تمس حاجة السوريين إلى قيادة بصيرة وحازمة تمسك بدفة سفينتهم وتأخذهم إلى شاطئ السلامة، إلى انتصار ثورتهم الغارقة في مشكلات كثيرة، معقدة ومتشابكة، بينها مشكلة افتقارهم إلى قيادة تعي موقع قضيتهم من العالم، وتجسدها في سلوكها المستقل ورؤيتها المتفقة وواقعها، وتعمل لتحقيق أهدافها، مهما كانت درجة تضاربها أو تنافرها مع أهداف الدول التي تتصارع أو تتدخل في بلادهم، فالقيادة هي التي تعرف كيف تفيد من حضورها الدولي والعربي لخدمة شعبها دون أي غرض آخر.
لأسباب كثيرة، تشتتت قوى المعارضة وتنافرت إلى حد التناقض، وفشلت في بلورة جسم قيادي حزبي أو ائتلافي أو جماعي يشبه على سبيل المثال ذلك الجسم الذي بلورته منظمة التحرير الفلسطينية، ولعب دورا حاسما في استعادة هوية فلسطين الوطنية، بعد أن كان الفلسطينيون لاجئين بلا وطن، سواء في قرارات الأمم المتحدة أم في نظرة العرب إليهم ومواقفهم منهم.
رغم الحاجة إلى وجود قيادة للثورة والإدراك الواسع لضرورتها، فإن هذه لم تتخلق بعد، لأسباب كثيرة لم يتم تجاوزها إلى اليوم تتصل أولا بالتفتت التنظيمي والحزبي الداخلي، وثانيا بشطب الجيل المدني الذي قام بالثورة وحال قمعه وقتله على يد النظام بينه وبين قول ما أراده بها ومنها وكيف فهمها، وثالثا بتدخلات الخارج المتنوعة والمتضاربة، التي لعبت بالأمس وتلعب اليوم الدور الرئيس في اختيار معارضين يخدمون داعميهم ويناهضون من ليسوا أتباعا لهم، ويشحنون مؤسساتهم بتناقضات شخصية وذاتية تضاف إلى التناقضات الموضوعية والسياسية، فلا عجب أن كانت تعقد عملها بدل أن تسهل التحكم به وتصحيح مساراته، في حين يلعب مال المتنافسين دورا متزايد الأهمية في تأجيج خلافات زلمهم، ويحرفهم عن خط وأهداف الثورة، ويترك آثارا سلبية على القليل الباقي من العمل المقاوم، الذي يعادونه وفي الوقت نفسه يحاولون استخدامه لمآرب تتصل برغبتهم في التحكم، وانهماكهم في تعزيز مواقعهم وانفرادهم بالقرار، سواء من خلال ما يتقنونه من ممارسات أمراء الحرب والسياسة، أم عبر حرمان غيرهم من المقومات والموارد التي تزيد من قدرتهم على التفاعل المستقل والإيجابي مع الأحداث، وبناء ما يكفي من قوة تواجه الثورة بها من يضعفونها ويسيئون إليها ويرغمونها على التصرف والتفكير كما يتصرف ويفكر النظام الأسدي، بل وتتبنى قيما كقيمه وتنتهج سياسات كسياساته، وتسير وراء أشخاص يشبهون قادته: يتسمون كهؤلاء بالافتقار المشين إلى أي معايير وطنية وإنسانية تنمي ما كان في الثورة الشعبية الجامعة من نبل وسمو، وفي حملتها المجتمعيين من غيرية واستعداد للتضحية. هل نستغرب بعد هذا أن يكون «زعماء المعارضة» سببا في شعور المواطن السوري بالفجيعة واليأس، واقتناعه بأنه «فر من تحت دلف النظام إلى تحت مزراب الفوضى»، وانتقل من حكم مستبد يديره فرد مجنون إلى حكم أشخاص يجارونه التسلط، سيبطشون غدا بالشعب إن طالبهم بحقوقه أو ذكرهم أن ثورته كانت للديمقراطية ولم تكن لاستبداد بديل: أكان مؤجلا أم معجلا.
ليس كل من يتولى الرئاسة في تنظيم ما قائدا، فالقائد لا يقصي أحدا، بل يتعاون مع غيره في إطار من التنوع والاختلاف، ويقر بشرعية الخلاف، ويحترم قواعد التشاور وجماعية القرار، ويعرف كيف يقرأ الواقع ويفهم اتجاهاته المباشرة والبعيدة، وكيف يحشد قوى يتفق حراكها مع تطوره دائما ويسبقه أحيانا، خاصة عندما يصل إلى لحظات تحول حاسمة، ويصير من عوامل الانتصار دفعه في الاتجاه الذي ينسجم مع حرية الشعب وأهدافه.
تفتقر المعارضة السورية إلى قائد يمتلك هذه الصفات، وتعاني من وفرة لاعبي الكشاتبين والثلاث ورقات، الذين يتوهمون أنهم قادة ويتقنون شكليات السلوك الاستبدادي كالتعالي على غيرهم، والنزعة الأوامرية، والتشدق بالعلم والمعرفة، وادعاء القدرة على التنبؤ بالأحداث قبل وقوعها، والتطبيل والتزمير للتفاهات التي ينطقون بها باعتبارها حكما أبدية لن يأتيها الباطل أو يتخطاها الزمان، وتقديس رأيهم الخاص، وشخصنة علاقاتهم مع الوقائع والأشخاص… إلخ، فلا يدهشنا إن سقط بعضهم، وينتظر بعضهم الآخر السقوط كما تسقط فراشة في النار، ولا مبالغة في القول: إن معظم من كانوا يظنون أنفسهم قادة الثورة ظلوا جزءا من التخلف السياسي المتنوع الأشكال والتسميات، الذي خنق شعبنا، ويدمره اليوم ويقضي على ما حققه من إنجازات مادية ومعنوية خلال قرون، وعجزوا عن الارتقاء إلى مواقع تقربهم من سويته الرفيعة، وتجعل منهم جزءا من ثورته!