حاولت الحكومة الأميركية حل أزمة سوريا، واخترعت مفاوضات ثلاث مرات في جنيف تقوم على طرح سياسي متوازن، لكن محور «نظام دمشق – إيران – روسيا» أفسد المؤتمرات الثلاثة. الآن الروس مع حليفيهم ابتدعوا مؤتمرين؛ واحداً في آستانة، والثاني، ينعقد الآن، في جنيف، والبدايات تؤكد النهايات؛ فشل مكرر.
ومع أن الجميع، تقريباً، تعاون مع المشروع الروسي، بمن في ذلك تركيا ودول الخليج، وحكومة ترمب الجديدة في واشنطن، إلا أن ذلك لم يكن كافياً. إرضاءً للروس وتعاوناً مع الأمم المتحدة، تم إيقاف تمويل المعارضة بالسلاح، ومورست الضغوط على الفصائل المعتدلة منها لتقبل بحلول أقل من توقعاتها، ومنع بعض الفصائل من المشاركة، وأيدته واشنطن، وصار المبعوث الأممي دي ميستورا محامياً عن الموقف الروسي. لم ينته «جنيف 4» بعد، لكن الفشل أبرز ملامحه حتى الآن.
هذا الوضع يبين، أولاً، أنه لا يوجد على الأرض فريق منتصر، أو قوي، حتى يمكن فرضه على الجميع بدعم دولي، وهو ما حاولت إيران وروسيا فعله بفرض النظام السوري المتهالك. وثانياً، الفشل؛ لأن الحل المقترح لا يلبي الحد الأدنى من توقعات ملايين السوريين المشردين والخائفين. المشروع ركيزته الإبقاء على النظام حاكماً، يعني ذلك فرض معادلته على الأرض من تهجير وإلغاء للغالبية الباقية من السكان في داخل سوريا. الفكرة في حد ذاتها غير قابلة للصمود حتى لو وقّعت كل الفصائل عليها. إنها معادلة تريد تمكين النظام من حكم معظم سوريا بالقوة، مثل الضفة الغربية تحت الاحتلال الإسرائيلي، باستثناء أن إسرائيل تملك نظاماً وقوة ضخمة مكنتها من المحافظة على هذا الوضع الشاذ. ومع أن الروس حاولوا إقناع عدد من فصائل المعارضة بالالتحاق بالنظام، ومكافأتهم بمقاعد في الحكومة، إلا أن الأمر يبدو لهم، وللجميع، مثل تشريع عملية اغتصاب، ولن يلتحق بالحل أحد ذو قيمة.
وما سبق طرحه من حل سياسي، وكان مرفوضاً من الطرفين آنذاك؛ النظام والمعارضة، لا يزال هو الحل العملي والبديل المعقول… نظام مشترك وليس مجرد تبعية له. ويمكن تطويره الآن، فتبقي على الرئيس، لكن تذهب سلطات الأمن والمال للمعارضة، أو يذهب الرئيس وتبقى الكراسي السيادية في يد النظام، ضمن إطار مشاركة تحميه القوى الإقليمية والدولية. المقاسمة تبنى على معادلة توازن معقولة لكلا الطرفين مصلحة في المحافظة عليها؛ إما الرئاسة، وإما صلاحيات الرئاسة، وليس كلتيهما. لدينا نموذج صامد هو «اتفاق الطائف» الذي أنهى النزاع اللبناني، وهو أكثر تعقيداً من السوري، والذي قام على خلق حلٍ تنازل فيه كل طرف. فدعوات الحرب طالبت بإلغاء حق المسيحيين في الرئاسة وسلطاتها، وتوزيعها بشكل متساو، لكنها انتهت بإعادة توزيع الصلاحيات، بقي الرئيس وراح جزء من صلاحياته للفرقاء الآخرين. من دون «الطائف» ربما استمرت الحرب، وخسر المسيحيون حصصهم هذه. ولو رفض السنة والشيعة أيضاً لجلبت الحرب مزيداً من تدخلات خارجية تديم الحرب، وكانت الساحة اللبنانية قد بدأت تشهد مزيداً من الانقسامات داخل كل طائفة. الوضع السياسي في لبنان اليوم ليس كاملاً أو رائعاً، لكن البلاد على الأقل استقرت. نزاع سوريا أقل تعقيداً، والمعارضة المدنية تقبل بالتشارك وبدستور يحمي كل الأقليات، ولديها في منظومتها تجربة جيدة، سمحت بمشاركة وترؤس السوريين من دون فوارق دينية أو عرقية. أما المعارضة الإسلامية المسلحة، فإن معظمها مرفوض من الجميع، لأنها تحمل مشروعاً دينياً وأممياً ليس في صلب مطالب الشعب السوري.
فشل مؤتمرات آستانة وجنيف سيعيد الوضع إلى الاقتتال، حتى بعد حرمان المعارضة المعتدلة من السلاح، التي اضطر بعضها للتحالف مع التنظيمات الإرهابية حماية لها بعد نفاد ذخيرتها. الفشل المكرر قد يعيد الأطراف المتصلبة للتفكير بطريقة عقلانية وواقعية، مثل إيران التي عليها أن تدرك أنه لن يسمح لها بالاستيلاء على العراق وسوريا ولبنان. لقد حدث توغلها مستفيدة من ضعف إدارة الرئيس الأميركي السابق. وهيمنتها على هذا الهلال الكبير تهدد بقية دول المنطقة وكذلك العالم، إما نتيجة لاستخدام إيران وكلاءها سلاحاً ضد خصومها في كل مكان، بمن في ذلك الأوروبيون والأميركيون، أو لأن الوضع سيستمر مضطرباً فيجذب المتطرفين إليه، وهو ما يهدد الجميع.
*نقلاعن صحيفة “الشرق الأوسط”.