تعرضت قلة من سمات المانوية لتفحص دقيق اكثر من الوجود المحتمل للطقوس المانوية المقدسة وخاصة طقوس التعميد والعشاء الرباني ، وكان “بور” قد اشار الى صعوبة التوصل الى أية استنتاجات بخصوص هذه المسألة وتفحص بدقة الدليل المتوفر في ذلك الحين .
وقد أكد في بداية دراسته على ان التباين كان شديدا بين “المجتبين” و “السماعين” الى حد يمكن الافتراض أن شروطاً خاصة كانت موضوعة تحدد الدخول الى دائرة “المجتبين” ، ويمكن أن نفترض بأن الأرتقاء قد اخذ شكل طقس تعميدي ، ويمكن استخلاص هذا من كتابات القديس “أوغستين” .
ان مقصد المانويين وبما يتعلق بالمؤمنين الذين ولدوا من جديد بواسطة التعميد ، فقد كان إنجاب الأطفال بين المانوية عملاَ غير موائم ، ومع ذلك لم يكن من المألوف بينهم تحقيق دخول بين المولودين من جديد بوساطة طقس تعميدي ، ويقول “بور”( سيكون من الأكثر موائمة ان نتذكر مقطعاَ من كتاب أوغستين ، حيث ناقش المدى الذي تطابقت فيه الممارسات والأساليب المانوية مع الممارسات والأساليب التي أخذ بها المسيحيون ) .
وكما يلاحظ ” بور” تماماً ان تلك المقاطع من كتابات أوغستين والتي تتحدث عن الرفض المانوي للتعميد على انه تطهير بالماء ، تترك باب الاحتمال مفتوحاً على ان هذا الطقس كان له معناه لدى المانويين بشكل او اسلوب مختلفين .
وقبل “بور” كان قد جرى الانتباه الى ملاحظة كتبها أسقف توريبيوس ، جاء فيها ( أن المانويين قد عُمدوا بالزيت ) حسبما جاء في ” أعمال توما ” التي قدروها كثيرا ، ويبدو انه قد تم التأكيد على هذه الاشارة بذكر المسح بالزيت في هذه الاعمال قيما يتعلق بالتعميد ، وذلك دون التحدث عن التطهير بالماء ,, حسب الرواية الأغريقية لهذه الاعمال ,, .
ويصل ” بور ” الى الاستنتاج التالي:
” لم تتعرض المانوية للنقد من قبل المسيحيين لأنهم افتقروا الى التعميد ، بل على العكس كان عندهم أمراً مستلزماً ضمنياً . ان هذا التعميد لم يكن تطهيرا بالماء وإنما من المؤكد انه تكوّن من المسح بالزيت ومسح الأيدي . وهكذا دل التعميد المقدس على انه طقس ديني أولي حيث جرى بوساطته التأكيد للذين تم قبولهم من المجتبين على انهم حُرروا من الآثام وهو الشرط اللازم لنيل عضوية جماعة الكمال هذه ,, أي جماعة الصديقين ,, ” .
وهكذا تؤكد النصوص القبطية التي جرى نشرها عام 1930 حول المسألة برمتها . رأي بور انها توسعه وتصححه الى حد ما في الوقت ذاته .
كان التعميد بالماء مرفوضاً على وجه التحديد ، بيد ان المؤرخ والباحث الألماني ” بوخ ” شديد الشكوك تجاه قبول وجود طقوس مقدسة بين المانويين ، ويتبنى موقفا سلبياً واضحاً أزاء المقاطع التي جرى الأستشهاد بها من قبل ، ومع ذلك فانه يعجز عن التعبير بموقف تجاه سلسلة الأراء المادية في المزامير القبطية حيث توجد اشارات الى طقوس معينة مماثلة للتعميد ، فعلى سبيل المثال يعبّر المتعبد عن رغبته ليتم غسله بمناسبة عيد الوليمة المقدسة بقطرة ندى من بهجة ماني ، ويجري التوسل الى ” آيسو ” ليغسل المتعبد بمياهه المقدسة . ويصرخ المتعبد قائلاً :
” أنظر، كاد الوقت يمضي ، هلا أستطيع العودة الى موطني ” .
وتظهر الرغبة مراراً وتكراراً في ان يصبح المتعبد أهلا للدخول في غرفة النور الزفافية ، ويمضي المزمور ذاته قائلا :
” طهرني بمياهك ياخطيبي السماوي ، يامخلّصي “.
وعند لحظة الموت سيظهر القاضي نفسه للروح بوجه مليء بالسعادة ، وسيغسله ويطهره بندى مفيد ، وقيل في مكان اخر ان الروح سيتم تطهيره بندى عمود المجد حتى يمكن قبوله من قبل المخلّص .
وتعطي هذه النصوص الانطباع انه سيتم تطهير الروح الصاعد بعد الموت الى غرفة النور الزفافية بمياه المخلّص المقدسة ، وتستخدم كلمة ” مو ــ أي الماء ” وهي توصف ايضاعلى انها تعني الندى المفيد ، ويحصل التطهير هذا بالارتباط مع صعود المخلّص ، ولهذا السبب ان صعود الروح والتطهير بالماء المقدس والدخول الى غرفة النور الزفافية تشكل نظاماً من العلاقات المتبادلة المعقدة ، وهذا يعني ان طقس التطهير هذا ذي فكرة ميثولوجية قد ماثلت الطقس الذي حدث عند موت أحد المجتبين، ويعيد هذا الى الذاكرة مايسمى قداس الموتى الجماعي لدى المندائيين ، وهو عبارة عن تعميد يقام في جماعة المصلين المندائيين للشخص الميت ويتطابق مع القداس الاخير ، ومن المحقق ان توارد الافكار وتعاطفها مع ما هنالك من صلة عضوية بين صعود الروح وتعميد التطهير والدخول الى الغرفة الزفافية موجود في الديانة المسيحية الغنوصية والمندائية والمانوية ، وهي تظهر حشدا من المفاهيم التي كانت قائمة قبل الديانة المسيحية اي في العهود البابلية والاشورية وحتى السومرية في اغلب مراحلها ، والتي تظهر بوضوح كبير داخل الديانة المسيحية ذاتها لدى السريان وخاصة في الكنيسة النسطورية ، وتشير حقيقة وجود هذه المفاهيم في النصوص المانوية بشكل اكيد ، الى وجود طقوس تعميدية متطابقة ، وذلك على الرغم من ان السمة الغامضة للاشارة تجعل من الصعب تكوين صورة دقيقة للطقوس كل على حدة . وينبغي التذكر ان ” الكاثاريين ” ( أمة هندية اعتادت الزوجات فيها اصطحاب جثث ازواجهن الى منصة الاحراق، واحراق انفسهن معهم ) ، في العصور الوسطى لم يمارسوا سوى تعميد الموت ، او التطهير المسمى ” كونسولامتوم ” ,, اي مسح الأيدي ,, وكما لوحظ من قبل ، يقدم “بور” حجة مقنعة للأعتقاد بأن التعميد كان عملا تكريميا للمجتبين ، وذلك انه جرى تفسير الادلة بشكل خاطيء ، او كان هناك نوعان للتعميد كان احدهما للقبول للمجتبين وهو المساوي للتعميد المسيحي ، والاخر تعميد الموت او التطهير وهو المساوي لتلقي المسح للأيدي بالزيت . واذا تكلمنا عن الطقوس والذي لم يكن سوى طقس تعميدي عند باب الموت ، وتتم الاشارة في فصل مترجم من” القفلايا ” وهو الكتاب المانوي المقدس وهو الفصل (164) والذي لم ينشر حتى الان ، الى قداس من النوع الذي يزود به المريض وهو يلفظ أنفاسه ، وهو وضع مناسب تماما مع تعميد الموت او التطهير ، لان الفكرة هي ان الروح تزود بزاد لرحلتها الى الاخرة ، وهي فكرة شائعة على وجه العموم ، وقد ظهرت دائما الى حيز الوجود وبشكل فعال في نظام رمزي عرفاني ( على سبيل المثال في ترتيلة اللؤلؤة ، وترتيلة ” مسقتا” المندائية ) .
ومن وجهة نظر طقوسية صرفة من الممكن ايضا عدّ طقس مسح الأيدي المانوي الذي اصبح المترهبون بواسطته ابناء للكنيسة ، بمثابة بديل للتعميد ، ولهذا السبب يمكن التخيل تماما ان المانويين مثلوا وأكملوا تكريس ” المجتبى ” بدهن الأيدي بالزيت فقط ، ولم يعرفوا بالتالي الا شكلا واحدا للتعميد او التطهير ، وهو التعميد الذي كان يتم قبل الموت .
وفي النهاية ينبغي التبيان انه لايمكن اجراء تقويم مفصّل الى ان تتوفر نصوص جديدة ، وذلك على الرغم من ان المادة الموجودة تشير بالفعل الى وجود نوع من أنواع الطقوس التعمدية …