من أجمل ما قرأت من تعريف بالإنسان أنه الكائن الوحيد الذي له إرث. قال هذا الكلام كبير صحافيي أميركا والتر ليبمان وهو يخاطب خريجي هارفارد عام 1933: من جيل إلى جيل ينقل الإنسان المعارف والأفكار والاختراعات التي توصل إليها، ومن عصر إلى عصر يتحول الماضي إلى مستقبل، والمستقبل إلى تراث وتقليد.
يذكرني هذا بما قرأت بعد أيام ليبمان عما يسمى «غسل الدماغ» في المعسكرات والمعتقلات، كما كان يحدث في الصين وفيتنام في الماضي، وكما لا يزال يحدث في كوريا الشمالية. فمن أشكال العقاب للبعض أن يرمى مواليدهم في معسكرات يربون فيها كالحيوانات، بلا مثل أو قيم أو معايير. أي في تعبير ليبمان، بلا إرث أو تقليد. أو مثل أسطورة طرزان، الولد الذي ينشأ في الغابة ويعيش قافزا بين الشجر مثل أهل الغابة.
قامت الشيوعية على محاولة إلغاء الإرث من أجل صنع إنسان جديد لا علاقة له بأي فكر سابق. لا شيء سوى المادة. لا معبود سوى لينين والحزب. غسلت الأدمغة في المدارس والمصانع والجامعات، ومن أجل ذلك، أقيم ما سمي «الستار الحديدي». الناس ممنوعة من السفر، ومن سماع أي إذاعة خارجية، وحتى من التحدث إلى أي غريب. لكن الستار الحديدي تساقط من ثقوب صغيرة. من إذاعات سرية، وكتب مهربة، وأخبار مهربة، عن نوعية الحياة، ومن بعض السياح الذين يحملون معهم صورا محكية أو مرئية عن «النعيم» الخارجي.
اكتشف أقسى خبراء غسل الدماغ أنه لا يمكن تجريد الإنسان من الإرث، أو التقليد. بهذا المعنى جميعنا مقلدون لإرث لا نعرف تماما عمر تراكماته ومدى تعددها. منذ ألف عام ونحن نجد متعة في حفظ «المتنبي». وكثيرون منا يحفظون المعلقات. ويضاء هذا العالم كله اليوم بمصباح توماس أديسون، كما يسلي النفس بحكايات «مصباح علاء الدين». كل عصر أدبي يولد من عصر آخر ثم يضيف إليه شيئا ما. الشعر الحديث مجرد مولود معدل وراثيا من الشعر القديم. هذا هو السحر البشري. الإرث، أو التقليد، كما سماه ليبمان. ولعله كان يعرف أن جيلا بأكمله من صحافيي العالم في القرن العشرين نشأ على تقليده. دائما تبدأ مقلدا قبل أن يشتد عودك وتصبح ينبوع ذاتك. لكنك تعيش حياتك وأنت تقرأ الذين سبقوك. الأم تغني للمولود الأنشودة التي سمعتها من أمها. ما زال العالم يحضر المسرح اليوناني ومسرح شكسبير ويبحث عن أسرار العلوم في قبور الفراعنة. مصر هبة النيل لكنها وريثة وادي النيل وبحر العمار الفرعوني.
من عصر إلى عصر. من تقليد إلى تقليد. يعاتبني قارئ كريم في البريد: «تكتب عن الحضارات ولا تكتب عن العراق». يا عزيزي، حضارة «دولة القانون» غطت كل حضارة أخرى. نحن مأخوذون بعمليات التطهير البشري. صدام حسين كان ينقل الناس من مكان إلى مكان، وليس من بيوتهم إلى التيه.
نقلا عن الشرق الاوسط