وردني سؤال من احد الأصدقاء عن مفهوم “النظام الاجتماعي التقليدي”…. و احببت ان اربط هذا السؤال المهم مع فكرة التنمية…. لان هذا الربط … او الافتراق … قد لعب دورا رئيسيا في التطورات الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و الثقافية في الشرق الاوسط و العالم العربي بصورة خاصة منذ بناء الدولة الحديثة و بدايات ما يمكن تسميته ب..”مشروعية فكرة التنمية و الحداثة”…
مبدئيا… هذا المفهوم يؤشر الى نوع النظام الاجتماعي الذي نمارسه و نتعايش في ظله دون ان نطرح أسئلة حول أسسه الثقافية و الاخلاقية… و احيانا حتى و لا عن أسسه الاقتصادية و سياساته الاجتماعية…. من مميزات هذه النظم الاجتماعية التقليدية انها ظلت مهيمنة على مجتمع ما لفترات طويلة ان يحدث فيها تغييرات جوهرية … و بذلك فهي تسير وفق نمطية معينة لا تخلق الكثير من المعوقات امام الأفراد و الجماعات المنتمية و ان كانت تفرض بشكل غير مباشر او تفترض سلوكيات معينة يلتزم الغالبية العظمى من المنتمين الى ذلك المجتمع…
السؤال الان… هل يمكن لمثل هذا النظام الاجتماعي التقليدي ان يقدم حلولا لازمات فجائية… او لرغبات التغيير و تطور المطاليب الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية…. رغم ان هناك ديناميكية تقليدية للتفاعل مع الأحداث الا ان الغالب هو عدم تمكن النظام الأجتماعي التقليدي من توفير إمكانيات النجاح لأية تغييرات ثورية مفاجئة…. و لذلك يقف النظام الاجتماعي التقليدي في وجه التغيرات الجوهرية … لكن كيف ستتم هذه المواجهة؟؟.. اعتقدان الطبيعة النمطية ستكون حاجزا امام إجراءات غير تقليدية في المواجهة… فالنظام الاجتماعي التقليدي يروم دوما على الحفاظ على النمطية الحركية في المجتمع و هذه الرغبة لن تتحق عن طريق ادخال إجراءات ثورية رادعة قد تطيح بالأمر العام للنظام الاجتماعي..
هنا لابد ان نفهم ميزة مهمة في النظام الأجتماعي التقليدي… و هذه تتعلق بنوع من التوازن القلق بين اتجاهات و تطورات قد تأخذ مسارات متطرفة سواء في الفكر او نمط الحياة اليومية … بكلام اخر… النظام الاجتماعي التقليدي لا يوفر الامكانات الضرورية لتحسين حياة الناس…. لكنه في المقابل يوفر الضمانات الأدنى للحفاظ على حياة الناس… عدم السماح بموت الناس من الجوع ( الا اذا حدثت كوارث طبيعية او حروب او ما شابه… لكن في الحالة نمطية النظام الاجتماعي التقليدي يكون قد تم تدميره او وقفه عن العمل بشكل مؤقت او ربما دائمي)…
كما ان النظام الاجتماعي التقليدي يوفر ضمانات أساسية للتعايش السلمي بين الأفراد و الجماعات خاصة ان الميكانيزمات التغييرية قابلة لقراءة مساراتها و بالتالي قابلة للسيطرة… و بقدر ما تتمتع به هذه النظم بقيم السماحة و تقبل درجات متدنية من الخروج على العادات و التقليد الا أنها تواجه اي تغيير واسع بقساوة هائلة تتجاوز العقوبات النفسية من العزل و التجاهل الى عمليات انتقامية اجتثاثية عميقة تشمل المحيطين و أفراد العائلة و الأهل و العشيرة من غير المتورطين أساساً في عملية التغيير…
مجملا… يمكن القول ان النظم الاجتماعية التقليدية تتمتع بقدر عالي من التضامن الاجتماعي و قدر اقل و لكنه فعال من التكافل الاجتماعي…. اي اننا نتحدث عن نظام مبسط و ربما بدائي مما نسميه في اللغة العلمية النظام الاجتماعي الاقتصادي و الذي يعني ترابط النظام الاجتماعي مع الدورة الاقتصادية التي تكفل القاعدة الاساسية للبقاء على قيد الحياة مع هامش محدد للتفاضل و تحسن الأمور عبر ميكانيزمات مبسطة لتراكم الموارد…. و هذا يحد كثيرا من إمكانيات خلق قوى دافعة للتنمية الواسعة سواء تحدثنا عن المحور العمودي او الأفقي في العملية التنموية….
و هذه هي واحدة من اهم الإشكاليات في قضية بناء تنموية في الشرق الاوسط… ففي حين حاول البعض خلق تصور ان بالإمكان تطوير النظم الاجتماعية التقليدية كما فعلت اليابان بعد الحرب العالمية الاولى و تبعتها دول شرق اسيا التي سميت النمور الآسيوية و كذلك دول اخرى في شرق اسيا…. فان النظريات الغربية التي طبل لها الكثير من المثقفين العرب ذهبت الى ضرورة خلق تغيير جوهري في المفاهيم الثقافية و الدينية و غيرها كأساس أولي لبناء مسار تنموي حداثوي…
الذي حدث في النهاية هو طغيان عملية نزيف داخلي و نخر للنظم الاجتماعية التقليدية بحيث أفقدها القدرة على التواصل و البقاء الا في صور مشوشة و بقايا متناثرة فاقدة للانسجام و القدرة على التفاعل…. بينما حالت الصراعات الخارجية و الهيمنة الغربية دون بناء اي أساس واقعي لعملية تنموية حيث تتفاقم عمليات استنزاف القوى و الطاقات و الموارد بشكل تصاعدي و معها تنهار الامكانات و الأحلام … في ظل هذا الشرخ المتسارع في الاتساع فان اي كلام عن خلق نوع من التوازن كلاماً عبثيّا عند الغالبية من طرفين تزداد الهوة الثقافية بينهما حتى لم يعد هناك مجال للالتقاء الا في ساحات الوغى و انهار الدماء و الجماجم المتساقطة و اغتصاب القيم و حاضناتها…
في مقالات مقبلة سنناقش بشكل ادق و اكثر تفصيلا العلاقة الجدلية بين الحداثة و التقليدية …حبي للجميع..