لم يحدث في التاريخ أن شعباً حُكم من قبل سلطتين أو حكومتين في ذات الوقت، إلا وهو تحت الاحتلال أو الغزو الأجنبي. الحرب السورية، المستمرة منذ أكثر من ست سنوات، بمفاعيلها وتداعياتها المختلفة، افرزت وضعاً (سياسياً ومجتمعيا) شاذاً واستثنائياً بكل معنى الكلمة . منذ أن تفجرت هذه الحرب وسكان غالبية مناطق (الجزيرة السورية) يعيشون بين مطرقة “حكومة كردية”، ممثلة بما يسمى “الإدارة الذاتية”، وسندان “حكومة دمشق” المركزية. سلطة “الأمر الواقع” الكردية، تتصرف كما لو أنها هي “السلطة الشرعية” وبأن حكومة دمشق هي “سلطة احتلال”. هذا الوضع الشاذ، اربك الحياة العامة والخاصة، و رفع منسوب الاحتقان، العرقي والطائفي والسياسي، في مجتمع الجزيرة، الذي يتصف بالتنوع (العرقي والديني واللغوي والسياسي والقبلي). استمرار هذا الوضع الشاذ ، قد يفجر نزاعاً عرقياً مفتوحاً وحرب كارثية بين “قوات النظام” والميليشيات الموالية له، من جهة أولى، وقوات “حماية الشعب الكردية” والميليشيات الملحقة بها، من جهة ثانية. النظام، وعلى لسان رئيسه (بشار الأسد) والعديد من قياداته العسكريةوالسياسية، أكد مراراً على تحرير كامل الاراضي السورية ووضعها تحت سلطة وسيادة الدولة ورفض اي شكل من اشكال الفدرالية واللامركزية أو التقسيم . بالمقابل (حزب الاتحاد الديمقراطيpyd) الكردي، الذي يدير “الادارة الذاتية”، كما لو أنه في سباق مع الزمن السوري، لجهة قضم وجود الدولة السورية بمختلف مؤسساتها في المقاطعات الثلاث الخاضعة لسيطرته( الجزيرة- الفرات- عفرين) في الشمال الشرق السوري.
النظام و حزب pyd لا يراهنان على قدراتهما الذاتية في تحقيق ما يصبوان اليه من أهداف سياسية وعسكرية، وإنما الرهان الأساسي هو على الحلفاء والاصدقاء الفاعلين في الأزمة السورية. النظام السوري، رغم تفوقه العسكري الكبير على قوات حماية الشعب الكردية وتواجد قوات مدرعة له في كبرى مدن الجزيرة(القامشلي والحسكة)، لن يتجرأ ضرب القوات الكردية والهجوم عليها ، ما لم يوافق على ذلك حليفه الروسي ، باعتبار الجزيرة من ضمن مناطق النفوذ الامريكي ،حيث توجد فيها أكثر من قاعدة عسكرية امريكية. بالمقابل ، قوات حماية الشعب الكردية، غير قادرة على الخوض حرباً مع قوات النظام من دون موافقة ومساعدة حليفها الامريكي، الذي مازال يؤكد حتى الآن على أن دعمه العسكري لـ(قوات سوريا الديمقراطية) ،عمادها الاساسي (قوات حماية الشعب الكردية)، هو فقط لأجل القضاء على “تنظم الدولة الاسلامية- داعش الارهابي”. تعقيدات المشهد السوري بشقيه (السياسي والعسكري) وكثافة التدخلات الخارجية(الاقليمية والدولية) في المشهد ، من غير أن ننسى المصالح الاستراتيجية لأمريكا في المنطقة، قد تقتضي استمرار الوجود “العسكري الامريكي” في الجزيرة (محافظة الحسكة)، الحيوية بموقعها الاستراتيجي وبثرواتها الهامة من نفط وغاز وزراعة، لسنوات أخرى. ربما الى حين التوصل الى حل نهائي للمعضلة السورية وتسوية جميع الملفات والقضايا العالقة والمؤجلة لما بعد القضاء على داعش ( مستقبل بشار الأسد، ملف الاقليات ، المهجرين والمعتقلين). هذا، ما لم تخف أمريكا(على الأقل كردياً)ما هو أخطر مما نراه اليوم من دعم عسكري ولوجستي مفتوح لـ(قوات حماية الشعب الكردية) بذريعة “محاربة الارهاب” ؟.
تجنيب الجزيرة السورية “حرباً كارثية”، (دقت طبولها) مع انطلاق “معركة ديرالزور” وتنافس القوى المتصارعة على تركة “تنظيم الدولة الاسلامية” ، متوقف على التوافق بين اللاعبين الرئيسيين في الازمة السورية ( الروس والامريكان) وقدرتهما أو بالأحرى رغبتهما الحقيقية في الحيلولة دون حصول حرباً بيناتباعهما (أدواتهما) على الارض السورية. حتى الآن، لا يبدو للروس والامريكان مصلحة في التصادم العسكري بين قوات النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية. فمثل هذا التصادم قد يخلط اوراق “اللعبة السورية” ويقلب الطاولة على راس الجميع ويُخرج الصراع السوري عن السيطرة ويتوسع الى حرب اقليمية مفتوحة. فتركيا، المتوجسة من نمو الحالة العسكرية الكردية في سوريا و المنطقة والأكثر قلقاً من الدعم العسكري الأمريكي لـ”قوات سوريا الديمقراطية”المقادة كردياً، دفعت بجيشها للتوغل في عمق الاراضي السورية ، دعماً لفصائل “الجيش الحر” المعارض، بهدف منع “قوات حماية الشعب الكردية” من التوسع و التمدد غرباً حتى عفرين ذات الغالبية الكردية وضرب اية محاولات لإنشاء “كيان كردي” على حدودها الجنوبية مع سوريا. تجدر الاشارة هنا الى أن، طائرات حربية تركية نفذت فجر الثلاثاء 25 نيسان 2017، غارات على أحد المواقع الرئيسية لوحدات حماية الشعب YPG في جبل كراتشوك، أقصى الشمال الشرق السوري ، رغم وقوع الموقع بالقرب من (القاعدة العسكرية الجوية الامريكية) في رميلان. من هنا علينا أن نفهم، الحرص الشديد الذي يبديه (حزب الاتحاد الديمقراطي pyd – الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني pkk- تركيا) على عدم منح الذريعة، التي يبحث عنها السلطان العثماني ( اردوغان)، لضرب أكراد سوريا ونقل حربه على الـ pkk الى داخل الاراضي السورية . فالقضية المركزية لحزب العمال الكردستانيهي “قضية أكراد تركيا” في حين قضية الأكراد السوريين هي ثانوية أو بالأحرى (تكتيكية) في خدمة قضية الحزب المركزية. في ضوء هذه المعطيات السياسية والعسكرية ، يستبعد” التصادم العسكري” بين قوات النظام وميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي . لكن اصرار النظام على عودة سوريا، كما كانت “دولة مركزية” تحت سطلته، ورفض حزب الـ pyd التخلي عن المكاسب (السياسية والعسكرية) التي حققها خلال سنوات الحرب ،يجعل الاقتتال وارداً جداً بين حلفاء الأمس، ما لم يعمل الروس والامريكان على نزع فتيل الحرب المؤجلة بين قوات الpyd والجيشالسوري، من خلال إجبارهما على الجلوس معاً والاتفاق على (حل سياسي) للمناطق التي يسيطر عليها الجناح العسكري لـ pyd (قوات حماية الشعب الكردية).
في إطار التحضير للمرحلة المقبلة والتخفيف من حالة الاحتقان ووقف (طبول الحرب) في مجتمع الجزيرة، التقى (وفد عسكري روسي) مع ( مجلس الكنيسة السريانية الارثوذكسية) بالقامشلي. تمحور اللقاء حول الدور المنتظر للكنيسة السريانية الارثوذكسية أن تلعبه في المصالحات الوطنية التي يريد الروس العمل عليها قريباً في منطقة الجزيرة ،خاصة بين (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكرديو(النظام السوري). من غير أن يوضح الوفد الروسي الأسس التي ستقوم عليها مثل هذه المصالحة، وفيما إذا كان المطلوب من ميليشيات الحزب تسليم المؤسسات والدوائر والمدارس الحكومية التي سيطرت عليها وتسليمها للدولة السورية ، كذلك تسليم سلاحها الثقيل للجيش السورين لقاء بعض المكاسب السياسية والامتيازات الاقتصادية والادارية يمنحها النظام للأكراد السوريين. أخيراً: لقاء الوفد العسكري الروسي مع مجلس الكنيسة السريانية ، لا يخلو من “رسالةسياسية”. ربما اراد الوفد تطمين (السريان الآشوريين) ومن خلالهم عموم مسيحي الجزيرة بأنهم (الروس) قادمون الى جزيرتهم.
باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات
المصدر ايلاف