الثورة العلمية التكنولوجية أنتجت واقعا اقتصاديا- اجتماعيا جديدا

nabilaudehرؤية فلسفية

تشكل الثورة العلمية التكنولوجية انقلابا اجتماعيا واقتصاديا في حياة المجتمع البشري.هذا الانقلاب لم يأخذ مكانته بشكل كامل في الأدبيات الاقتصادية – الاجتماعية لليسار عامة واليسار الماركسي (الشيوعي) خاصة وبالتحديد.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا بالغ الأهمية: هل يمكن التعامل مع النظام الرأسمالي بنفس العقلية التي سادت المجتمعات البشرية قبل الثورة العلمية التكنولوجية؟
هل تشكل الماركسية في عالم اليوم المتطور، أداة إيديولوجية يمكن ان نبرمج على أساسها نهجا سياسيا حزبيا بنفس المسار الذي ساد القرنين السابقين القرن التاسع عشر والقرن العشرين؟
تعالوا أولا نلقي نظرة توضح عمق التحولات العلمية التكنولوجية.
كان العامل سابقا، الصناعي أو الزراعي، يعمل كل حياته دون ان يتبدل شيئا من أدوات الإنتاج أو من العلوم والتكنولوجيا التي تتعلق بنوع عمله أو إنتاجه، إذا تبدل شيء ما فهو غير ملموس ولا ينعكس على العامل نفسه إلا بشكل سطحي وفردي. أي ان أدوات عمله لم تتغير، ظروفه المعيشية ظلت خاضعة لزمن طويل جدا لنفس الشروط الاقتصادية التي لم تتأثر بأي تطور يغير من مردود إنتاجية العمل.
منذ أواسط القرن العشرين نلاحظ ان التطور العلمي التكنولوجي بدأ بقفزات هائلة، أدوات الإنتاج تتبدل وتطورت سنويا أو ما دون ذلك احيانا.. العمل العضلي يخلي مكانه للعمل الفكري حتى في الصناعات الثقيلة. أدوات تنفيذ المهمات المهنية تتطور باستمرار. إنتاجية العمل تضاعفت بشكل لا يمكن مقارنتها مع المراحل السابقة. العامل المهني اليوم يجدد أدوات إنتاجه بسرعة تزيد عشرات المرات عن القرن التاسع عشر. مثلا، ما طور في القرن التاسع عشر كله يتطور في القرن العشرين كل سنة تقريبا.. وفي القرن الحالي (الواحد والعشرين) بسرعة أكبر.
الجانب الهام هنا، والحاسم كما اعتقد جازما، هو ان التطور العلمي والتكنولوجي احدث انقلابا بتركيبة وتفكير ووعي ومعلومات ومعارف كل الطبقات الاجتماعية بما فيها الطبقة العاملة. لم تعد الطبقة العاملة هي الطبقة التي صاغ ماركس نظرياته الاقتصادية والفلسفية بناء على فهمه لواقعها. بمعنى أكثر اتساعا، المجتمع البشري لم يعد نفسه المجتمع البشري الذي حلله ماركس واستنتج من واقعه الكثير من أحكامه النظرية.
التأهيل ومستوى المعرفة للعامل اختلفت. المهنية أصبحت مميزا هاما للعامل. المعرفة التكنولوجية أصبحت ضرورة لا قيمة للعامل بدونها. مستوى المعارف وطابع العمل وشروطه والعلاقة بين العامل وصاحب العمل بدأت تختلف بسرعة عاصفة. الموضوع لم يعد مجرد بيع قوة عمل، هذا التعريف البدائي سقط. العامل لم يعد مجرد قوة عضلية، بل عامل مهني يملك ثقافة تكنولوجية وعلمية لا إنتاج ولا إنتاجية بدون ان يأخذ دوره الإنتاجي وشروط عمل وامتيازات كانت حلما في السابق.
إذن لا تطور اقتصادي فادر على المنافسة الاقتصادية بدون الارتباط بالتطور العلمي التكنولوجي.
ونسال هنا: الم تنسف هذه التطورات ما تصر عليه الأحزاب الشيوعية من مفاهيم القرن التاسع عشر عن الصراع الطبقي ألتناحري؟!
لم يعد العامل هو ذلك العامل المعدم، الخاضع لاستبداد المشغلين. نحن أمام عامل من نوع آخر.. هنا لا بد من التنويه ان احتياجات العمال للعمل كان مقابلها احتياج صاحب المصنع (الرأسمالي) للعمال المهنيين .. أي بات نوع من التوازن بين الاحتياجات المختلفة.. لذا نجد ان الأجور بدأت تقفز.. الواقع المعيشي والاجتماعي للعمال بدا يتطور. الطبقة العاملة لم تعد مجرد بروليتاريا معدمة . أول من استعمل اصطلاح “البروليتاريا”، اقتصادي بريطاني واصفا فئة العمال المسحوقين وقد ميزهم عن العمال المهنيين، أي الفئة الطبقية الأرقى ماديا واجتماعيا. حسب بعض المصادر أصل التعبير من العصر الروماني حيث وصفت أفقر الفئات الاجتماعية المعفية من الضرائب ب “البروليتاريا”. فهل يمكن استمرار استعمال هذا الاصطلاح للعمال المعاصرين اليوم؟
قصور الماركسيين يتضح بقوة متراكمة ومتضاعفة يوما بعد يوم، لم يفقهوا المعنى الفعلي لدور العلم والتكنولوجيا في تغيير مضامين المجتمع البشري التي حددت مفاهيمهم النظرية (الماركسية). في فترة ما رأوا ان التطور التكنولوجي سيولد أزمة بطالة حيث تحل الماكينة الحديثة مكان العامل. لم يروا ان الماكينة الحديثة تعني مضاعفة الثروة الوطنية وليس ثروة الرأسمالي فقط، وتعني رفع مستوى الحياة لدرجة وصول مجتمعات رأسمالية كثيرة إلى مستوى من الرفاهية الاجتماعية ومن الحريات الديمقراطية التي لم يكن لها انعكاس موازي في النظام الاشتراكي. إذن سقوط النظام الاشتراكي لم يكن صدفة، بل إفلاسا لكل أسلوب إنتاجه وتوزيع ثروته.
المعنى ان النظام الرأسمالي عزز سطوته الاقتصادية والاجتماعية بوصفه نظاما أكثر تأهيلا لإدارة المجتمع وتطويره.
لا أدافع عن النظام الرأسمالي إنما أسجل حقائق نعيشها. وأنا على ثقة ان أخطاء الأنظمة الاشتراكية وعدم تحررهم من ماركسية القرن التاسع عشر نحو ماركسية مناسبة لعصر التطور العلمي والتكنولوجي، وبناء نظام ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان ، قادهم إلى السقوط.
المستهجن ان المفكرين الماركسيين ذهبوا بعيدا عن فهم الواقع العلمي التكنولوجي برؤيتهم ان ذلك سيعمق الصراع الطبقي.. كان من المضحك التمسك بهذه الصيغة البلهاء في زمن لم يشهد أي صراع طبقي إطلاقا عدا النضالات الطبقية لتحسين شروط العمل والأجور، التي لا يمكن القول عنها انها صراع طبقي.. والهستدروت في بلادنا (تنظيم عمالي إسرائيلي)هي نموذج لمثل هذه النضالات الطبقية. المستهجن أكثر ان مفكر فيلسوف ماركسي سوفييتي هو هنريخ فولكوف استنتج ان التطور العلمي التكنولوجي يضع الإنسان في خطر، معتمدا على عالم اجتماع لاهوتي من ألمانيا الغربية هو يوحيم بودامير الذي قال ان التهديد ليس من النظام الرأسمالي أو الحروب أو الاستغلال بل من التكنيك والصناعة المعاصرة “!!”. لقاء مستهجن بين ماركسي سوفييتي وعالم اجتماع لا هوتي!! وطبعا يسجل قولا لماركس جاء فيه: “ليس العامل هو الذي يشتري وسائل وجوده ووسائل الإنتاج بل وسائل الوجود هي التي تشتري العامل لكي تضمه إلى وسائل الإنتاج”، هذه الجملة ربما كانت صالحة حتى أواخر القرن التاسع عشر، لكنها ما تزال تسيطر على ماركسيي الزمن العلمي والتكنولوجي بلا أي تغيير أو تفكير عقلاني. بل ويصر الماركسيون على رؤية ماركسية صالحة للقرن التاسع عشر بقول ماركس: “ما هو من صفة الحيوان يصبح من نصيب الإنسان ويحول ما هو أنساني إلى ما هو من صفات الحيوان” أي لم يتغير شيئا في اغترابهم عن عالم الثورة العلمية التكنولوجية.
أكثر من ذلك ظل ماركس يرى ان التطور العلمي التكنولوجي ، الذي كان بطيئا في عصره بحيث من الصعب احيانا ملاحظته إلا كل عقدين من السنين، يصر على معارضة العلم والتكنولوجيا بالإنسان ، ويصر بأن “أهميتها كاذبة” لأن رؤيته ان العمل ذاته أهم من الآلة. هذه الأفكار القديمة للأسف تبنى عليها سياسات حركة كان لها دورها العظيم.. من هنا رؤيتي اننا نعيش مرحلة اقتصادية جديدة لا يمكن وصفها بالنظام الرأسمالي التقليدي ، بل نظام “ما بعد الرأسمالية” وربما يجد احد الاقتصاديين تسمية مناسبة. ربما عليهم ان يعيدوا النظر بقدس أقداسهم .. بالتحرر مما لم يعد مناسبا لمرحلتنا التاريخية بكل ما تحمله من نهضة علمية، تكنولوجية، اقتصادية ، اجتماعية ، فكرية وثقافية، إلى اتجاه آخر لماركس لم يولوه أهمية كبيرة حيث يقول ماركس: “ان العصور الاقتصادية تختلف عن بعضها البعض ليس بما تنتج بل كيف تنتج وبآية أدوات عمل”. كلام سليم يتناقض مع أقواله الأخرى . إذن الأداة لم تغير أسلوب الإنتاج فقط، بل غيرت الإنسان الذي يستعملها وغيرت مضمون النظام الذي أنتجها. وهذا ما يجب ان يؤخذ في تطوير النظريات الاقتصادية والاجتماعية، وصياغة الفكر السياسي المعاصر.
nabiloudeh@gmail.com

About نبيل عودة

نبذة عن سيرة الكاتب نبيل عودة نبيل عودة - ولدت في مدينة الناصرة (فلسطين 48) عام 1947. درست سنتين هندسة ميكانيكيات ، ثم انتقلت لدرسة الفلسفة والعلوم السياسية في معهد العلوم الاجتماعية في موسكو . أكتب وأنشر القصص منذ عام1962. عانيت من حرماني من الحصول على عمل وظيفي في التعليم مثلا، في فترة سيطرة الحكم العسكري الاسرائيلي على المجتمع العربي في اسرائيل. اضطررت للعمل في مهنة الحدادة ( الصناعات المعدنية الثقيلة) 35 سنة ، منها 30 سنة كمدير عمل ومديرا للإنتاج...وواصلت الكتابة الأدبية والفكرية، ثم النقد الأدبي والمقالة السياسية. تركت عملي اثر إصابة عمل مطلع العام 2000 ..حيث عملت نائبا لرئيس تحرير صحيفة " الاهالي "مع الشاعر، المفكر والاعلامي البارز سالم جبران (من شعراء المقاومة). وكانت تجربة صحفية مثيرة وثرية بكل المقاييس ، بالنسبة لي كانت جامعتي الاعلامية الهامة التي اثرتني فكريا وثقافيا واعلاميا واثرت لغتي الصحفية وقدراتي التعبيرية واللغوية . شاركت سالم جبران باصدار وتحرير مجلة "المستقبل" الثقافية الفكرية، منذ تشرين اول 2010 استلمت رئاسة تحرير جريدة " المساء" اليومية، أحرر الآن صحيفة يومية "عرب بوست". منشوراتي : 1- نهاية الزمن العاقر (قصص عن انتفاضة الحجارة) 1988 2-يوميات الفلسطيني الذي لم يعد تائها ( بانوراما قصصية فلسطينية ) 1990 3-حازم يعود هذا المساء - حكاية سيزيف الفلسطيني (رواية) 1994 4 – المستحيل ( رواية ) 1995 5- الملح الفاسد ( مسرحية )2001 6 – بين نقد الفكر وفكر النقد ( نقد ادبي وفكري ) 2001 7 – امرأة بالطرف الآخر ( رواية ) 2001 8- الانطلاقة ( نقد ادبي ومراجعات ثقافية )2002 9 – الشيطان الذي في نفسي ( يشمل ثلاث مجموعات قصصية ) 2002 10- نبيل عودة يروي قصص الديوك (دار انهار) كتاب الكتروني في الانترنت 11- انتفاضة – مجموعة قصص – (اتحاد كتاب الانترنت المغاربية) كتاب الكتروني في الانترنت ومئات كثيرة من الأعمال القصصية والمقالات والنقد التي لم تجمع بكتب بعد ، لأسباب تتعلق اساسا بغياب دار للنشر، تأخذ على عاتقها الطباعة والتوزيع.
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.