الإحساس بالوحدة غريب وكل ملذات الحياة لا تطيب
يتراءى الجنون من شدة الفراق والآهات
من هي الملكة في حياة الشاعر ؟
عصمت شاهين دوسكي
الجزء 12 الأخير
من خلال قراءتي لديوان الموت والميلاد للشاعر الكبير إبراهيم يلدا كنت أسأل نفسي بعد كل دراسة أدبية لقصائده المتنوعة أين الحب في قلب الشاعر وروح الشاعر ولا أقصد الحب العام الذي يتجلى في قصائده بل الحب الإبراهيمي ، الذي يدغدغ المشاعر ويلمس شغاف القلب ورقة الروح ويحير الوجدان ويهمس للضمير الولهان ليل نهار ويستبيح الوله لكل الأشجان ، ليل نهار في وحدة بعيدة مغتربة ، أين الشوق الذي يهيم فيه مع الخيال الخلاق ؟ أين الحرمان والوجع العميق ونسائم عطر الحبيب ؟ أين الحنين الذي يرسو مع أمواج الآهات ؟ أين الرقة بين لوعة البعد والقرب ونبض الأنات ؟ أين الوجع الرومانسي وسيل العبرات ؟ لا أخفيكم أمرا في نهاية كل دراسة أدبية وفكرية لقصائده أقول ربما ستأتي ، وانتظرت وصبرت إلى أن وصلت إلى أبواب قصيدته الجميلة الحالمة العاشقة ” متى تصل الرسالة ؟ ” تنفس الصعداء فقد أتى في ملعبي الخاص في الحب والإحساس والمرأة ، وأخيرا سأستمع إلى نبضات قلبه وشجن روحه وصمت همساته وقوة حيرته وانين عذابه ولوعة أعماقه فمن يحركه الحب يحمل قلبا حساسا عظيما ومن يعاني ويتألم من اجل الحب قلب أرق وأعظم ، خاصة حينما يكون الحب والحنين إلى الملكة ” شميرام ” هذه الملكة التي تحملت الكثير وصبرت وعانت العمر كله وعملت من أجله وضحت بالغالي والنفيس ، فمن سفر لسفر ، ومن غربة لغربة ، ومن عناء لشقاء ، ومن حرمان ومأساة ، ومن أحلام وآلام وجراح ومكابدات وسفر طويل بين العراق وانكلترا ، بين الاغتراب والاقتراب بين رؤى الأحضان والسراب ، هذه المدينة الكبيرة انكلترا لا يتحمل فيها قلب الشاعر إبراهيم يلدا الوحدة المتعبة والغربة الموحشة والاكتئاب الذي يداهمه بغياب الملكة ” شميرام ” .
(( مر يوم ، أسبوع ، شهر لا رسالة تأتيني
من قريب او صديق ولا حتى من الجار
سأغفر لهم جميعاً إلا زوجتي
رسالتها وسام من الحب أغلى من الذهب
وحدي اجلس كل يوم وأنا أتصفح الكتاب
حرمت على نفسي الملذات وبذلت قصارى جهدي
من اجل تحقيق الهدف المنشود )) .
التحمل والصبر والحرمان وانين الروح أحيانا يدفعه للانزواء حيث حياته في البعد خالية من الراحة والصفاء الملكة ” شميرام ” في حياة الشاعر إبراهيم يلدا ملكة كل شيء حتى تركته ذات يوم وحيدا مغتربا وسافرت إلى بغداد وهو يحتاج إلى السفر ، إحساسه بالوحدة غريب ومن كل ملذات الحياة لا يطيب ، بعيد عن الملكة وبناته وطفله الرضيع بسبب الدراسة والطموح والثقافة والعلم والتطلع نحو حياة أفضل ، ليروي ظمأه من العلم على الرغم من كل الآلام والأوجاع والجراح ، ينشد حلما جميلا وأملا حليما على الرغم من أن الزوج الشاعر العاشق يشعر باليتم في بعد ملكته وحبيبته ” شميرام ” يفكر فيها ، يحزن لبعدها ، ففي بعدها تنقطع الأوصال ويهيم مع كل هيام لكن كطائر يرقص من شدة الألم بلا معين للطيران في فضاء واسع كبير ” كأنني طائر مكسور الجناح ” بهذا الإحساس الجميل يشعر إبراهيم يلدا في غربة عميقة مع حياة مضيئة صاخبة سحيقة.
(( بعيدا عن زوجتي وبناتي وعن الطفل الرضيع
لا ادري ، إن كانوا فرحين أم في حزن شديد
خطيئة كبيرة تقدمين عليها أيتها الزوجة العزيزة شميرام
لأنك قطعت أوصالي مع كل صديق
وكأنني طائر مكسور الجناح )) .
حتى عتابه حب ومن الحب ما قتل ، وكأنه طفل صغير يناجيها عن بعد في وحدته وغربته ويسألها على الرغم من طول المسافات وسعة البحار وشموخ الجبال وهول الذكريات ” كيف له أن يحمي نفسه وهو في وطن غريب ؟ “ومن يثير شوقه وحنينه ووجده ؟ فعدم وصول رسالة منها تريح الروح وتهدئ الجروح وتقضي على القلق والحيرة وضجيج الممنوع والمسموح ، فالانتظار والترقب لوعة وشجون وإن فاض حنينه يسير إلى الجنون ” إن لم أكتب له سيسير في خطاه نحو الجنون ” خياله الخلاق شغله الشاغل ملكته البعيدة ” شميرام ” وبناته وطفله الرضيع ، كيف يخلص من الشقاء إن لم يصل نبأ منك في لحظة بيضاء ؟ .
(( كان من الأجدر بك ان تفكري
كيف له ان يحمي نفسه وهو في وطن غريب
الم تسألي نفسك وقلت :
ان لم اكتب له سيسير في خطاه نحو الجنون
من أجلكم لا يفارق خيالي التفكير
ما لم تكتبي لي ولو كلمة لتريحي نفسي
فلا خلاص لي من الشقاء )) .
ومن الجنون أن يسال الشاعر المتيم أسئلة تثير الإعجاب وتتجلى في محراب الاستغراب ، كأنه في الغربة يرثي روحه بحبيب وقلبه الجريح برحيق مسك وطيب ” تذكري أنا زوجك ” ممزوج هذا التساؤل بالبحث والحث والإيحاء في كتابة رسالة ليطمئن من خلالها على ما كان ويكون ” استيقظ على أمل أن تصلني رسالة منك ” تعتريه الخيبة والحزن والألم عندما يركض ويجوب الأرض ولم يجد شيئا ، هذا التصور المرتقب والتفكير بالانتظار معذب في الوصول واللا وصول جنون حتى أضحى من المتيمين الهائمين الحالمين والمساكين الحالمين والعاشقين الحائرين لهمس ثغر ” شميرام ” وعلى الرغم من وجود جوهر المجهول والغائب وغير غائب في العلة والمعلول قلبه المحب يغفر لها ” فأغفر لك من جدد ” لأنه إنسان شاعر واع ناضج فمن يحب بصدق يغفر ويسامح وهذه من صفات العظماء .
(( تذكري أنا زوجك
أب لبناتك الجميلات يا عزيزتي
ففي كل صباح استيقظ
على أمل ان تصلني رسالة منك
مسرعا اركض وعيناي تجوبان الأرض
فحين لا أجد خبرا أعود خائبا
من جديد أتقمط التفكير
وأقول ربي إني لم اخطئ
وأنا أتأمل الغد علني أحظى منك بخبرٍ
فاغفر لك من جديد )) .
لكن القلق يوسوس في أحشائه ، يثير موجة الحنين والشوق والأنين وهذه الموجة ليست نقمة بل نعمة ” لأن حبي لا يزال على العهد ” مهما طال الترقب والانتظار وأثارت فيه الآهات والأنات وعلى الرغم من كثرة المتناقضات وشدة المأساة لم ينس ملكته ” شميرام ” ومن لوعة الحب والشوق والبعد يتوسل أن لا تنساه ” لم أنسك ، أملا أن لا تنسينني أنت ” فالملكة ” شميرام ” مثلما تدفعه وتحفزه للطموح والسعادة والحياة والحلم وتحقيق الأهداف كذلك تدفعه في الغربة والوحدة على الرغم منها إلى الجنون ” يا من دفعتني للجنون ” إيمانه بوجودها جميل لكن حبه عشقه أجمل .
(( خبر لأطمئن
إنكم بخير ولا زلتم تتذكرونني
رغم انك من زمن لم تكتبي لي
إلا أن حبي لا يزال على العهد
أملي أن نلتقي قريبا
أيتها الحبيبة لأني انتظرتك طويلا
لم أنسك ولو لدقيقة أملا أن لا تنسينني أنت
يا من دفعتني للجنون )) .
ومثلما تزداد في الأزمات والحروب والنكبات الإيمان والقرب أكثر من الله ، يزداد في البعد والوحدة والفراق والغربة الحب واللوعة والهيام ، الحب الذي يعتبر توأما روحيا وفكريا وحسيا ، الحب الذي يتجسد بخبر في رسالة بين السطور ولهانة وأشجان من الحنين والانتظار تعبانه ، إنه صوت الضمير الإنساني الذي يعشق الحياة خلال ملكة ” شميرام ” ويحس بالوجود من خلال حبها وتضحيتها وتحملها وصبرها مؤكدا المشاركة الفعلية في الحياة الاجتماعية والفكرية في عصر متغير دائما وفي عالم لا يسكن على حال في كل الأحوال .
(( شميران اكتبي لي رسالة كيفما كانت
وأنا سأكتب في كل أسبوع
لأطمئن لا يزال قلبك معي
ولم يفارقني خيالك
ربما لا تصدقي إن قلت
حبي لك يزداد يوما بعد آخر )) .
ومن هذا يتراءى جنون الشاعر إبراهيم يلدا في الحب وآهاته في الفراق ومأساته في القرب والبعد ولوعته نلاحظ اليتم والحماس وصراع في داخله مع جذوة الإحساس دون الاختلال في القيم وحرقة الأنفاس ، إنه حب عذري بان صراعات الحياة المضطربة ، وإن عرضوا حينها ملكة أخرى ذات جاه ومال وحسب وفضل من الإحسان وأموال الدنيا ونفائس الكنوز ، ويلحون عليه بقبول الجنان والصروح سيأبى متعففا متأنقا بالرغم من رقة حاله وحاجته الشديدة في الغربة ألعميده ، فالملكة ” شميرام ” هي الوجود والكنوز والنفائس والحياة إن وصلت الرسالة أو لم تصل .
****************************************************
الرؤيا الإبراهيمية بين الموت والميلاد – الجزء 12 الأخير – طبع في أمريكا وفي مدينة
Des Plaines
دسبلين ،،، الينوي،،،، ,في مؤسسة
Press Teck .. بريس تيك . 2018 م