بقلم د. عماد بوظو/
في خرائط توزيع وانتشار لغات الشرق القديم، تبدو منطقة الحجاز ووسط المملكة العربية السعودية الحالية، خلال الفترة بين القرن الثاني قبل الميلاد حتى القرن الخامس الميلادي، كامتداد لسورية الطبيعية وبلاد الشام، لأنها تتكلم نفس الفرع من اللغات السامية. هذا الفرع الذي تطور عن اللغة الآرامية، وهي لغة مكتوبة عثر عليها في شمال سورية الحالية، تعود للفترة بين القرنين العاشر والثامن قبل الميلاد ثم خرجت منها فيما بعد اللغة العبرية القديمة التي لم يتبق من الدلائل على وجودها سوى أختام يربعام الثاني 748 ـ 746 قبل الميلاد ونقوش نفق حزقيا 701 قبل الميلاد. سرعان ما اختفت واستخدم العبرانيون الأبجدية الآرامية للكتابة لعدة قرون، ثم ظهرت العبرية الأحدث في لفافات البحر الميت التي تعود للفترة بين القرن الثاني قبل الميلاد حتى نهاية القرن الأول الميلادي، وكانت تلك العبرية قريبة الشبه بالكتابة الآرامية. فيما بعد اكتسبت الآرامية اسما جديدا هو السريانية وارتبطت بالتاريخ المسيحي للشرق. وأخيرا خرجت منها اللغة العربية التي أصبحت أوسع اللغات السامية انتشارا.
تقبل اليهود والمسلمون في العصور الوسطى حقيقة التماثل بين اللغات السريانية والعبرية والعربية. يقول البلاذري، المتوفي عام 892 ميلادي، في كتابه “فتوح البلدان” إن العرب وضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية. وذكر المؤرخ ابن النديم، المتوفي سنة 995 ميلادي، في كتابه “الفهرست” أن أفصح لغة هي النبطي وهي سرياني مكسور. كما أن ابن حزم قال في كتابه الإحكام في أصول الأحكام “من تدبر العربية والعبرانية والسريانية أيقن أن اختلافها إنما هو من تبديل ألفاظ من الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم وأنها لغة واحدة في الأصل”.
الأنباط، هم قبائل بدوية كانت تنتشر في القرن السادس قبل الميلاد في المنطقة الممتدة بين الأردن الحالية والنقب وسيناء
ونشرت أبحاث علمية ودراسة مقارنة بين هذه اللغات باللغة اللاتينية منذ العام 1538 أكدت على الأصل المشترك لها، وفي نهايات القرن الثامن عشر أطلق مصطلح اللغات السامية لتمييز اللغات الوثيقة الصلة بالآرامية والعبرية والعربية، وبدون كل ذلك فإنه من الممكن ملاحظة العلاقة الوثيقة بين هذه اللغات من خلال مقارنة شكلية بينها، فالخط الآرامي والعربي يكتب من اليمين لليسار وتتصل الحروف ببعضها في الكتابة وتتشابه حروف عربية عديدة بالشكل والنطق مع الأصل الآرامي، حتى التشكيل والتنقيط فقد استعمله الآراميون قبل أن يستعمله اليهود والعرب.
حتى اليوم، إن العربي الذي يسمع خطابا أو حديثا باللغة العبرية يمكنه أن يفهم الكثير من الكلمات وحتى المعنى العام للموضوع، خصوصا إذا استبدل حرف السين بحرف الشين في العبري وحرف الحاء بحرف الخاء في بعض الكلمات. كذلك عند سماع حديث باللغة السريانية التي تستخدم بكثرة أحرف الثاء والذال بدل الدال والتاء، مما يؤكد أيضا على تطورهم من مصدر واحد.
لا تروق لبعض رجال الدين المسلمين النتائج التي وصلت إليها الدراسات العلمية حول أصل اللغة العربية، لأنهم يفضلون أن تكون هذه اللغة مستقلة وفريدة وولدت جاهزة دفعة واحدة بشكلها الراهن منذ البداية، ولأنهم يعتقدون أن قداسة اللغة العربية لا تنسجم مع كونها قد ولدت من لغة أخرى. كما أن التاريخ الحديث نسبيا لولادة اللغة العربية لا يتماشى مع ما يعتقده رجال الدين هؤلاء من أن عددا من الأنبياء كانوا يتكلمون العربية قبل قرون طويلة من التاريخ الذي يقول المؤرخون إن اللغة العربية قد ظهرت فيه.
لذلك، فإن بعض رجال الدين يرفضون فكرة خروج اللغة العربية من الآرامية، ويقولون إن التماثل بينهما ناجم عن تسلل عدد من المفردات الآرامية إلى اللغة العربية بفعل الجوار الجغرافي والتجارة، أو بأن هناك لغة عربية قديمة محكية ولكنها كانت غير مكتوبة فاستخدمت الأبجدية الآرامية للكتابة. لكن ذلك لا يفسر أسباب وجود نسبة كبيرة من المفردات المتماثلة في اللغتين، كما أن أوضح الأمثلة على عدم صحة ما يقولونه نجده في اللغة الفارسية، التي لا تزال تكتب بالأبجدية العربية منذ أكثر من ألف عام، ورغم ذلك فإن الخصائص الرئيسية لهذه اللغة لا تزال محتفظة بهويتها المتميزة واستقلاليتها، مثل مخارج الحروف المختلفة عن العربية أو أسماء الأرقام وأيام الأسبوع والأشهر والأغلبية المطلقة من المفردات التي لا تزال فارسية حتى اليوم، واقتصر التأثير العربي على اللغة الفارسية بعد كل هذه القرون على دخول بضع عشرات من الكلمات العربية إليها.
مع ظهور وانتشار الإسلام تم وضع قواعد دقيقة لنطق وكتابة اللغة الجديدة حتى اكتمل شكل اللغة العربية التي نعرفها اليوم
رغم اتفاق جميع المراجع التاريخية على أن اللغة الأم لبلاد الشام هي الآرامية وأنها كانت اللغة الرئيسية للثقافة والتجارة لكامل الشرق القديم، لكن عند الحديث عن منطقة الحجاز فإن الكثير من المؤرخين العرب والمسلمين يعتقدون أن اللغة المتداولة هناك منذ ظهور واستقرار البشر فيها كانت العربية، رغم أن أسماء كل المدن والحواضر في تلك المنطقة آرامية من مكة ليثرب للطائف للرياض وقصيم حتى قطر ودبي ونجران وعجمان وغيرها. ويقدم بعض رجال الدين المسلمين، وهم يحاولون اختراع أصل عربي لأسماء هذه المدن، تفسيرات مضحكة أحيانا، مثل القول: سميت مكة لأنها “تمكّ الجبارين أي تنزع نخوتهم”، بينما معناها بالآرامي “الأراضي المنخفضة” والذي ينسجم مع موقعها. أو القول إن اسم يثرب هو نسبة لاسم أول شخص سكنها “يثرب بن قانية!”، بدل المعنى الآرامي وهو مكان وجود الرب. كما أن أسماء الأعلام التي حافظت على وجودها في الحجاز حتى ظهور الإسلام مثل عمر وأبو بكر وعثمان وعلي وعفان وخطاب، أصولها أيضا آرامية، وأسماء الأحرف الأبجدية ألف باء.. كذلك آرامية، ومثلها الأعداد، وأسماء أيام الأسبوع والكثير جدا من المفردات.
نتيجة ندرة أو غياب الآثار أو الوثائق التي تتحدث عن تاريخ منطقة الحجاز منذ القرون التي سبقت ولادة المسيح حتى القرن السابع الميلادي، فإن دراسة تاريخ الأنباط قد تساعد على استكشاف بعض الجوانب الغامضة من تاريخ الحجاز، كما أنها تساعد في معرفة حقيقة العلاقة بين اللغة العربية والآرامية.
فالأنباط، هم قبائل بدوية كانت تنتشر في القرن السادس قبل الميلاد في المنطقة الممتدة بين الأردن الحالية والنقب وسيناء. أسسوا في القرن الثاني قبل الميلاد مملكتهم التي استطاعت فيما بعد احتلال دمشق ومحاصرة القدس ومد نفوذها لجنوب فلسطين والأردن وشمال الجزيرة العربية.
اللغة الواحدة هي أول وأهم الشروط لتشكيل هوية ثقافية محددة لأي شعب، وهي وعاء الفكر للناطقين بها
كان هناك انطباعات قديمة بأن أصول الأنباط تعود لليمن، ولكن الدراسات الحديثة أشارت إلى أنه لا يوجد أي قواسم مشتركة بينهم وبين جنوب الجزيرة العربية لا من ناحية اللغة ولا من ناحية النصوص، والرأي السائد اليوم أن أصولهم تعود إلى منطقة الحجاز حيث يشتركون معها في جذور أسماء قبائلهم وأسماء أغلب ملوكهم مثل الحارث وعبادة ومالك، كما كان الأنباط يعبدون نفس الآلهة التي عبدها سكان الحجاز مثل اللات والعزى ومناة وهبل وذو الشرى وهو أكبر الآلهة أو إله الشمس الذي مثلوه على هيئة حجر أسود، بالإضافة لقرب الأنباط وتواصلهم الجغرافي مع الحجاز، حتى أن عاصمتهم الثانية مدائن صالح تقع شمالي السعودية في منتصف المسافة بين المدينة المنورة وتبوك. كما أن أحدث نص مكتوب باللغة النبطية يعود للسنة 356 ميلادي وجد في الحجاز، وكانت حياة الأنباط تعتمد على التجارة، حيث بدأوا كحماة للقوافل إلى أن تحولوا مع الزمن إلى أصحاب تجارة واستقروا في مراكز حضرية، وعلى خطاهم سار فيما بعد إخوانهم سكان الحجاز.
تكلم هؤلاء الأنباط خلال القرون الأولى اللغة الآرامية، وكانت كل كتاباتهم والنقوش التي تركوها من هذه اللغة، فيما بعد تميزت لغتهم قليلا على شكل لهجة نبطية من اللغة الأم الآرامية ولكنهم استمروا باستخدام الأبجدية الآرامية في الكتابة. خلال القرون اللاحقة تابعت كتابتهم تطورها وتمايزها التدريجي عن الآرامية إلى أبجدية نبطية أصبحت في القرن الخامس الميلادي طليعة الأبجدية العربية.
سار الحجاز على نفس هذه الخطوات من الآرامية حتى طليعة اللغة العربية، بسبب قربه الجغرافي وتمازجه الثقافي مع الأنباط. ومع ظهور وانتشار الإسلام تم وضع قواعد دقيقة لنطق وكتابة اللغة الجديدة حتى اكتمل شكل اللغة العربية التي نعرفها اليوم.
اللغة الواحدة هي أول وأهم الشروط لتشكيل هوية ثقافية محددة لأي شعب، وهي وعاء الفكر للناطقين بها، ومع التجاور الجغرافي واللغة المشتركة والروابط الاقتصادية والتجارية فإن بلاد الشام والحجاز كانت ساحة اجتماعية وثقافية وفكرية واحدة. كما أن المعتقدات الدينية كانت متقاربة بين المنطقتين، فالمسيحية التي ولدت في بلاد الشام انتشرت في الكثير من مناطق الحجاز حتى في مكة مثل بني جرهم وبنو الأزد وبنو خزاعة وبعض أسر قريش مثل ورقة بن نوفل. كذلك، كانت الديانة اليهودية موجودة في أغلب مدن بلاد الشام، ووجدت أيضا في المدينة، مثل بني قريظة وبني النضير وبني القينقاع، ولذلك فإن القول بأن الحجاز في الفترة منذ ما قبل المسيح حتى قبيل الدعوة الإسلامية كان آراميا ليس بعيدا عن الواقع.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال