لم أكن أبدًا في صف ناقدي مؤتمر غروزني، ولم أبالِ بالتعليق عليه، لأنه مجرد مؤتمر آخر من عشرات الندوات الحكومية التي تعقد كل عام، وهو أقلهم أهمية لأن راعيه هو رئيس الشيشان، المعين من الكرملين، الذي جمع حشدًا انتقاهم من «علماء الإسلام». ورأيي إذا أردت أن تحارب التطرّف لا تجعله محاورًا ولا تنحَز لأي جماعة دينية، ولأنهم يتشابهون يتنافسون.
وبعد أن قرأت مقال الأستاذ أحمد عدنان في صحيفة «العرب» اللندنية، تحمست لخوض النقاش بعد أن حوله إلى جدل سياسي صرف. وفي رأيي خير ما كتب عن المؤتمر هو للدكتور رضوان السيد في صحيفة «الشرق الأوسط».
والحقيقة كاد المؤتمر ألا يدري به إلا أهل الشيشان الذين يتفرجون على التلفزيون الحكومي لولا صراخ المستبعدين من السلفيين والإخوان، مرتادي المؤتمرات السياحية، الذين روجوا له بصراخهم وتحريضهم ضده. والمعترضون مثل المعترض عليهم، هم أيضًا يعقدون مؤتمرات يستبعدون منها من لا يتفقون معه.
وأختلف مع الكاتب عندما قرر أن المرجعية الدينية السنية في العالم هي الأزهر، لسببين؛ تاريخي وآخر «ثيوسياسي»! بداية السنة لا مرجعية لهم، بخلاف الشيعة، مثل الكنيسة الكاثوليكية في المسيحية، لديهم «مرجعية معصومة إلهيًا»، أما السنة فلا يؤمنون بوحدانية المرجعية ولا بالعصمة، وبالتالي فالأزهر نعتبره مدرسة دينية سنية لها وزن كبير في العالم الإسلامي، لا هي ولا غيرها أحكامها تعتبر مرجعًا لنحو ألف مليون مسلم سني منتشرين في العالم.
في الوقت نفسه أتفق معه بأن المرجعية السياسية الدينية للسنة هي المملكة العربية السعودية، لمكانة الحرمين واهتمام الدولة بهما. وفي فترات تاريخية كان الأزهر مرجعًا عندما كان ممثلاً للعثمانيين، للسببين نفسهما، لأنهم حكموا المنطقة بما فيها الأراضي الحجازية، واعتبار الدين شأن السلطنة. والذي قلل من دور الأزهر سياسيا ليس سلفيي السعودية، كما يلمح الكاتب، بل الدولة المصرية نفسها، عندما قزم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كل مؤسسات الدولة الدينية، لصالح الفكر الاشتراكي.
الكاتب زايد على مؤتمر الروس عندما حسم جدل الإرهاب واعتبره صنيعة سلفية. ولا أحد ينكر إشكالية التطرّف، وخطورة منتجاته الفكرية الإرهابية، لكن حصره في فرقة واحدة أيضًا فيه تزوير للتاريخ الذي نعيشه اليوم. من حيث المبدأ تترك السلفية التقليدية، كما في السعودية، السياسة للسياسيين، وتمتنع عن إقحام علماء الدين في السياسة. وتعتبرها من مسؤوليات ولي الأمر، أي الحاكم، الذي يحاسب عليها أمام الله يوم البعث، ويأخذ بعدها كل كتابه بيمينه أو يساره. لكن الذي حدث أن مفاهيم السلفيين في العقود الأربعة الماضية استهدفت بالسخرية والضغوط، وتغيرت جراء اختلاطهم بجماعات سنية أخرى، أبرزها الإخوان المسلمون، الذين إضافة إلى إفراطهم في تكفير مخالفيهم، بنوا نظرية متكاملة للحكم السياسي تقوم على مفهوم دولة دينية مماثلة للفكر الشيعي الإثنى عشري، ذي المرجعية الواحدة، وصار لهم مرشدهم أيضًا.
السلفيون جماعة بسيطة اجتماعيًا وساذجة سياسيًا، لكن الإخوان جماعة مسيسة عينها على السلطة. وكل مسار العنف الذي رأيناه وعايشناه إلى اليوم جاء من هذه الجماعات، التي تبرأت السلفية التقليدية مبكرًا منها، رغم تشابه المسميات ببعضها، مثل «السلفية الجهادية»، التي لا علاقة لها بهم. وعندما يظهر متطرف مثل علي بلحاج، من الجزائر، رافعًا هوية فضفاضة مثل «أهل السنة والجماعة» فإنه يعم بذلك كل السنة، لكننا نعرف أن بلحاج رجل متطرف فكريًا مثل أسامة بن لادن السعودي وأيمن الظواهري المصري، والثلاثة لا يمتون للسلفية التقليدية بشيء، بل أقرب فكريًا إلى «الإخوان المسلمين».
والكاتب اللامع انتخب الأزهر مرجعية، لأن سلفيي السعودية في نظره تكفيريون إقصائيون، وهو نفسه أقصاهم عندما كتب يقول إنهم ليسوا بسنة علميًا وعقديًا! ألغى الكاتب ملايين من المسلمين، لأنه وجد تصريحات لبعضهم تكفر الصوفية، أو تتبنى طروحات إقصائية. وهو محق في أن بعض منتسبي العلم، وبينهم من كبار علماء السلفية السعودية وغيرها، تكفيريون ولا بد من مواجهتهم، لكن التعميم خطأ، وحصر المشكلة في السلفيين والسعوديين لا يحل المعضلة التي نواجهها اليوم جميعًا. نحن ضد التطرّف، وضد التكفير، وضد تكبير دور رجال الدين في المجتمع والدولة.
وفي الأزهر علماء أفتوا بالتكفير، والقتل أحيانًا، هؤلاء ليسوا سلفيين ولا سعوديين. الشيخ الأزهري أحمد كريمة، نفسه، الذي يتزعم حملة الإنكار على السلفيين، تكفيري. فقد وصف السعوديين والإماراتيين عمومًا بالبغاة، وأن قتلاهم في النار! وآخر من كبار علماء الأزهر كفر كل السلفيين، وفي الوقت نفسه اعتبر الحشيش والأفيون ليس من نواقض الوضوء! وللأزهريين أحكام لا تقل شذوذًا عن متشددي السلفية، حيث سبق للأزهريين وطلقوا الشيخ علي يوسف من زوجته بدعوى عدم تكافؤ النسب، وأحدهم أجاز رضاعة الكبير. وحتى أختتم هذا المفاضلة الغريبة بين السيئين أقول له هل تعلم أن الأزهريين، كانوا فيما مضى يكفرون من يحصل على جنسية أجنبية؟ الحقيقة هي أن الجهل والتطرف ملة واحدة، ليست خصلة خاصة بالسلفيين أو الأشاعرة، ولا السنة أو الشيعة، ولا المسلمين أو غيرهم.
* نقلا عن “الشرق الأوسط”