في عام 1920 أنشأت عصبة الأمم الانتداب البريطاني في العراق، وفي 1921 تأسس النظام الملكي بقيادة الملك فيصل الأول من سوريا. وفي عام 1932 حصل العراق على الاستقلال رسميا ، في حين حافظت بريطانيا بالسيطرة على أمن العراق وشؤونه الخارجية.
تزايدت الانقسامات الطبقية والصراعات بين النخبة الحاكمة والمعارضة والجيش وأدت في النهاية إلى انقلاب الشعب عام 1958 من قبل الضباط الأحرار بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم.
حاولت الحكومة الجديدة في تحقيق تحول جذري في الاقتصاد، والبناء الاجتماعي، والعلاقات الدولية. وزعم أنصار هذا التغيير ان هدفها كان لاستقلال عراقي حقيقي، لأنها أنهت حقبة زمنية من الاستعمار البريطاني ، في حين زعم النقاد والمعارضون أن قاسم اقام حكومة استبدادية ، واطيح به في 1963 بهذه الحجة .
نقدم ملخصا مترجما لأهم ماجاء في كتاب البرفسور والمؤرخ الامريكي( من اصول لاتينية ) استاذ دراسات الشرق الاوسط في جامعة غربي كنتاكي ( خوان روميرو) ـــ ((الثورة العراقية عام 1958 من أجل الوحدة والأمن)) ، الذي نشر في الولايات المتحدة الامريكية ـــ ديسمبر 2010 والذي شخص الاسباب الرئيسة لقيام الثورة ونتائجها وفق منظوره الخاص…
1. 14 تموز1958 .. ثورة ام انقلاب ؟
ان طبيعة أحداث 14 تموز 1958 والتي أسفرت عن الإطاحة بالنظام الملكي العراقي ، وحصول جدال مابين الساسة الغربيون التقليديون الذين يميلون الى ان 14 تموز كان انقلابا عسكريا. في حين مال اصحاب الفكر الثوري وبعض الباحثين في الغرب ، وتوافقا لرأي المؤرخ والباحث (حنا بطاطو) من أن الإطاحة بالنظام الملكي كان بمثابة ثورة . كما ان القوميين العرب، بمن فيهم البعثيون العراقيين، يتفقون في تقييم بطاطو وينكرون الدور الرائد للزعيم عبد الكريم قاسم في انجاح الثورة، ومع ذلك، فإن البعثيين هم من اختطفوا الثورة واجهضوها في شباط/ فبراير 1963.
(أنا أزعم أن التحليل الدقيق من المصادر الأولية المحفوظة وغيرها مثل المذكرات ، يكشف عن أن ما وصفه الكثير من الخبراء السياسين ، انه كان انقلابا ، و الحقيقة هو أكثر من ذلك بكثير من التعقيد ، فمصطلحات – انقلاب، ثورة. الضباط الأحرار-، هي مستوحاة من التغيير الذي حصل في مصر ، والتي حملت الاسم نفسه في العراق ..
وكانت مجموعة من الضباط العراقيين والذين اطلقوا على انفسهم -الضباط الاحرار- خططوا لإسقاط النظام الملكي منذ أوائل 1950. وشارك جميع الضباط الأحرار في هذه الخطة وعلى نطاق واسع، مما أدى إلى عدد من محاولات الانقلاب المجهضة. ومع ذلك، كنت مطلعا على الانقلاب الذي نفذه العميد عبد الكريم قاسم ونائبه العقيد عبد السلام عارف والعقيد عبد اللطيف الدراجي. وبالتالي يمكن للمرء أن يستنتج أن الهدف المزدوج كان لقلب النظام الملكي واستبعاد غالبية الضباط الأحرار من لعب دور قيادي في الانقلاب. وفي الوقت نفسه، كان هناك عنصر قوي من المشاركة الشعبية في الإطاحة بالنظام الملكي.. وهذا برأيي الذي حصل بالضبط) . المشاركة الشعبية.. أي انقلاب الشعب2.
كان العديد من الضباط الأحرار في اللجنة العليا، بما في ذلك قاسم. وطلبت هذه اللجنة من قادة أحزاب المعارضة المشاركة في خططها والوقوف إلى جانبها مع أنصارها استعداد للنزول إلى الشارع بأعداد كبيرة في حالة المقاومة من جانب النظام الملكي. وكان البغداديون (على الأرجح 100،000 شخص اقل او اكثر ) انضموا إلى بعض الضباط الأحرار الذين تحركوا باتجاه القصر الملكي (قصر الرحاب ) وحاصروه صباح يوم انقلاب الشعب، وقام هذا البعض من الضباط في إقناع الحرس الملكي بالاستسلام، والتأكيد من أن القوات الموالية للحكومة لن تتتمكن من الوصول إلى القصر لإنقاذ الملك وولي العهد. وعلاوة على ذلك، تظاهرت حشود المدنيين في شوارع بغداد أيضا ضد القوى الأجنبية أظهرت المشاركة الشعبية القوية في الأحداث والتأييد الشعبي الواسع النطاق الذي تمتع به الضباط الأحرار وقيادته، كانت هذه أحدى الأسباب المهمة لاتخاذ القرارات البريطانية والأمريكية بعدم التدخل في أنقلاب الشعب 14 يوليو/تموز وما بعده ، لذا تعد الاحداث في صبيحة ذلك اليوم هو ، انقلاب الشعب ضد الحكم الملكي ..
وإن التحول الجذري في سياسات النظام الجديد من تلك التي كانت في الملكية ، إضافة إلى الجانب الثوري الذي نتج الإطاحة بالنظام القديم. والخبراء السياسيون الذين يقولون إن الإطاحة كانت مجرد انقلاب أو ثورة ، ومن الواضح أنها مجرد تجاهل للجوانب التي ذكرتها.
3. طبيعة المجتمع العراقي
كان هناك انقسام للمجتمع العراقي بين الريف والحضر منذ الحكم العثماني ، وأيضا يوجد انقسام قبائلي في المناطق الحضرية، ولغرض ذلك شرعت الحكومة الملكية العراقية القوانين لتتلائم مع طبيعة المجتمعات المتباينة ، وتتميز بتشريع قانونيين ، القانون الاول، وهو قانون العقوبات البغدادي، والمصمم لسكان الحضر، والقانون الثاني، وهو عبارة عن لوائح تخص المنازعات القبلية، وهو مخصص لسكان الارياف الذي يشابه من حيث المضمون للقانون الذي قدمه البريطانيون في المناطق القبلية الهندية. والذي يمكّن أي (القانون القبلي) الأقطاعيون شيوخ العشائر أن يلعبوا دورا مركزيا في الحياة الاقتصادية والسياسية في المناطق الريفية، لأنها خاضعة لسيطرتهم وسلطتهم.
4. الجهل والأمية في الريف العراقي
كان شيوخ العشائر متخلفون أميون لايفقهون شيئا وبعيدون عن كل شيء اسمه تقدم او تطور ، ولا يهمهم سوى الاستيلاء على اراض الفلاحين وتحصيل الاتاوات . وعندما ارادت حكومة الانتداب البريطاني انشاء وفتح مدارس لتعليم ابناء المناطق الريفية وبالأخص المناطق الجنوبية التي تتفشى فيها الامية بشكل كبير. اعترض شيوخ العشائر وبشدة ، بعدم السماح لانشاء وفتح مدارس في مناطق نفوذهم ، وعدّوها تدخلا بشؤون مناطقهم ومتعارضة مع افكارهم ومعتقداتهم الدينية والتي جاءت بفتوى دينية من رجال الدين . وأخيرا نجح المندوبون من الحكومة بعد مفاوضات عدة ، باقناع شيوخ العشائر بفتح مدرسة واحدة في كل منطقة من المناطق الخاضعة لسيطرتهم ، وعلى ان المدرسة تحمل اسم رئيس القبيلة او شيخ العشيرة ، وان تكون اولوية القبول في تلك المدارس الى ابناء واحفاد رئيس العشيرة والمقربين منه اولا والعامة من بعدهم وفق رغبة رئيس القبيلة او العشيرة واختياره لهم .
5. النظام الاقتصادي في الريف العراقي
كان النظام الاقتصادي قبل الثورة في المناطق الريفية ، نظام اقطاعي استغلالي ، كانت هناك اضطرابات متكررة تشهد على سوء الأوضاع في المناطق غير الحضرية. معظم الأسر الفلاحية تعيش في أكواخ صغيرة بدائية مشيدة من الطين، وتفتقر النوافذ والمرافق الصحية الحديثة، ومحلات السكن تفتقر الرعاية الصحية والاجتماعية وجميع الفعاليات الخدمية . وكانت القروض الحكومية المتاحة للفلاحين، لاتستثمر للاغراض الزراعية لتحسين المحصول الزراعي او ادخال معدات زراعية جديدة تساعد في زيادة الانتاج ،بل كان تنفق لتغطية التكاليف المعيشية . في هذه الحالة البائسة ، يضطر الفلاحون اللجوء إلى المرابين للحصول على قروض إضافية، الأمر الذي جعل وضعهم أكثر يأساً . أما الحكومة الملكية جعلت من عائدات النفط المتاحة نسبة كبيرة منها لمشاريع التنمية الريفية في عام 1950. وكانت تناشد الفلاحين بالصبر!، مع ذلك، لم يستفد الفلاح من هذه المشاريع، التي لم ترى النور .
وثمة سبب آخر لسوء الأوضاع في المناطق الريفية، هو اعتماد الفلاحين على ملاك الأراضي لأغراض الري. وكانت الأساليب الزراعية التي عفا عليها الزمن غير فعالة والتي تشكل عائقا للتطوير ، وكان الفلاح يتنازل عن جميع حقوقه الى الملاكين مقابل الديون المترتبة عليهم ، وكان الخيار الوحيد للفلاحين هو الهجرة إلى المدن الكبرى مع أسرهم بحثا عن فرصة عمل . ومع ذلك، كانت تواجههم ظروفا مشابهة أو أسوأ من ذلك في المناطق الحضرية . في الريف كان البيت هو عبارة عن كوخ اشبه مايكون قن الدجاج ويطلقون عليه باللهجة العراقية ( صريفة ) وهو كذلك في المدينة .. ولم تتحسن احوالهم المعيشية والاجتماعية في الأحياء الفقيرة ، والتي استقر فيها معظم المهاجرين.
6. سياسة الحكومة قبل 14 تموز1958
كان نوري السعيد رئيس وزراء دولة العراق ،وكان واحداً من أبرز قادة الشرق الأوسط. وكان كثيرا ما يبرز عندما يتدهور الوضع السياسي في البلاد و كان النظام الملكي بحاجة إلى زعيم قوي للتعامل مع المعارضة. شغل منصب رئاسة الوزراء لأربعة عشر مرة ، وهو ضابط سابق في الجيش العثماني ، وسياسي من طراز القديم في الشرق الأوسط ، كان قليل الصبر مع الخصوم السياسيين، مستغلا ملفاتهم من خلال إدارة التحقيقات الجنائية في مطاردة وملاحقة “الشيوعيين”.
ونتيجة لذلك، فانه في كثير من الأحيان يلجأ إلى تزوير الانتخابات وزج أنصاره في البرلمان. مع مثل هذه الظروف السائدة في البلاد، أدركت المعارضة السياسية التي تحالفت فيما بينها وبما يسمى ” الجبهة الوطنية للانتخابات ” من أجل إجبار النظام لبدء الإصلاح. وفازت في الانتخابات بعدد من المقاعد في البرلمان في عام 1954 .
وما كان من نوري السعيد ولأول ما قام بتنفيذه عند عودته الى منصبه ، هو حل البرلمان واجراء “انتخابات” جديدة لإنشاء مجلس تشريعي موالي له .
مثل هذه التكتيكات المستبدة والفوضى السياسية، جعلت قطاعات واسعة من الشعب العراقي، بما في ذلك اليساريين والقوميين العرب والأحزاب السياسية والفلاحين، والعمال ، ومن صغار ضباط الجيش ايضا، من ان تنفر منه ومن سياساته المتعرجة والموالية للغرب، وكانت تلك الاسباب واخرى نتيجة في سقوطه في عام 1958.
7. تنظيم الضباط الاحرار
في بداية التنظيم لضباط الجيش المناهض للنظام ، توزع في عدة مجموعات مستقلة. وكانت أسباب معارضتهم للنظام الملكي :
ـــ عدم وجود دعم للفقراء من قبل الحكومة .
ـــ انعدام الحرية السياسية والتقدم الاقتصادي في البلاد.
ـــ المعارضة للسياسات الموالية للغرب من قبل النظام الملكي.
ـــ الهيمنة السياسية والاقتصادية لعدد محدد من العائلات الثرية وأصحاب الأراضي.
ـــ كان معظم صغار الضباط من خلفية الطبقة الوسطى، وكان لديهم القليل من القواسم المشتركة مع قادة الجيش من الرتب العليا والموالين للنظام،لذا كانت هناك فجوة مابين قمة هرم الجيش وقاعدته.
وكان يشارك العديد من المتحمسين الشباب في المظاهرات المناهضة للنظام التي تحصل بين اونة واخرى وبشعارات مؤيدة لاهداف التنظيم. كان هدفهم لبناء مجتمع أكثر مساواة، وزيادة التعاون مع الدول العربية الأخرى، وإجراء سياسة خارجية لدول عدم الانحياز، والقضاء على النفوذ البريطاني في بلادهم.
وكان تنظيم الضباط الأحرار يمثل كل الأيديولوجيات السياسية المعارضة، بدءا من حزب الاستقلال إلى الحزب الشيوعي العراقي. وقد انعكس هذا الواقع أيضا في الحكومة الثورية الأولى، والتي تضمنت وزراء من كل أحزاب المعارضة والاتجاهات السياسية المتعددة.
8. التحرك الشعبي للشارع العراقي
كان العديد من المثقفين والطلاب يؤيدون اهداف الضباط الأحرار، على أن يكون لهم رأيا ومشاركة في العملية السياسية التي حرموا منها في ظل النظام الملكي، ووضع حد للسياسات الموالية للغرب والنفوذ البريطاني. وكانت مناشدة الكثير من العراقيين الفقراء، للحكومة التي من شأنها أن الاستماع إلى همومهم، وتوفير فرص العمل والسكن وتشريع قانون الضمان الاجتماعي، وإدخال نظام اقتصادي أكثر عدلا في المناطق الريفية وضمان الحقوق المدنية في البلاد. وكان الطلاب والمثقفين والعمال ذوي التوجهات اليسارية، كانوا من النشطاء وبشكل خاص في العديد من الاحتجاجات والمظاهرات في المدن الكبرى قبل الثورة. وفي مدن المحافظات والمناطق الريفية التي شهدت اضطرابات واسعة النطاق أيضا، بما في ذلك الاحتجاجات العارمة ، والتي استلزمت تدخل الجيش لاستعادة النظام.
ومن نتائج الثورة واهم منجزاتها :
قانون الاصلاح الزراعي
كان قانون الإصلاح الزراعي يهدف بشكل محدود لملكية الأراضي الخاصة، والذي ينص على أن يعاد توزيع الأراضي المصادرة بين الفلاحين في العراق. وكان القانون صعب التنفيذ ، وذلك بسبب عدم كفاية عدد المساحين والخبراء بشأن تحديد الاراضي والاعداد والفرز ، وهي المشكلة التي سببت تأخر تطبيق القانون إلى حد كبير. وعندما كثرت الانتقادات، لتعجيل الحكومة باعادة توزيع الأراضي، أدى الى الكثير من الالتباس نتيجة لنقص الخبرة. والتقدم البطيء في توزيع الأراضي وكذلك زيادة الهجرة إلى المناطق الحضرية الرئيسية، وزيادة الضغط على السلطات المحلية مما دعا الحكومة الثورية بالتعاقد مع خبراء أجانب من بلدان محايدة لتنفيذ القانون.
وكانت هذه القضية حساسة، نظرا لتعاون النظام السابق تعاونا وثيقا مع الغرب، والوجود الأجنبي كان مهيمنا في فترة الحقبة الملكية، وعلى الرغم من هذه العقبات تحققت خطوات من التقدم في ظل حكومة قاسم بشأن إعادة توزيع الأراضي بالرغم من المعارضة الشديدة من قبل ملاكي الأراضي .
كما واجهت الحكومة الجديدة أيضا انتقادات من اليسار.حيث دعا الحزب الشيوعي العراقي إدخال قيود أكثر صرامة على تحديد مساحات الحيازة
لملاك الأراضي الأثرياء، بحجة أن القانون يسمح لهم للاحتفاظ بمقدار اكبر من الاراضي والنفوذ في الريف. كما عارض الشيوعيون نص القانون كونه لايتضمن دفع التعويضات عن الأراضي المصادرة.
السياسة النفطية الجديدة
كانت السعودية تتفاوض لإعادة فرض شروطها مع شركة أرامكو الامريكية في وقت مبكر من عام 1950. وأدى ذلك الى تحقيق أرباح يجري تقاسمها مناصفة بين السعودية وأرامكو.
وكان البرلمان الإيراني اتخذ المزيد من الاجراءات الصارمة فيما يتعلق بشركة النفط البريطانية الايرانية .حينها رفضت الشركة بتقديم عرضها للحكومة الإيرانية بصفقة مماثلة للصفقة السعودية مع أرامكو، مما أدى إلى تأميمه في عام 1951. وكان رد الحكومة البريطانية وإدارة أيزنهاور العزم على إسقاط الحكومة الإيرانية المنتخبة ديمقراطيا برئاسة رئيس الوزراء محمد مصدق.
كان نهج قاسم الحذر في مسألة التأميم ، ردة فعل عكسية نتيجة لما حصل لأزمة النفط الإيراني من 1951-1953، لذا عمد لتثبيت دعائم النظام الجديد متفاديا الصراع مع القوى الغربية. ولذلك كان امن الاقتصاد القومي من الأولويات في ذلك الوقت.
كان قاسم يدرك بالتأكيد خطورة النتائج التي ترتبت من جراء تأميم مصر لقناة السويس في عام 1956. وبالمناسبة، كانت شركة نفط العراق المستثمرة للبريطانيين قلقة أيضا من احتمالية التأميم، والأزمة التي يمكن ان تحصل ولربما تستمر لسنوات ، ويبدو أن البريطانيين قد تعلموا الدرس من عام 1951 وعام 1956 اي من ايران ومصر.
على الرغم ان النفط يعد سلاحا قويا بيد الشركات التي يمكن أن تستخدمه للي الأذرع ، كان قاسم على بينة من العواقب الوخيمة على البلاد فيما لو اقدم على تلك الخطوة وأولها تجميد الأرصدة العراقية الكبيرة في البنوك البريطانية ، لذا تبنى كلا الطرفين ، الحكومة والشركة ، نهجا حذرا، خلافا لما حدث في 1951 و 1956 لتفادي الأزمة. ولذلك اتخذت الحكومة العراقية الجديدة العمل على اتخاذ قرارات محدودة ، مما أدى إلى زيادة تدريجية بالسيطرة على سياسات الشركة وعملياتها الانتاجية والتسويقية. ونتيجة لذلك، تم إنهاء امتياز نفطي واحد في وقت مبكر من عام 1959، واستبدلت عددا من الخبراء الغربيين في مصفى الدورة بخبراء عراقيين وبمساعدة خبراء النفط من الاتحاد السوفيتي.
وتم تأميم نفط حقل كركوك والمنشآت في عام 1972، وماتبقى من حصص شركات النفط الأجنبية في عام 1975.
دور الحزب الشيوعي العراقي
مشاركة الحزب الشيوعي العراقي في الحكومة الثورية كانت منذ البداية. وزير الاقتصاد الماركسي الدكتور ابراهيم كبة ، كان تأثيره كبيرا وواضحا على السياسات الاقتصادية للنظام الجديد. وبالتالي فان قاسم اضطر لاشراك الشيوعيون في رسم سياسات اقتصادية شاملة للبلاد ، وعلى الرغم من ان الدكتور كبة لم يكن عضوا في الحزب الشيوعي العراقي لكنه كان محسوبا على الحزب على الاقل من قبل قاسم .
كان للحزب عموما له مشاركات في كثير من النواحي ، مثل قانون الإصلاح الزراعي ، وقانون الاحوال الشخصية، وغيرها من الجوانب الثقافية والتعبوية في سبيل انجاح الثورة وتحقيق اهدافها .
النفوذ الشيوعي نما بشكل مطرد، وعلى وجه الخصوص نتيجة لزيادة المعارضة من القوميين العرب والبعثيين لقيادة قاسم. وكان هذا التطور نتيجة لإدراك الزعيم العراقي انه في حاجة الى الشيوعيين كثقل موازن للمعارضة المتزايدة لحكمه بين ضباط الجيش من القوميين والبعثيين. ومنح الشيوعيين بعض من السلطات في بداية الثورة، الا انه قرر للحد من نفوذهم وإطلاق حملة لمكافحة الشيوعية في صيف عام 1959.
وعلى الرغم من هجوم قاسم على الشيوعيين ، الا انهم أثبتوا ، بانهم حلفاء له ومتمسكون به ، وباعتقادهم بانه القائد الاصلح من بين جميع قيادات الثورة .
وأخيرا تكالبوا أعداء قاسم ، وضيقوا الخناق عليه أثناء محاولة انقلابية ناجحة أدت الإطاحة به في فبراير/شباط من عام 1963، فطلب الشيوعيون منه بتوزيع الأسلحة على افراد الشعب المؤيدين له للدفاع عن الثورة ومنجزاتها ، الا ان قاسم رفض طلبهم تجنبا للحرب الأهلية التي قد تحصل، وبموقفه هذا أعدم قاسم بدون محاكمة من قبل أعدائه.
العلاقات والسياسة الدولية
أعلن النظام الجديد في اليوم الأول للثورة التي ليس لديها أي نية للاستمرار بنفس السياسة الموالية للغرب في فترة حكم العائلة المالكة، وستحل محلها سياسة عدم الانحياز الخارجية. وكان في استقبال هذا القرار ومرحبا به ، هو الاتحاد السوفياتي، والذي اعترف على وجه السرعة بالنظام الجديد ، والجدير بالذكر، ان حكومة نوري السعيد رئيس الوزراء السابق في الحكومة الملكية قد قطعت العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفييتي عشية انضمام بلاده لحلف بغداد عام 1955.
كان التأخير في اعتراف بريطانيا والولايات المتحدة بالحكومة العراقية الجديدة ، لعدة اسباب ،منها ، وهو لعلاقات العراق مع الدول الاشتراكية اقتصاديا وعسكريا وبشكل سريع ، واتخاذ العراق سياسة عدم الانحياز، والانسحاب من حلف بغداد. كنتيجة الإطاحة بالنظام الملكي، واعلانه الانسحاب الفوري من الاتحاد العربي الهاشمي العراقي الأردني ، الذي تشكل في فبراير/شباط عام 1958.
تم توسيع التعاون العسكري والاستخباراتي بين العراق والاتحاد السوفيتي وتوطيد العلاقات التجارية والثقافية والعلمية، والتعليمية والصناعية ، وابرام اتفاقيات بآجال مختلفة مع دول الكتلة السوفياتية ودول عدم الانحياز، مما ادى الى نمو تلك القطاعات سريعا ، وبنفس الوقت تعرضت الحكومة الى الانتقادات والمعارضة الشديدة من قبل شركاء قاسم من القوميين العرب والبعثيين لهذا التوجه.
السياسة الاقتصادية
في محاولة جادة للحد من العجز التجاري الكبير مع الدول الغربية وبريطانيا على وجه الخصوص، عرض نظام قاسم قيود على استيراد السلع التي يمكن تصنيعها محليا وخفض استيراد السلع الكمالية. وعلاوة على ذلك، وضع النظام الجديد جملة قوانين جديدة لتنظيم التجارة الخارجية، التي تنص على أن سياسة العراق التجارية تبنى على أساس العلاقات التجارية المتكافئة والمتوازنة . وتمكن العراق من اقامة علاقات وثيقة مع الدول الاشتراكية ودول عدم الانحياز وخصوصا ” تجارة المقايضة ” مع هذه الدول. وبالتالي فإن التدابير المتخذة من قبل نظام قاسم فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية يشكل خروجا جذريا عن تلك التي كانت في النظام السابق.
العلاقة مع العرب
كان العديد من العروبيين في عموم الشرق الأوسط، بما في ذلك عدد من الضباط الأحرار العراقيين يشعرون بالنشوة للأطاحة بالنظام الملكي العراقي، وهو حدث ينظر إليه على أنه تعزيز المعسكر المتطرف في العالم العربي وخطوة هامة نحو الوحدة العربية .
وكان يعتقد أن هذا التغيير في نظام الحكم العراقي ، قد يؤدي إلى الاندماج مع الجمهورية العربية المتحدة وتشكيل دولة واحدة( دولة الوحدة ) ، ولكن سرعان ما نشب خلاف بين الدولتين حول آلية الوحدة ، وعندما أدرك قاسم أن الرجل الثاني في القيادة، عبد السلام عارف، الذي كان قريبا من جمال عبد الناصر، وبذله جهودا كبيرة لعزله من السلطة وتآمره ضده، توترت العلاقة مع الجمهورية العربية المتحدة إلى أبعد الحدود وأصبحت اقرب للقطيعة بين الدولتين، كما كانت عليه في ظل حكومة نوري السعيد. ويرى الكثير من المحللين السياسيين أن قاسم كان عراقياً وطنياً خالصاً ، وليس عروبيا مستعربا .
مثل هذه القضية لطبيعة أحداث 14 يوليو 1958، فإن الواقع هو أكثر تعقيدا مما يوحي عن الخلاف التقليدي. كان قاسم، في واقع الأمر، يتخذ الموقف الايجابي من القضايا العربية وكان يساير الرأي العربي بشكل عام ..
نظام الحكم
النظام الاقتصادي والسياسي في العراق في فترة الحكم الملكي، لم يستفد منه سوى مجموعة محدودة جدا من العراقيين . وكما أشرت سابقا، ان السياسات الاقتصادية والاجتماعية، والخارجية لنظام قاسم ، كان خروجا جذريا عن تلك التي كانت في الملكية. وفي الوقت نفسه، فإن صورة المجتمع العراقي الجديد برأي قاسم ، يوجب عليه الاحتفاظ ببعض االاساليب المحدودة جدا من النظام القديم. والسبب هو أن قاسم لم يكن يريد أن يطلق العنان لصراع طبقي وتناحر بين فئات الشعب، الأمر الذي قاده الى وضع نظامه جزءا من حكومة يسارية اكثر راديكالية، وهذا ما جعل حكم قاسم يختلف كثيرا عن النظم السلطوية اليمينية واليسارية ، كما كان يطمح لحد ما من المشاركة الشعبية في نظام الحكم . بمعنى هذا جعله أكثر “ثورية” من النظام الشيوعي ،وبنفس الوقت ما كان يمكن التنبؤ بمشاريعه السياسية لكثرة الضغوطات عليه من شركائه في الحكومة ، ولضعف خبرته السياسية ايضا..