تصاعد الاهتمام بقضية التغيير الديموغرافي في سوريا في الفترة الأخيرة في المستويين السوري والدولي، خصوصًا في ظل عمليات التهجير القسري الذي يواصله نظام الأسد وحلفاؤه في المناطق المحيطة بالعاصمة دمشق، وترحيلهم إلى مناطق أخرى، وهي سياسة تكمل عمليات التهجير الواسعة، التي دفعت ملايين السوريين للخروج من مدنهم وقراهم، والانتقال إلى مناطق أخرى، فيما غادر سوريا أكثر من خمسة ملايين نسمة إلى الخارج، الأمر الذي يعني تغييرات عميقة في البنية السكانية لسوريا، ليس لناحية عدد السكان فقط، وإنما لهوياتهم السياسية والاجتماعية والثقافية، ومما يزيد الأمر خطورة، أنه في الوقت الذي يتم فيه إجبار سوريين على الخروج من سوريا، أو الانتقال من موطن مولدهم وإقامتهم، يتم استقدام آخرين إلى مناطق الإخلاء، وإسكانهم فيها في إطار عملية التغيير الديموغرافي الحالية.
وبالعودة إلى عملية التغيير الديموغرافي، يمكن القول إنها ليست جديدة. وقد بدأت مع مجيء بشار الأسد إلى السلطة عام 2000، والأهم فيها قيام الإيرانيين بشراء أراضٍ وعقارات واستئجار أخرى بالقرب مما يصفونه بـ«المزارات الشيعية» المعروفة، مثل مقام السيدة زينب جنوب دمشق، أو تلك التي «اكتشفوها» في مناطق متعددة من الأراضي السورية، ومنها مقام السيدة رقية بنت الحسين في دمشق القديمة، ومقام أويس القرني في الرقة، ومقام النبي هابيل في ريف دمشق الغربي على طريق دمشق/ الزبداني. وعبر بوابة المزارات، أخذت تظهر ملامح شيعية إيرانية في مناطق سورية عدة عبر ثلاثة من المظاهر؛ أولها توسيع تلك المزارات وإعطاؤها طابعًا معماريًا ومذهبيًا خاصًا، والثاني افتتاح مكاتب وحوزات دينية للشيعية الإيرانية ومن يدور في فلكها، والثالث إقامة وتطوير بنية سكانية وأنشطة اقتصادية، ترتبط بتلك المزارات والقادمين إليها، وكان المثال الأوضح في دمشق، حيث تحولت مدينة السيدة زينب بأغلبيتها السنية إلى مدينة ذات أغلبية شيعية، وصار الوجود الشيعي ظاهرًا في محيط مقام السيدة رقية في منطقة العمارة بوسط دمشق القديمة.
ورغم استمرار هذا الخط بشكله الاجتماعي – الاقتصادي والثقافي، وبالتالي السياسي من عملية التغيير الديموغرافي، فقد خلق الصراع المسلح في سوريا خطًا آخر موازيًا من طبيعة أمنية عسكرية، والإشارة تتصل غالبًا، بما قام به «حزب الله» والنظام في الخط الممتد على الحدود السورية – اللبنانية في محافظتي حمص وريف دمشق الغربي. ومنذ بداية الصراع المسلح، عمل «حزب الله» والنظام على تدمير مدن وقرى هذا الخط بالهجوم على قصير حمص، وتهجير سكانها، واستيطان «حزب الله» بمسلحيه وعائلاتهم فيها، وبناء معسكر لتدريب الأطفال على القتال، وضمهم إلى قواته، وجرى اتباع المسار نفسه تقريبًا في التعامل مع مدينة يبرود، التي تحولت إلى قاعدة عسكرية وسكنية لـ«حزب الله» في القلمون الغربي، فيما كانت ميليشياته بمشاركة قوات النظام، توسع نشاطها غرب دمشق، وتحاصر مدنًا وقرى، منها الزبداني ومضايا، التي جرى في العام الماضي ترحيل أغلب سكانها قسريًا، مما مهد فعليًا لإحلال مستوطنين مكانهم باستقدام سكان من بطانة «حزب الله» ومؤيديه، وهو الأمر المنتظر في داريا، التي تم ترحيل من تبقى من سكانها أخيرًا.
ورغم أن لهذا الخط نفس هدف الخط السابق من تأمين وجود اجتماعي – اقتصادي وثقافي وبالتالي سياسي، فإنه يزيد عليه هدفًا في غاية الأهمية، وهو هدف أمني – عسكري، أساسه سيطرة شيعية مؤيدة لنظام الأسد وإيران على جانبي الحدود السورية – اللبنانية، وتأمين طريق دمشق – شتورا وصولاً إلى بيروت.
وإذا كانت عملية التغيير الديموغرافي، قد أظهرت استهداف المسلمين السنة، باعتبارهم أكثرية سكان المدن والقرى، التي كانت موضع تهجير قسري، فإن الأمر لم يقتصر على هؤلاء وحدهم، كما تدلل الوقائع. ففي القصير ويبرود، كما في الزبداني ومضايا وداريا سكان من المسيحيين السوريين، جرى ترحيلهم قسريًا أيضًا في إطار السيطرة الأمنية – العسكرية على المناطق الحساسة، وهذا ما جرى ويجري العمل عليه في قلب العاصمة دمشق، إذ تتواصل ضغوطات على المسيحيين في أحياء القيمرية وباب توما المجاورين لحي الأمين الذي تعيش فيه أغلبية شيعة دمشق لبيع بيوتهم والخروج من المنطقة، كما يجري الاستيلاء على البيوت، التي خرج منها سكانها لسبب أو لآخر، وإحلال آخرين مكانهم في إطار تشييع المنطقة كلها، وقد تعرضت مدينة السويداء، التي تسكنها أغلبية من الدروز السوريين في العامين الأخيرين إلى حملة تغيير سكاني، عبر سعي لشراء بيوت وعقارات فيها بأسعار خيالية، بهدف خلق نواة لاستيطان «شيعي» موالٍ لنظام الأسد وإيران، لكن انتباه أهالي السويداء، حد من تحقيق هذا الهدف، وتتكرر بعض تفاصيل هذه الظاهرة في كثير من المدن الخاضعة لسيطرة النظام في دمشق وطرطوس واللاذقية.
وكما يتنوع السكان الذين يستهدفهم التغيير الديموغرافي، فإن الذين يحلون مكانهم متنوعون أيضًا، فإضافة إلى عناصر الميليشيات الطائفية من «حزب الله» اللبناني إلى حركة النجباء والفاطميين وغيرها من العراقيين والميليشيات الأفغانية والإيرانية وعائلاتهم الذين يحلون مكان السكان المرحلين قسريًا، فإن السلطات السورية فتحت الأبواب لمؤيديها من الجنسيات العربية والأجنبية للحصول على الجنسية السورية، لتمكينهم من شراء الأراضي والعقارات، والانخراط في الأعمال الاستثمارية، الأمر الذي يجعلهم جزءًا من التغييرات الديموغرافية الحالية.
إن عملية التغيير الديموغرافي بما تمثله من مسارات أغلبها دموي وله طابع الإكراه، ومن أهداف أبرزها دعم نظام الأسد وحليفه الإيراني وميليشياته، تمثل واحدة من أخطر جرائم الصراع السوري، بل إنها فتحت الباب واسعًا أمام قوى التطرف، وفي مقدمتها «داعش»، لممارسة هذه السياسة وتعميمها في أنحاء مختلفة من البلاد، مما جعل سوريا ميدانًا لتغيير ديموغرافي متسارع، إذا استمر الوضع على ما هو عليه، وتواصل الصراع المسلح لفترة أطول، الأمر الذي يتطلب تحركًا دوليًا لوقف عمليات التغيير الديموغرافي ومحاسبة المجرمين القائمين عليه وفق مضامين القانون الدولي والإنساني.
*نقلاً عن صحيفة “الشرق الأوسط”