يوليو, 2016
عمر إدلبي – OMAR EDLBI* عمر إدلبي
سجلت ثورة الشعب السوري نصراً كبيراً لها بتفكيك تنظيم القاعدة في بلاد الشام وتطويع قيادته وعناصره في سوريا بعد صراع امتد قرابة 5 سنوات، انتهى بإعلان زعيم تنظيم “جبهة النصرة” فرع تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الشام، فك ارتباط تنظيمه بالقاعدة وإلغاء العمل باسم “جبهة النصرة” وإعادة تشكيل جبهة جديدة باسم “جبهة فتح الشام”.
ونكاد نجزم أن هذه الخطوة “السابقة في تاريخ تنظيم القاعدة” لم تكن لتحصل لولا الضغط المتواصل على جبهة النصرة وقيادتها منذ إعلان تشكيلها في مطلع العام 2012 وتوجس السوريين خيفة من مغبة ارتباط هذا الفصيل المقاتل بتنظيم قاعدة الجهاد، وما يرتبه هذا الارتباط من خطر على الثورة السورية التي انطلقت حاملة شعارات نهضوية تتطلع للمستقبل لا للماضي وتجاربه المستهلكة الفاشلة.
ولم يُخف الجولاني حقيقة هذه الضغوط وأثرها في قرار جبهته، إذا أكد أن هذا التحول الكبير جاء انطلاقاً من المسؤولية عن التخفيف عن أهل الشام و”نزولاً عند رغبتهم في دفع الذرائع التي يتذرع بها المجتمع الدولي وعلى رأسه أمريكا وروسيا في قصفهم وتشتيتهم لعامة المسلمين في الشام بحجة استهداف جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة”، وأضاف أن الخطوة تأتي لتقريب المسافات بين الفصائل “المجاهدة” في الشام، وهذا اعتراف لا لبس فيه بأن الفصائل السورية الثورية، وحتى الإسلامية منها دفعت قيادة “جبهة النصرة” إلى فك ارتباطها بالتنظيم الذي يعتبروه خطراً عليهم، وعلى ثورتهم، ما دام مدرجاً على قوائم الإرهاب، وتحاربه كل دول العالم.
ولا يقف دور السوريين في هذا التحول الكبير على مجرد تخوفهم من موقف العالم من القاعدة وفصائلها في سوريا وبالتحديد “جبهة النصرة”، فالسوريون رأوا وعبروا بوضوح عن رفضهم الغلو والتطرف، والتمييز بين السوريين على أسس مذهبية أو دينية، ولطالما واجهوا سلوك “النصرة” ومثيلاتها، المنافي لروح التسامح والوسطية التي تميز بها أهل سوريا وعموم بلاد الشام، ووصلت حدة هذه المواجهة إلى محطات دموية، أظهر خلالها السوريون تمسكهم بتربيتهم التي تنبذ الغلو ولو كان الثمن دماً، وما مظاهرات أهالي معرة النعمان والأتارب والغوطة الشرقية ومناطق أخرى ضد ممارسات “النصرة” و”جند الأقصى” إلا دليلاً واضحاً على المقاومة الشعبية لهذا المنهج المتطرف الذي لم يألفه السوريون ولم يقبلوا بالاستكانة له رغم صعوبة ظروفهم وتعدد جبهات الموت المفتوحة ضدهم.
وإذا كان تخلي “جبهة النصرة” عن الاسم ليس أمراً عادياً ولا مستساغاً في تاريخ الحركات الجهادية ولكنه حصل في سوريا، فإن التخلي عن ممارسة الغلو بحق السوريين من كافة الأديان والمذاهب، والمزاودة على السوريين المسلمين في إيمانهم وولائهم لعقيدتهم وتمسكهم بروح إسلامهم وأخلاقه، يحتاج من السوريين عملاً إضافياً مع قادة “النصرة” سابقاً و”جبهة فتح الشام” حالياً، وغيرها من الفصائل التي تنتهج نهجها، وهي مسؤولية تقع بشكل مباشر على عاتق علمائهم ومثقفيهم، وتالياً على عاتق عامتهم.
ومع الترحيب الحذر الذي قوبلت به خطوة النصرة من معظم ناشطي الثورة السورية، وتعبيرهم عن أملهم بأن يتمكن مقاتلو النصرة وهم في معظمهم من السوريين من التحول بالتنظيم الجديد باتجاه الثورة السورية أكثر، وتبني أهداف ثورة الشعب السوري التي لم يكن من بينها في أي وقت من الأوقات زج السوريين في حروب “الجهاديين” العالمية واستنساخ تجاربهم المريرة الفاشلة، والتخلي عن مسلك الغلو والغلظة في أنشطتهم الدعوية، بالمقابل تبدو ردود الأفعال الدولية مشككة ومحذرة من عدم حصول تحول جذري في سلوك “جبهة فتح الشام”، حيث نقلت وكالات الأنباء موقفاً عن وزارة الخارجية الأمريكية في أول رد فعل أمريكي يفيد بأن جبهة النصرة ما زالت هدفا للطائرات الأمريكية والروسية في سوريا على الرغم من قرارها قطع العلاقات مع تنظيم القاعدة وتغيير اسمها إلى “جبهة فتح الشام”، وأضاف المتحدث باسم الخارجية جون كيربي إن إعلان جبهة النصرة يمكن أن يكون ببساطة مجرد تغيير للمسميات وإن الولايات المتحدة ستحكم عليها من تصرفاتها وأهدافها وعقيدتها.
ومهما يكن من أسباب دفعت قيادة النصرة والقاعدة للقبول بهذا التحول الكبير، كالتعويل على تفادي ضرب الجبهة واستهداف وجودها من قبل التحالف الدولي وروسيا، وهو تعويل قد يخيب، ولا تجني الجبهة منه نجاحاً فعلياً، فإنه وبالمقابل ليس من السهل على أمريكا والدول المتحالفة معها في حربها على “الإرهاب” ومنهم دول عربية، ولا على روسيا أيضاً، تجاهل هذا التحول الكبير، والتغاضي عن فك النصرة ارتباطها بالقاعدة، والذهاب إلى استهداف كيانها الجديد “جبهة فتح الشام”، لما قد يترتب على هذه “العدائية” من نتائج سلبية قد تمنع تنظيمات أخرى على شاكلة “النصرة” منتمية للقاعدة، أو حتى لتنظيم “الدولة الإسلامية” من سلوك ما سلكته النصرة، وهو ما سيفوت على الولايات المتحدة وحلفائها الدوليين وروسيا انتصارات غير مكلفة في حربهم المزعومة على الإرهاب الدولي.
بالمحصلة .. من حق أنصار الثورة السورية وهم يعيشون مرارة التراجع على جبهات حلب والغوطة أمام همجية قوات الأسد وحلفائه، من حقهم أن يفخروا بأن صلابتهم ومدنيتهم وسعيهم دون كلل إلى مستقبل يليق بتضحياتهم ووفائهم لثورة الحرية والكرامة كانت السبب المباشر والحاسم في هزيمة القاعدة، وحصول أول تفكك في بينتها التنظيمية الصلبة، لا بالطائرات من دون طيار، ولا بالقنابل الذكية، وإنما بمدنيتهم وتسامحهم وثباتهم على عقيدة ورسالة، بُعث نبيّها بها ليتمم مكارم الأخلاق.