاء. الرجاء بالربّ لا بالحاكم ولا بالسلطة ولا بالقوّة. فلا يحقّ للمسيحيّين أن يهملوا الرجاء باللجوء إلى الخوف وربط بقائهم ببقاء نظام أو حاكم. لم يلجأوا إلى نيرون أو ديوكليسيانوس أو سواهما من الأباطرة بل لجأوا إلى الربّ واستمرّوا. لم تقضِ عليهم أزمنة الاضطهادات ولن تقضي. كتاب الرؤيا هو كتاب “الأرض الجديدة والحياة الجديدة”.
لقد كتبنا منذ أشهر مقالة عنوانها “مجد القسطنطينيّة انتهى… لكنّ المسيح باقٍ” (ليبانون فايلز، 13 أيّار 2015) قلنا فيه: “انتهى مجد أنطاكية التي دعي فيها التلاميذ مسيحيّين أوّلاً. انتهى مجد القسطنطينيّة العاصمة العظمى للأرثوذكسيّة. انتهى مجد كبادوكية ونيقية وأفسس وخلقيدونية وإزمير والرصافة وتدمر… انتهى مجد الأمبراطوريّات المسيحيّة… بيد أنّ مجد المسيحيّين لن ينتهي، طالما هم متمسّكون بالأمانة ليسوع المسيح، يحملونه معهم حيث يرتحلون، وحيث ينتقلون، وحيث يستقرّون. يسوع وحده مجدهم”. والآن نقول الكلام نفسه، ونصلّي من أجل ألاّ يُقتل أحد في الحروب، لا في سوريا ولا في لبنان ولا في فلسطين… ونصلّي من أجل ألاّ يُقتل “ثلث الأتراك” ولا اليونانيّين… فمجدنا ليس في الأمبراطوريّة، بل في الشهادةالحقّ.

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.