قلنا في المقالات السابقة إن لاهوت الغرب في العصر الوسيط شرَح فداء المسيح متأثراً بالفكر السياسي و القانوني السائد. فقال بأن المسيح دفع الثمن و إحتمل العقوبة و مات عن الخطاة و أرضَي مطالب العدل الإلهي . و طبعاً إنَ تَوافق العقيدة و الإيمان مع مصطلحات القانون الأرضي تَخلق سهولة ووضوحاً يقبله البسطاء و عامة الناس. يقول ق بولس في رومية ١٢:٥ ”مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ “. فنجد أن خطية آدم نتج عنها دخول الموت الروحي إلي طبيعة الإنسان (وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ ). لم يكن موت آدم هو إنفصال النفس عن الجسد، وإنما إنفصال الروح القدس عن النفس ( بالخطية ) هو الذي جلب الموت علي النفس (ق. إيسيذوروس البيلوسي معلم ق. كيرلس الإسكندري ). و بوراثة موت آدم تفسد طبيعة نسله فيفعل الخطية و هكذا مات الجميع ( اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ ) . و ق. بولس يصرخ بإسم الإنسانية بسبب مصيبة الموت / الفساد التي أمسكت بطبيعتنا ” وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ؟ “( رو٢٤:٧).
آباء الكنيسة في الشرق جميعهم قرأوا رومية ( ١٢:٥) هكذا” مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ ( فيه ، أو به ، أي بالموت وليس بآدم أو في آدم ) “. هنا بداية تشعب طريق الشرق و الغرب لاهوتياً . فالوحيد الذي عدَّل النص اليوناني – لأنه كان يجهل اليونانية هو – أغسطينوس أبو اللاهوت الغربي ، فقرأ النص ( إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ – في آدم ) . و هنا أصبح الفرق الدقيق بين الشرق و الغرب هو : ( ١) إما أن يكون مصدر الخطية في الإنسان هو الموت الذي إنتقل بالتناسل من طبيعة آدم بعد السقوط – حسب لاهوت الشرق . (٢) وإما أن خطية آدم الخاصة به هي مصدر الخطية في الإنسانية ككل – حسب لاهوت الغرب . آباء الشرق قالوا بوراثة البشر لطبيعة آدم المائتة، و ليس وراثة الخطية التي فَعَلها لأن الفعل لا ُيوَّرث. أما لاهوت الغرب فقال العكس، أننا نرث خطيئة آدم بالتناسل . و تأسيساً علي ذلك نجد لاهوت الشرق يركز علي التجسد الإلهي كأساس لخلاص الإنسان لأنه يحتاج إلي تجديد طبيعته العتيقة الفاسدة المائتة إلي خليقة جديدة و هي التي أسسها إبن الله في ناسوته بالتجسد الإلهي . فصار من ألقاب المسيح اللاهوتية ” إبن الإنسان“ و” آدم الثاني “. و لتأكيد أهمية التجسد الإلهي في الخلاص نجد أن يوحنا الرسول يجعل منه أساس الإيمان المسيحي. ” وَكُلُّ رُوحٍ لاَ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ، فَلَيْسَ مِنَ اللهِ “.( ١ يوحنا ٤:١) . بينما ركز لاهوت الغرب علي الصليب كأساس لخلاص الإنسان لأن فكر العصر الوسيط و لاهوت حركة الإصلاح في شَرح موضوع الفداء يَعتبر أن تبرير الله للإنسان كان من خلال إستيفاء أحكام شريعة موسي. لذلك فإن قادة حركة الإصلاح جميعاً و بدون إستثناء درسوا رسالتي رومية و غلاطية علي أساس أن المسيح قد نال عقاب الموت الذي ينص عليه الناموس بدلاً عن الإنسان الذي أخطأ . فنال المسيح كإنسان حكم البراءة و العفو من الآب ثم أَعطي لنا هذا التبرير. هذه هي فكرة البديل الُمعاقَب أو البديل الخلاصي و دفْع الثمن و تقديم الترضية للآب التي نشأت في العصر الوسيط منذ أن كتب أنسلم رئيس أساقفة كانتربري كتابه المشهور ” لماذا تجسد الله “. ثم جاءت حركة الإصلاح في القرن ١٦ لكي تمسك بنفس الفكر، و تجعله المبدأ السائد الذي يشرح كل شئ . إن لاهوت الغرب ينظر إلي تبرير الإنسان أنه نتيجة حِفظ المسيح للناموس وسلوك المسيح البار حسب الناموس ثم َقتْل البار ظلماً علي الصليب ، أي أنه نتيجة إستيفاء المسيح للعدل بمفهومه الأرضي . بينما نلاحظ أن ق. بولس في رسالة رومية و غلاطية يواجه تيار التهود و العودة إلي الناموس. و يقول إن العهد القديم الذي يمثله موسي قد أُبطل في المسيح ( ٢كو ١٤:٣) لأن شريعة موسي أتت بحكم الموت علي الخطاة ، و أن نهاية خدمة الناموس هي الموت . و يقول بأن البر هو من الإيمان بالمسيح يسوع لا بأعمال الناموس ” وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ اللهِ بِدُونِ النَّامُوسِ“ (رومية 21:3) . و أن تبرير الإنسان هو علي سبيل النعمة و الهبةالمجانية ” مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ“ (رو٢٤:٣). لذلك جدير بنا أن نتوقف لكي نسأل هل يمكن أن تكون النعمة هي ثمرة تطبيق الشريعة وحفظ الناموس؟. أو إن النعمة تنشأ بقانون أو تصدر من محكمة ؟. لذلك ينتهي بولس إلي حقيقة التدبير الإلهي أن الوسيط الوحيد ربنا يسوع حلَّ محل التوراة والناموس و أن الله في المسيح كان مصالِحاً العالم لنفسه ( ٢كو١٩:٥). و أن العهد الجديد جاء بالحياة ليس كقرار عفو عن الخطاة أو كمبدأ قانوني ُيطبَق حسب قواعد الشريعة و لكن بالإنضمام إلي شخص يسوع المسيح الذي هو الحياة نفسها. و أن التبرير هو التغيُّر إلي مجد الرب. هذا المجد الذي لا يعرفه الناموس ” نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ “ ( ٢كو١٨:٣). لذلك فإن لاهوت الشرق يقول بأن تبرير المسيح للإنسان أُعلِن كنعمةٍ تُوهَب للإنسان بسبب صلاح الله. فهو إعلان محبة وليس إعلان شريعة ” لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ “ ( يو ١٦:٣). و أن الرب لم يمت علي الصليب حسب الناموس ، و إنما حسب النعمة ( المقال القادم ) : ” وَلكِنَّ الَّذِي وُضِعَ قَلِيلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلَّلاً بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ، مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ “ ( عب ٩:٢).
و السبح لله .
بقلم : د. رءوف إدوارد