يوسف الديني الشرق الاوسط اللندنية
بوادر الحروب الأهلية المقنعة بـ«الربيع العربي» بدأت تأخذ طريقها في الغليان، ومن يعتقد أن ما يحدث في مصر الآن من هذا الفرز على مصطبة الإخوان، حالة استثنائية بسبب حالة الفراغ السياسي الذي عانته البلاد بعد رحيل النظام السابق فهو لا يرى أبعد من أرنبة أنفه، من الخليج إلى المحيط كما يقال نحن أمام «فسطاطين» عبّر عنهما زعيم القاعدة السابق بلغة حادة ومباشرة، لكنها أصابت كبد الحقيقة في الرؤية الآيديولوجية للعالم من قبل الفكر المتطرف، وغني عن القول: إن حالة التشابه في كل الأفكار المتطرفة سواء التي تتخذ من السلاح وسيلة للتغيير أو تلك التي يمكن أن تركب موجة «التغيير السلمي» وقت الحاجة، وتأكل تفاحة الديمقراطية على طريقة الاضطرار لأكل الميتة، كما هو حاصل الآن، النخب السياسية تتحدث عن لعبة ديمقراطية أمسكوا بزمامها، والقواعد الشعبية من الخطباء وأئمة المساجد والجماهير العريضة تتحدث عن الخليفة مرسي الذي لا يجوز الخروج عليه، وأنه مؤيد من الله ومحاولة اجترار التاريخ لتشبيهه بأحد الخلفاء في هذا الموقف أو ذاك، هناك الكثير من المقاطع على الـ«يوتيوب» تشبه الرئيس مرسي الذي فاز بالكاد بفارق ضئيل بنبي الله موسى وحتى يونس عليهما السلام في محنته!
الحروب الأهلية المقنعة ليست بالضرورة أن تكون بالسلاح لا سيما في ظل تعقيد الوضع الداخلي وارتباطه بالمناخ العام في المجتمع الدولي، نحن محظوظون جدا أن كثيرا من القرارات الكبيرة مرتبطة عادة بمزاج المجتمع الدولي ومساعداته وتمويله وقروضه التي تكبح أحيانا جماح الطامحين لسحق معارضيهم.
في الوطن العربي الكبير هناك انقسام حاد يتصاعد بين الفسطاطين، الفسطاط المدني الذي لا يرى في الإسلام السياسي إلا وجها مزورا لفكر شمولي فاشي يتذرع بشعارات دينية، وفسطاط الإسلام السياسي الذي يرى أن مجتمعه بحاجة إلى تطهير وإعادة تأهيل ولو بشكل قسري، وهذا لا ينسحب على دول الربيع العربي حيث وصل الإسلام السياسي للحكم، بل يتعدى ذلك إلى كل الدول التي لا تحتاج أن تفتش طويلا فيها عن بذور مثل هذه الحروب الأهلية المقنّعة، فمجرد الدخول إلى ساحة المعارك الافتراضية في «تويتر» يمكن أن يتطاير لك الشرر البادي من الفريقين.
الفسطاطان يعيشان «عزلة شعورية» كما يعبّر منظر الإخوان سيد قطب عن حالة المؤمن السوي في انعزاله عن معسكرات الجاهلية، كل له برامجه وخطبه وأدوات إعلامه وحتى له ممثلوه في الشارع أو مناصب السلطة، وما حالة السلم والحوار إلا نتائج هزيلة لضغوط تمارسها السلطة التي تحاول أن تقف على الحياد بين الفريقين في كثير من تجليات هذا الصراع، وبسهولة يمكن لأي منافسة انتخابية أو ديمقراطية أن تعيد الفرز إلى عوامله الأولية فسطاط أهل الخير والصلاح والإيمان وفسطاط أهل الفجور والسفور.. إلخ من المصكوكات الشهيرة لتلك الحروب الأهلية المقنعة.
ما الذي اختلف في مصر عن باقي التجارب الانقسامية التي عاشتها السودان (شمال / جنوب) وأيضا داخل الشمال بين أنصار الإخوان والبشير والقوى الأخرى، وحتى فلسطين حماس / السلطة الفلسطينية، وصولا إلى اليمن ومرورا بكل البلدان التي تختبئ هذه المعارك تحت مسميات أخرى بسبب قوة السلطة أو حتى الرخاء الاقتصادي الذي يشجع على تلك «العزلة» التي تمارسها النخب؟
الذي اختلف في مصر أن النزاع بين الفسطاطين على أرضية مكشوفة جرداء، فهو تصنيف واضح ومباشر لا لبس فيه، في البلدان الأخرى هناك عوامل تخفف من حدة هذا «العري الآيديولوجي»، قناع القبيلة وأيضا وجود تيارات إسلامية غير مسيسة كالسلفية العلمية وحتى المتصوفة من الذين لا يتقاطعون مع فكر الإسلام السياسي، بل هم أقرب إلى السلطة وفي حالات معينة أقرب إلى «حزب الكنبة» أو الأغلبية الصامتة.
من جهة ثانية فإن جزءا كبيرا من حالة الاحتقان التي تعيشها المجتمعات «الربيعية» هو بسبب غياب سلطة القانون، فالثورة التي تطال دولة تتداخل فيها السلطات، ولا يمكن التمييز بين السلطة والحكومة والدولة والنظام الحاكم والمؤسسات القانونية فيها ستهدم كل ذلك، فيعود الوضع إلى حالة تشبه «المجتمعات البدائية» حيث الصوت للأقوى.
والحال أن موازين القوى بين الأطراف المتصارعة لا يمكن حسمها لصالح فريق، فالمسألة ليست كما يشيع الإخوان والإسلاميون عموما مسألة أرقام وحجم على الأرض، كلنا يدرك غياب أي مؤسسات بحثية إحصائية في الوطن العربي يمكن أن تمتلك معلومات دقيقة أو أرقاما حقيقية عن مكوّنات المجتمع الفكرية والطائفية.
ربما كان أكثر سؤال يواجه الباحثين في التيارات الإسلامية، كم هو حجم الإخوان الحقيقي في مصر، وهو سؤال طرح كثيرا في مناسبات كان الجميع مذهولا من حجم رد فعل الجماعات الإسلامية في الشارع، وبالطبع لا أحد يمتلك الإجابة الحقيقية، والأرقام متباينة ما بين 3 ملايين كما تقول بعض الدراسات الحديثة التي اعتمدت على أرقام مسربة من داخل الجماعة للمسجلين رسميا، وما بين مبالغات الإخوان في أوقات الحشد. د.عبد الحميد الغزالي المستشار السياسي للمرشد قال مرة إن الإخوان وصلوا إلى 15 مليونا، ويذكرني ذلك بما قاله يوسف ندا في قناة «الجزيرة»: إن الإخوان في العالم يتجاوزن المائة مليون شخص.
بالطبع هناك تداخل لشعارات الإخوان الدينية مع أغلبية متدينة في المجتمعات العربية وغير مسيسة وكثير منها محتقن ضد السلطة بحكم الدعاية السياسية للمعارضة المضطهدة، ومن جهة ثانية أن تكنيك الجماعات الإسلامية عموما هو التحالف في مواجهة الآخر المختلف على قاعدة «تكثير السواد» ومفهوم «النصرة» الشهير في الأدبيات الإسلاموية، إضافة إلى التحولات الكبيرة التي طالت التيارات السلفية التي أصبحت أكثر تسييسا وبالتالي تقاطعا مع مشروع الإخوان، كما أن صعود التيارات السلفية حتى في البلدان ذات المنزع المتصوف كدول شمال أفريقيا جعلها أكثر تمثيلا رغم أنها غير مسيسة لأحزاب الإسلام السياسي التي تتكفل بمقارعة الأنظمة والطواغيت بينما ينشغل الآخرون في الاستحواذ على كعكة المجتمع.
الإخوان بالنسبة للتيارات الإسلامية، باستثناء خصومها من السلفيين، هم النخبة السياسية المؤهلة للتغيير بحكم التنظيم والممارسة الطويلة للعمل السياسي، كما أن الإخوان لا يرون فيمن عداهم أي خبرة أو تراتبية تنظيمية أو حتى تاريخ طويل من الممارسة على الأرض يؤهلهم للمنافسة.
الإشكالية التي صعّدت من الحرب الفكرية الصامتة إلى الحرب السياسية المعلنة الآن، هي أن أي فصيل من الإسلام السياسي وعلى رأسهم الجماعة الأم لا يمكن لها أن تمسك بالدولة وإن كانت تستطيع الاستحواذ على السلطة وربما ابتلاعها بالكامل، السلطة شيء مختلف عن الدولة التي تشمل كل مفاصل المجتمع وعلى رأسها الجهاز القضائي والأجهزة الإدارية والرقابية والقطاع الأمني الذي لا يمكن لـ«الإخوان» لا من حيث العدد ولا التأهيل الانفراد به، وبالطبع غني عن القول أن يتمكن الإخوان من سد الفراغ في مجالات الإعلام والفنون والرياضة وكل مناشط الحياة المدنية الطبيعية التي لا ينخرط فيها كوادر الإسلام السياسي لأسباب فكرية وأولويات العمل الحزبي.
في المقابل يخطئ المناوئون للإسلام السياسي وهم في ازدياد مطّرد في التعامل مع أطروحات الإخوان بسبب حالة من الجهل الشديد بهم، مردّه حالة العزلة التي كان يعيشها الإسلاميون وأيضا غياب المحرّض على تفهم هذا المكون السياسي بحكم اصطدامه ضد السلطة وبالتالي عدم اعتباره منافسا محتملا في اللعبة السياسية، كما أن الركون إلى مسلمات تسطيحية عن الإسلام السياسي من وضعه في سلة الرجعية والتخلف والقرون الظلامية دون قراءة واعية لمكوناته وأسباب نشأته وطريقة عمله على الأرض ساهم في زرع هذه الهوّة بين الإسلاميين وخصومهم حتى قبل أن يكونوا فرقاء سياسيين.
الأمر رغم كل المؤشرات المحبطة لا يعني الركون إلى نذر الحرب الأهلية والانسياق وراء منطقها، لكن من المهم هو فهم طبيعة الاختلاف التي كونت هذا الانقسام بين المعسكرين، ونزع الأقنعة الدينية التي تستخدم عادة في التضليل، فلا الإسلاميون مجرد تكفيريين مارقين ولا خصومهم زنادقة وأتباع الشهوات المعادين للإسلام، هناك طريق ثالث قائم على سيادة القانون والاحتكام إلى المشتركات الأولية في العيش والحرية والكرامة واحترام التعددية التي لا يمكن أن تؤول إلى فكر الحزب الواحد.
تأجيل الاحتراب السياسي ومحاولة إدراك أن المركب بالكامل سيغرق في وحل الاقتصاديات المنهارة يمكن أن يشكل بداية تشكل تيارات إنقاذ تؤجل الحسم السياسي بالتأكيد على احترام قواعد اللعبة والتأكيد على سيادة القانون، وهو ما يجب أن تلجأ إليه النخب العاقلة من الطرفين بعيدا عن صخب الإعلام والاستغلال الأرعن للشارع ومحاولة تجييشه، مؤسف جدا أن يضيق الوطن بأبنائه بينما الحرب الأهلية تسع الجميع.