يعيش السوري اليوم أزمة انتماء وصراع هوية بين حضارة شعب وبلد يتجاوز عمرها حضارياً السبعة آلاف عام وبين تغييب وطمس لهذه الحضارة وإبعادها عن دورها الثقافي الحقيقي. ومع دخول الحرب في سوريا عامَها الخامس؛ كان العمل على زَعزَعة النسيج السوري المُتفرّد بتنوّعه وإدخال الفتنة بين أطيافه أحد أهداف وتداعيات هذه الحرب التي أحْدثَتْ انشقاقات بين بعض فئات من السوريين نتيجة الإنقسام الفِكري والسياسي والديني. وتِباعاً فقد تَردَّد كثيراً خلال السنوات الأخيرات كلمة نظام عِلماني ومجتمع مدَني وعلى نِطاق ٍ واسع تِبعاً لأشكال التطرّف الذي ساد الشارع السوري وخاصةً التطرّف الديني والفِكر العُنصري الذي ظهر وتفشّى خلال هذه الفترة وهو دخيل على المجتمع السوري، هذا فَضلاً عن ضَياع دور القانون في ظلّ مجتمع ما زالت كثير من فئاته تُعاني من القَبَليّة فِكراً وموروثاً ولم يَصِل المجتمع بشكل عام للفِكر المَدَني ومفهوم العِلمانية الحقيقي.
وفي صَدَد هذا الصراع، صراع الحضارة السورية والفِكر التنويري مع الفِكر التكفيري والإقصائي؛ يطرح البعض تساؤلاتهم عن الحل وإمكانية العيش المُشتَرَك بعد كل ما حدث وعن التعددية والديمقراطية والنظام العِلماني الذي يُنادي به الكثيرون، وعن الإنتماء للوطن وليس للطوائف المختلفة. من هنا وللتأكيد على عدم تجريد سوريا من تاريخها وحضارتها ونسجيها المُتنوِّع لا بُدَّ من التذكير:
إنّ تَمازُجَ الحضارات العِرقية والإثنية والدينية إغناءٌ ثقافيٌّ وفِكريٌّ للمجتمع وتعزيزٌ لانفتاحِه وقوّتِه وليس العكس؛ حيث هذه التعددية والتنوُّع
“Diversity”
هي ما أعطَت سوريا تلك النكهة الخاصة والمميزة عبر التاريخ وقرّبَت ما بين الحضارات.
فعملية تواصُل واختلاط الشعوب والثقافات
Cross-Cultural Communication
والتعايُش ما بين الأديان في سوريا الكبرى، كوّنَت تلك الهوية الجَماعية والشخصية لكل سوري اليوم وأنا أشمل بهذا لبنان أيضاً وفلسطين والأردن والعراق حيث هوية واحدة تجمعنا هي الهوية السورية التي غابَتْ في ظلّ الصراعات الأخيرة و فَقَدْنا بغيابها انتماءنا وغُيِّبَ تاريخنا لتُفرّقَنا الإنتماءات السياسية والعقائدية والدينية وتُقرّر مصيرنا الأحداث الجارية. ولهذا نُؤكّد وكسوريّين أننا نحمِلُ في ثقافتنا الشخصية والفِكرية موروثاً سورياً مسيحياً إسلامياً فينيقياً، وأرض سوريا كانت مهد الديانات وتاريخها يشهد بهذا، وإنّ إسلامَنا السوري مسيحيّ، ومَسيحيّتنا مُتأسلِمة، ونحن شعبٌ واحد، ولن يُنقذنا سوى العِلمانية والتعددية والديمقراطية المُتمثِّلة بدولة القانون.
إننا نسعى لوطن يحوي الجميع بمختلف انتماءاتهم، وأن تكون سوريا للسوريين جميعاً بمختلف أطيافهم وعقائدهم. فقد فشل المشروع القومي العربي كما كان بشكله السابق والذي نادى بالعروبة واعتبرها حَلاًّ لمشاكل الوطن العربي مُغيِّباً بهذا وجود قوميات أخرى في الوطن العربي لا تنطوي تحت هذا المشروع. حيث فشلت العروبة أيضاً كإيديولوجية وأثبتَت عجزَها عن احتواء كل القاطنين في البلاد العربية من غير العرب وفي سوريا تحديداً كالأرمن والأكراد والسريانيين وغيرهم، وبهذا فلا تصلح أن تُعتَبَر أساساً إيديولوجياً يجمع كل سكّان العالم العربي وخاصةً في الوضع السوري حيث التعددية شكّلَتْ أحد أهم أركان قوة المجتمع وهويته السورية الجامِعة.
لا بديل عن التعددية والعيش المشترك في ظل نظام عِلماني حقيقي يحفظ حق الجميع في دولة القانون. مع هذا، قد لا يمكننا الحديث عن قانون عِلماني بدون مجتمع مدَني يَقبل ويَرعى مفهوم العِلمانية ودولة القانون؛ فبين العِلمانية والمَدَنية علاقة مُتداخِلة تدعم إحداهما الأخرى وتَرعى فِكرها وتُعزّز تطبيقها. وقد يُطرَح السؤال التالي: مَن يأتي قبل؛ النظام العِلماني أم المَدَنية؟ وهل حقاً شعوبنا غير مُهَيَّأة لنظام عِلماني؟ برأيي لا يوجد شعب مُهَيّأ وآخر غير مُهَيّأ للنظام العِلماني، فهو بحدِّ ذاته كَفيل بتغيير عقلية الشعوب والانتقال بها من البَداوة للمَدَنية مروراً بالقانون حيث القانون هو الأداة والوسيلة للتغيير في المجتمعات.
فبعد عُقودٍ من الفوضى والانحدار الثقافي والاجتماعي، لم تُخلِّف الأنظمة العربية إلاّ الفراغ السياسي والشلَل الفِكري كما الفشل القَضائي أيضاً كنتيجة لشبه انعدام دور القضاء وسلطة المسؤولين والحُكّام التي علَت فوق كل شيء. فقد سادت بل وأُقحِمَت سياسة التَّبَعِية في ظل هذا الفراغ، وهُمِّش دور القضاء والمرجعية القانونية. “القانون” هو ما يجب البدء به في أي مشروع تَقدُّمي؛ قانون يُطَبَّق على الجميع ويساوي بين أفراد الشعب بالواجبات والحقوق، وهذا ما يُعزّز حِسّ المواطَنة عند أبناء البلد الواحد ويَشعُر المواطن أن له صوت يُسمَع وأنه شَريك في أي قرار أو مشروع سياسي لهذا الوطن.
القانون هو الأساس الذي ينمو عليه النظام العِلماني. النظام العِلماني الذي هو أحد أهم تطوّر المجتمعات البشرية على الصعيد السياسي والاجتماعي، وهو ما يُنتِج ويُرسّخ معنى المُواطَنة الحقيقية بين أبناء الشعب الواحد وتتعدّد فيه التيّارات السياسية والثقافية بحماية قانونية ويتمّ فصل الدين السياسي عن الدولة ويُحكَم الشعب بموجب القانون والدستور.
ولا يقتصر النظام العِلماني على مُمارسة تعدُّد الأديان، ولا ينحصِر فقط بحرية اعتِناق المذهب؛ بل يكون مُتمثِّلاً بدولة القانون وانفصاله عن الكتب الدينية. فالنظام العِلماني يُعنى بالقانون وشكل الدولة من مؤسّسات وأنظمة داخلية ودستور ويَدخل في قانون الأحوال الشخصية والمحاكم كالزواج المدني والطلاق وقوانين الإرث ومشكلة النظام الأبوي وحقوق المرأة والمساواة وغيرها.
[لكن من جهة أخرى، العِلمانية لا تعني بأي حال من الأحوال الإلحاد أو إلغاء الدين؛ الإلحاد هو مُصطلح ديني بحت بمفهومه العلمي، كما أنه موقف شخصي وفلسفي وليس عقيدة، بينما العِلمانية هي فصل الدين عن السلطات والقانون مع حرية اختيار وممارسة الأديان بالإضافة لما سبَق].
في النظام العِلماني، الإنتماء يكون أكثر تعمُّقاً للوطن الكبير الذي يحوي الجميع على اختلاف مُعتَقَداتِهم، ويتلاشى مع الوقت الإنتماء الديني أو العِرقي أو الإثني، ويُساهِم النظام العِلماني بإنشاء روح مُقاوَمة مَبنية على تعزيز العقل والفِكر لدى المواطن بما في هذا بناء المؤسسات وتقوية البُنية التحتية للمجتمع بدولة قانون حقيقية. بهذا يكون العمل على خَلْق مقاومة حقيقية ويكون المجتمع على قِدَم للإنتقال من البداوة للمَدَنية ومن الِحصار الفِكري والإقصاء للتعددية، حيث النظام العِلماني خطوة أولى للنُّهوض المُجتمعي وهو الطريق للمَدَنية؛ فالمَدَنية فِكر ومُمارسة وليست عقيدة. فما زال البعض يخلط بين المدَنية والأنظمة السياسية والدستور، إنّ المدَنية ليست شأناً سياسياً، ولا نَصاً في دستور، ولا قانوناً من قوانين الدولة – مع أنها تحتاج لقانون ينصّها ويحميها – المدَنية فِكر، إنسانية، وأخلاق. المدَنية تُهذّب النفس وتُنشِئ جيلاً خالياً من العُنصرية يقبل الطرف الآخر مهما كان مختلفاً عنه، ويكون انتماؤه ليس فقط للوطن الكبير؛ بل للإنسان والإنسانية. لهذا، لا بُدَّ من نظام عِلماني يَرعى التعددية في دولة القانون، ونشر ثقافة المَدَنية.
للمساهمة بهذا، يجب اعتراف جميع الأطراف ببعضها كخطوة أولية للتعددية وأحقية كُلّ من هذه الأطراف بممارسة دوره وحقوقه في دولة يكون شعار الجميع فيها سوريا للسوريين جميعاً ، كانت وستبقى، وبضرورة التأكيد والحفاظ على الهوية السورية الجامِعة والتي لن تبقى إلاّ في ظل نظام عِلماني حقيقي ودولة القانون والمواطَنة.
ريم شطيح – كاتبة وباحثة سورية
Author Reem Shetayh
لمتابعة الكاتبة، صفحتها على الفيس بوك
https://www.facebook.com/R.Reem.Shetayh