ترسم الطوائف حدودها في الإقليم بالحديد والنار والدم والتهجير. يصعد المهجرون السنة في الحافلات الخضراء في سوريا ويغادرون بيوتاً وحيوات كثيرة إلى غير رجعة. مثلهم يركب المهجرون الشيعة حافلات لا تلبث أن تستهدف بالتفجير.
التهجير المذهبي يمارسه الطرفان، وإن بتفاوت هائل في نسب الارتكاب، لصالح الميليشيات المذهبية المرعية إيرانياً.
في العراق قطع التهجير أشواطاً كبيرة جرى في خلالها أعمق عملية تغيير ديموغرافي شهدته بلاد ما بين النهرين. محافظات سنية أفرغت من أهلها كما حصل عملياً في صلاح الدين، دعك عن «التحرير» المرعب للموصل، بعد أن سلمها نوري المالكي لمن احتلها، تسليم اليد.
يخدع اللبنانيون أنفسهم أنهم بعيدون عن أهوال هذا الحريق. قليلون يربطون الاستنفار المذهبي اللبناني الراهن بالحاصل من حولهم. أقل منهم من يدرج هذا الاستنفار في السياق العام لرسم حدود المذاهب الجاري في العراق وسوريا وبشكل أو بآخر في اليمن.
لكن الحقيقة أنه بعدما أدت الطوائف اللبنانية قسطها الدموي بين 1975 و1994 (سجن الزعيم المسيحي الماروني سمير جعجع) وعادت واستأنفته عام 2005 باغتيال رفيق الحريري، ها هي تشترك في لعبة ترسيم حدود المذاهب عبر لعبة قانون الانتخاب.
الجاري بين اللبنانيين، والأدق بين نخبتهم الحاكمة، ليس نقاشاً في قانون الانتخاب بل في عقد الشراكة بينهم، وهو امتداد سياسي لحروب المذاهب والقبائل والجهات من البحرين إلى موريتانيا مروراً بالعراق وسوريا وجنوب السودان ومصر وليبيا.
فوضى الحروب والاشتباكات والارتكابات في الساحات الساخنة، تقابلها فوضى المشاريع الانتخابية المقترحة، التي تقيم فصلاً حاداً بين الوسائل والغايات. في العام يجري الحديث عن ادعاءات تحديثية باسم النسبية وأخرى تلبس لبوس الحكمة باسم حماية السلم الأهلي وتحسين شروطه. في العمق تخوض المذاهب حروبها الأهلية الباردة لتنظيم الطلاق بين المكونات وترتيب انفكاك بعضها عن بعض.
فوضى كاملة وغابة من مشاريع القوانين. سبق مثلاً للعماد ميشال عون وبعد تجربة استخدام سلاح حزب الله في الداخل اللبناني في 7 مايو (أيار) 2008، أن جعل مما يسمى قانون الانتخابات النيابية المقر العام 1960، عنواناً وحيداً وحاسماً لتصحيح التمثيل المسيحي، بل لاستعادة ما يسميه «الحقوق المسيحية»! كان قانون الستين خشبة خلاص، وصار اليوم شيطاناً رجيماً.
الوزير جبران باسيل، صهر عون والأقرب سياسياً إلى عقله، تحمس مع الاتفاق الذي صاغته الكنيسة بين القادة المسيحيين، والذي يعطي الموافقة على اعتماد النسبية، ثم ما لبث أن تراجع وصار خصماً لها يغامر حتى بحسن علاقته بحزب الله، المنادي باعتماد نسبية شاملة ضمن لبنان دائرة انتخابية واحدة.
بعدها تنبه باسيل فجأة إلى أن عدد النواب اللبنانيين رُفع بعد اتفاق الطائف من 108 إلى 128، بضغط من الوصاية السورية يومها لتأمين مقاعد لحلفاء سوريا وزيادة عدد المسيحيين ضمن الكتلة الموالية لسوريا. طرح إعادة تقليص النواب وإلغاء المقاعد الإضافية، قبل أن يفطن إلى أن أغلب النواب المسيحيين العشرة (نصف العدد المضاف بعد الطائف) ليسوا بمعايير اليوم في موقع معاداة خيارات بيئتهم. تراجع أيضاً.
حزب الله هو الآخر، الذي قاتل لإيصال عون إلى الرئاسة وما لبث أن اصطدم بكثير من خياراته لا سيما انتخابياً، سقط في فخ التناقض أيضاً. زايد على السنة في قبوله بقوانين الفيدرالية المذهبية، أي أن ينتخب كل مذهب نوابه، أو ما يعرف بالقانون الأرثوذوكسي، ثم عارض اقتراحات قوانين «عونية» فيدرالية ولكن أقل مذهبية. قبل بالتقسيم المذهبي (سني شيعي علوي…) ورفض التقسيم الطائفي (مسيحي مسلم)! عجباً. المفارقة الأكبر أن ما يرفضه اليوم الثنائي الشيعي، أي القانون الذي يتيح للطوائف أن تؤهل المرشحين عنها قبل أن يشارك عموم اللبنانيين في انتخابهم، هو ما كان اقترحه رئيس مجلس النواب في البدء، أي أن الثنائي يرفض اقتراحاً تقدم به أحد ركنيه.
تنجم هذه الفوضى عن أمور كثيرة أختصرها بثلاثة.
أولاً: تبدو اللغة السياسية اللبنانية مفعمة بالأكاذيب والمجاملات، وهو ما يؤدي إلى ما أسميه انفصال الغايات عن الوسائل. جرعة صحية من السفاهة لا بد منها ليفهم اللبنانيون على بعضهم البعض. قبل اتفاق الطائف عرَّف المسيحيون الرئيس القوي بأنه الرئيس القادر على أن يحكم المسلمين. وفق هذا المعيار يُدرج اسم الرئيسين الراحلين كميل شيمعون وسليمان فرنجية بين الأقوياء وفؤاد شهاب بين الضعفاء. الرئيس القوي بعد الطائف هو الرئيس الذي يعلن أكثر عن استعداده للفصل مع المسلمين أو الفكاك السياسي عنهم.
ثانياً: تجربة الطائف في ظل الوصاية السورية، تركت ندوباً عميقة في الوعي المسيحي نتيجة الخلل في الشراكة. ما لم يصر إلى تنقية الذاكرة والتجربة، بين العامين 1990 – 2005 ستكبر الأوهام والأكاذيب وتتضخم بعض الحقائق ويسقط بعضها الآخر.
ثالثاً: لا خلاص لأحد في ظل تغييب الموضوع الأصلي، وهو ضرب فكرة الدولة نفسها وتمييع أسس الشراكة من خلال التمادي في مسايرة ميليشيا حزب الله والتوهم أن في قدرة أحد استخدام هذه القوة لتعديل تموضعه وموقعه تجاه الآخرين.
*نقلاً عن “الشرق الأوسط”