الجيش اللبناني لم ينتصر في معركة جرود بعلبك والقاع شرق لبنان وحسب، بل شكل انتصاره نقطة تحول غير مسبوقة في تاريخ المؤسسة العسكرية، وفي توازن القوى بين الدولة اللبنانية وميليشيا «حزب الله».
في طليعة القلة القليلة التي تنبهت لهذا الملمح، كانت ميليشيا الحزب، التي احتكرت التفوق العسكري منذ ما بعد اتفاق الطائف وقفزت به قفزات جبارة منذ حرب يوليو (تموز) 2006 ولاحقاً مع دخولها في الحرب السورية إلى جانب نظام بشار الأسد. أدرك قادة الميليشيا الميدانيون والعسكريون أنهم أمام مؤسسة عسكرية، بإمكاناتها وخبراتها وكفاءتها وعقيدة ضباطها، مختلفة تماماً عن كل ما خبروه قبلاً. لا يرغب في، أو لا يقدر على تصديق هذه الصورة المنبعثة من جرود بعلبك والقاع، لبنانيون كثر وعرب أكثر، ما زالوا عالقين في تصور يعتبر الجيش اللبناني مجرد تابع لميليشيا «حزب الله»، وهذا مفهوم، أخذاً في الاعتبار حداثة هذا التطور الطارئ، كما تاريخ الصورة التي ارتسمت عن الجيش اللبناني وتواضع إمكانياته أو عاديته في أحسن الأحول. وجلهم لم ينتبه إلى ما تنبه له «حزب الله» الذي سارع إلى الدخول في سباق مع الجيش وعملية «حصر إرث» مكثفة للانتصار، حدت بأمين عام ميليشيا «حزب الله» للظهور المتكرر خلال المعركة وإغراقها بتصريحات وبيانات مفادها التقليل من معنى انتصار الجيش، والطعن في استقلاليته عن «حزب الله»، والمبارزة العقارية معه بالأمتار المربعة حول ما حرره الجيش وما حرره «حزب الله».
كما أن التعبئة الإعلامية الكثيفة لميليشيا «حزب الله» العاملة منذ سنوات على صناعة «أسطورته» لا تقارن بحداثة الماكينة الإعلامية العسكرية وضعف القدرات الترويجية لتغيير الصورة النمطية عن الجيش، ما أسهم ويسهم هو الآخر في الحذر اللبناني والعربي تجاه تصديق صورة الجيش اللبناني الوليدة.
أسباب كثيرة أسهمت في هذه النقلة الاستراتيجية للجيش اللبناني أبرزها:
* الدعم الأميركي المباشر بالعتاد والخبرات والتخطيط، والدعم البريطاني التكنولوجي الذي برز منه تجربة أبراج المراقبة على الحدود والطائرات من دون طيار التي تنقل بثاً حياً لكل وقائع الحدود اللبنانية بصورة شديدة النقاء والدقة، على مدار الساعة، في خلال المعارك وقبلها وبعدها.
* صعود جيل جديد من الجنرالات ممن قاتلوا قتالاً شرساً في بدايات تجاربهم العسكرية، وهم من يقود اليوم معارك جرود بعلبك والقاع. لا يحمل هذا الجيل الجديد أي عقد تجاه أي ميليشيا على عكس من سبقوه ممن روضتهم ظروف الحرب الأهلية اللبنانية وكونت لديهم درجات عالية من الحذر والنأي بالنفس عن الميليشيات القوية التي خبروها من الميليشيات الفلسطينية إلى الميليشيات اللبنانية التي تسيدت مشهد الحرب الأهلية.
* ربطاً بالملاحظة السابقة، فإن تركيبة الجيل الجديد الذي يقود الجيش اليوم، يعلو فيها المنسوب العسكري المهني عن المنسوب السياسي الذي ميز من سبقهم. الأخيرون كبروا في ظل الوصاية السورية، التي أضعفت معظم مؤسسات الدولة اللبنانية، ومنها الجيش، وحولت الأخير إلى مصنع لرؤساء الجمهورية.
* عملية الإصلاح العميقة والصامتة التي جرت وتجري لتفكيك مراكز القوى داخل المؤسسة العسكرية وإعادة بنائها، على أسس هرمية كلاسيكية، ووحدة قيادة لا تتيح أي نوع من أنواع الاستقلالية لأي جهاز داخل الجيش، ليكون أكبر من مؤسسته، كما حصل في فترات مثلاً مع مؤسسة مخابرات الجيش.
نحن بإزاء بدايات تحول، وبدايات قطف نتائجه، أياً تكن الاعتبارات التي رافقت معركة الجرود في ربع الساعة الأخير، والتباس النصر الكبير الذي حققه الجيش مع تفاوض شاركت فيه ميليشيا «حزب الله» وجعلت منه بكفاءة إعلامية كبيرة كل الصورة، فيما هو تفصيل صغير جداً جداً في لوحة أكبر وأهم. الحقيقة أن ميليشيا «حزب الله» ما كانت راغبة في رؤية انتصار نظيف للجيش، لا يشوبه تنسيق مع «حزب الله»، فكان أن طرح نصر الله في الإعلام وبشكل محرج للجميع مسألة المعلومات التي يمكن الحصول عليها من «داعش» لكشف مصير الجنود المختطفين، وحاول بهذه المناورة اختطاف الإنجاز الذي حققه الجيش اللبناني، ونجح جزئياً…
لكننا، كما أسلفت، في بداية تحول عميق وكبير.
منذ عام 2005 حتى الأمس القريب، انقسمت السياسة اللبنانية واتجاهات الرأي العام بين محور الثامن من آذار والرابع عشر من آذار. بعد سنوات صعبة بقي من الثامن من آذار أصلها أي سلاح ميليشيا «حزب الله» وجمهورها. وبقي من الرابع عشر من آذار أصلها، أي فكرة الدولة ومشروعيتها.
خط الانقسام الجديد الذي سينمو ويكبر هو الخط بين الميليشيا والجيش بما هو كناية عن الدولة.
قد يكون من الحكمة عدم المبالغة بتظهير انتصار الجيش، وبلع الالتباس الذي أوصلت إليه مناورة ميليشيا «حزب الله» في ربع الساعة الأخير. فالمطلوب ليس التسريع بالتصادم بين الجيش وميليشيا «حزب الله»، بل التسريع في الإدراك السياسي والوطني والعربي لهذا المعطى الجديد وتحصينه والبناء عليه بهدوء.
«حزب الله» يدرك حقيقة هذا المعطى ويتعامل معه بمحاولات حثيثة لتنفيسه وتصغيره كي لا يضطر لدفع أكلاف الاصطدام به. وذلك بعد معركة جرود بعلبك والقاع ليس كما قبلها، حتماً.
المصدر:الشرق الاوسط
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **بقلم سرسبيندار السندي
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **بقلم سرسبيندار السندي
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **بقلم سرسبيندار السندي
- ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.بقلم مفكر حر
- ** تساءل خطير وحق تقرير المصير … هل السيّد المَسِيح نبي أم إله وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- ابن عم مقتدى الصدر هل يصبح رئيساً لإيران؟ طهران مشغولة بسيناريو “انقلابي”بقلم مفكر حر
- ** ما سر تبرئة أل (سي .آي .أي) لبوتين من إغتيال نافالني ألأن **بقلم سرسبيندار السندي
- المجزرة الأخيرةبقلم آدم دانيال هومه
- ** بالدليل والبرهان … المعارف سر نجاح ونجاة وتقدم الشعوب وليس الاديان **بقلم سرسبيندار السندي
- رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسيةبقلم طلال عبدالله الخوري
- كيف تفكك مجتمعا ما وتدمر حاضره ومستقبله؟بقلم علي الكاش
- مباحث في اللغة والادب/ 78 وسامة الرجل في التراثبقلم مفكر حر
- دراسة موجزة عن ديوان (فصائد في قصيدة واحدة) للشاعر والأديب ميخائيل ممو.بقلم آدم دانيال هومه
- ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- ** لماذا الإطاحة بالنظام الايراني … غدت ضرورية غربية ودولية **بقلم سرسبيندار السندي
- الحزب الشيوعي لايختلف عن الاحزاب الدينية الفاشية .. الداخل مفقود والخارج مولودبقلم مفكر حر
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **
أحدث التعليقات
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on علماء النصارى كانوا يتسمون اسماء اسلامية
-
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **
-
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **
-
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **
-
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **
-
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **
-
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **
-
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **
-
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **