كاتب ومفكر عراقي
تضطلع وزارة الخارجية في البلدان ذات السيادة الكاملة بدور مهم في حالتي الحرب والسلم على حد سواء، ويمكن الجزم بأن هذا الدور يتجلى بشكل أكبر في أوقات الحروب والأزمات الداخلية والخارجية، حيت تكون الوزارة أشبه بخلية النحل، الجميع في حالة إستنفار وعمل مشترك ونشاط متواصل. غالبا ما تجري المعارك الدبلوماسية في الدهاليز وليس على السطوح، طابعها السرية والكتمان والبعد عن الأضواء الإعلامية قدر الإمكان. وقد تميزت وزارة الخارجية العراقية قبل الغزو بصلابة مواقفها، والولاء للوطن والشعب، علاوة على كفاءة ومهنية الوزراء الذين تسلموا حقيبتها، يعاونهم نخبة محترفة وماهرة من الوكلاء والسفراء.
لذا كانت الوزارة موضوع إهتمام وإعجاب الدول العربية والأقليمية والغربية، وذات هيبة ومكانة كبيرة، العديد من الزعماء أبدوا إحترامهم للوزارة سواء كانوا من اصدقاء العراق أو أعدائه. ودأبت الوزارة على إستخدام مبدأ المقابلة بالمثل كمبدأ سيادي في علاقاتها الدولية، مما عزز موقفها من جهة، وحفز بقية الدول على التعامل معها بحذر شديد من جهة أخرى.
مع كثرة الوزراء وإختلاف ثقافاتهم وشهاداتهم العلمية وإنتماءاتهم الحزبية ومهامهم الوظيفية السابقة لكنه لم يشذ عن قاعدة الصواب أي منهم خلال عمله الطويل أو القصير في الوزارة. كانت الخطابات والكلمات والتصريحات الرسمية والحوارات في المقابلات الصحفية نقية، واضحة، شافية وكافية، خالية من الأخطاء والهفوات، لذا لم نسمع من وزير أو وكيل وزارة إعتذار عن خطأ ما قد أرتكبه خلال عمله، أو هفوة في الكلام خلال مؤتمر دولي، او تعامل غير دبلوماسي مع الأقران، مع الإعتراف بأن مثل هذه الأمور قد حدثت بشكل محدود الحالات والتأثير على مستوى السفراء، سيما ممن لم يولدوا في رحم الوزارة، وإنما نُسبوا من وزارات أخرى للعمل فيها أو بصيغة إستعارة خدمات.
خلال الحرب العراقية الإيرانية والحروب التي لحقتها لمعت وزارة الخارجية في نشاطها السياسي، وقد غطى بريقها الساحتين العربية والدولية، ورغم إن الوزارة لا يمكنها الخروج عن توجيهات القيادة العليا في الدولة، لكن هذا لا يطمس دورها الفاعل في تقديم الأفكار والإقتراحات للرئاسة، وغالبا ما كانت الأخيرة تأخذ بها. وقد أعطى هذا التعاون ثمار ناضجة قبل الغزو.
بعد إحتلال العراق قام معول المحاصصة الطائفية بتدمير السور الدبلوماسي بطريقة بشعة، فقد دخل الوزارة الكثير من العناصر السائبة التي لا علاقة لها بالدبلوماسية، ولا تفقه شيئا من العلوم ذات العلاقة بالسياسة الخارجية سواء على مستوى الوكلاء او السفراء وبقية الدبلوماسيين، حتى الذين سبق لهم العمل في الوزارة وعادوا لها، فهم ممن إنقطعوا عن العمل في الوزارة لعقود خلت، أو إنهم طردوا منها لأسباب معروفة للداني والبعيد كالفساد الأخلاقي والإختلاس بالدرجة الأولى، وعدم الكفاءة والإهمال بالدرجة الثانية، مع إنهم جميعا إدعوا إنهم طُردوا من الوزارة لأسباب سياسية، وهذا غير صحيح، لأن الوزارة محصورة بالبعثيين فقط بإستثناء قلة من السفراء لا يتجاوزوا أصابع اليد الواحدة بسبب الحاجة الملحة لخدماتهم حينذاك.
بعد الغزو الغاشم، وبطريقة التفقيس الدبلوماسي السريع تخرجت عناصر دبلوماسية من معهد الخدمة الخارجية قضوا في رحم أمهاتهم أكثر من أربعة أضعاف المدة التي قضوها في المعهد. أما السفراء فقد أدغموا في الوزارة كما تدغم الأشواك بين الأزهار. وقد أشار الكثير من الكتاب الأفاضل إلى المخازي والفضائح التي رافقت عمل السفراء والموظفين بعد الإحتلال الأمريكي للعراق، والحقيقة إن ما أعلن من الفضائج لا يتجاوز 1% من المستور. فبعض الإساءات لا يمكن أن يتصورها العقل ولا يجرأ على القيام بها ذئاب وخنازير وليس بشرا.
لم تكن للوزير الكردي هوشيار زيباري سلطة على السفراء والموظفين بإستثناء الموظفين القدامى في الوزارة بإعتبارهم عناصر مشكوكة الولاء! أو لا يوجد عندهم سند حكومي أو حزبي يدعمهم على أقل تقدير. ويمكن للوزير أن يطرد منهم كما يشاء، وينقل إلى خارج الوزارة ما يشاء، ويعاقب دون أن يواجه مشكلة مع الأحزاب الحاكمة. لذا يلاحظ أن اكثرية المعاقبين في الوزارة هم من العرب أولا، ومن الموظفين القدامى ثانيا. وهذا شاهد على صدق كلامنا.
على الرغم من أن الوزير هوشيار زيباري قد حول وزارة الخارجية العراقية إلى وزارة خارجية كردستان، لكنه كان بعيدا عن الأضواء أو المحاسبة والإستضافات البرلمانية، وذلك لأن موقفه قوي كموقف الأكراد، ولقرابته لمسعود البرزاني، وابتعاده عن الأضواء الإعلامية مفضلا عليها الخمر والليالي الملاح. لذا كانت أخطاء الوزير والوزارة محدودة التداول إلا ما ندر. ومع هذا فالحق يقال أن الوزير الزيباري كان أفضل الفاسدين من الوزراء أقرانه. وأكثر ما يؤخذ عليه هو إنتمائة الى كردستان وليس العراق، وهذا شأن الأكراد عادة. فغالبية الأكراد إنتمائهم للقومية فقط، وغالبية الشيعة إنتمائهم للمذهب فقط، وكلاهما يضحي بالوطن من أجل القومية والمذهب.
عندما تولى إبراهيم الجعفري وزارة الخارجية كان الأمر صدمة صاعقة لمن يعرفه، أو لا يعرفه إلا من خلال سفسطته في الكلام وأحاديثة الميتافيزيقية التي تعبر عن هزل وعبث وليس فلسفة وجد. الرجل يعاني من إسهال لفظي، وتبذير مسرف بالعبارات، وعدم ربط الكلمات، وأفكاره متناقضة مشتته ومتلاطة كتلاطم أمواج بحر غاضب في يوم عاصف. لا تخرج منه بفائدة لو تحدث ساعات وساعات. كما إنه لا يستطيع أن يضبط فرامل لسانه، ولا يقدر طبيعة عقلية الناس الذين يلتقي بهم، حديثه واحد سواء مع فلاحين أو رعاة بقر أو مثقفين أو دبلوماسيين او علماء. يشبع الحاضرين عواهن الكلام والطلاسم المحيرة.
لا شك أن احدى أهم مستلزمات منصب وزير الخارجية هو معرفته بلغة أجنبية واحدة أو أكثر سيما اللغات العالمية المعروفة، وعلى الرغم من كون الجعفري قد عاش عقودا في لندن لكنه لا يستطيع التحدث باللغة الإنكليزية، ليس إتقان أو إجادة وإنما معرفىة بسيطة كصياغة جملة! ولا أحد يجهل ان جميع خريجي كليات الطب العراقية يتقنوا اللغة الإنكليزية إلا الجعفري! لأن دراستهم غالبا ما تكون باللعة الإنكليزية، ويعتمدون على المصادر الإنكليزية، وأكثرهم زملاء في كليات بريطانية. الذين يعرفون الجعفري عن قرب في لندن يعلمون ان الجعفري فشل في معادلة شهادته العراقية بالبريطانية، وكان فشله بسبب اللغة والمهارة معا. لذا وجد الرجل في نفسه قابيلة عالية للعمل كحملدار في نقل الحجاج والحضور الدائم في الحسينيات، هكذا كان عمله في لندن وقد نجح فيه. والرجل ليس من رجال الدين كما يعتقد البعض لكونه من أقطاب حزب الدعوة، فقد تحايل على السلطات البريطانية وطلق زوجته صوريا للحصول على شقة ثانية، وهذا ما لا يفعله رجل دين، وأفعاله بعد الغزو تؤكد إنه رجل دنيا وليس آخرة.
يؤكد معارفه في لندن بأنه كان يعيش على المساعدات الإجتماعية بموجب تقارير طبية تؤكد عدم صلاحيته العقلية والنفسية التي تؤهله للعمل. وهذه الأمور لم تعد أسرارا، فمعظم العراقيين يعرفونها. وعندما جاء على ظهر الدبابات الأمريكية للعراق كبقية جوق العملاء والجواسيس، وشغل منصب رئيس الوزراء، كانت تلك الفترة أسوأ فترة عاشها العراق، حيث إندلعت الحرب الأهلية وحرقت اليابس والأخضر، وكان الرجل في قمة الطائفية والإبتذال السياسي عندما توعد أهل السنة بأن لا يبقى أي منهم في بغداد. إنه رجل فاشل وفق كل المقاييس البشرية، فاشل في كل حقول المعرفة والعلوم إلا الهذيان والطائفية.
الصدمة الثانية كانت في تولي الجعفري وزارة الخارجية خلفا للزيباري وقد أشار البعض إن هذا المنصب مُنح له تكريما وخارج إطار المحاصصة! ولا نعرف ما المقصود بهذا التكريم؟ ولا نفهم كيف مرر النواب الشيعة الماء من تحت نواب السنة دون أن يفطنوا إلى خطورة هذه المنصب! وكيف تناسوا مواقف مفجر الحرب الأهلية عامي 2006 و 2007؟ أن يعين الجعفري رئيسا للوقف الشيعي أو مسؤولا عن الحج أمر يناسبه تماما، ويتوائم مع خبراته وإمكانياته الذاتية، أما أن يكون وزيرا للخارجية فهذا فعلا العجب العجاب.
كيف يتمكن هذا الرجل المريض من الوقوف في المحافل الدولية ويستعرض مواقف العراق الغارق في مستنقع الإرهاب والأزمات؟
كيف يمكنه أن يتحاور مع الأطراف الأخرى مع الكم الهائل من الهراء الذي يحمله في دهاليز ذهنه الرطبة المظلمة؟
كيف يساهم في تفعيل النشطات مع بقية الدول ويحفزهم لمساعدة العراق؟
بل كيف يجلس مع أقرانه وزراء الخارجية ممن له باع طويل في العمل الدبلوماسي؟ من المؤكد أن ثمار عمله ستكون فاسدة! وهذا ما حصل مؤخرا. هذه واحده من هفواته وليس أولها أو آخرها.
قال الجعفري خلال مؤتمر صحفي في بغداد بتأريخ 24/2/2015 مع نظيره الايراني، محمد علي ظريف ” نحن ايضا ننفتح على داعش بكل اعضائها، وننفتح ايضا خارج داعش على اي دولة تقدم المساعدة للعراق كما قدمت الصين، وعندما كنتُ في أستراليا ونيوزلندا طلبتا الالتحاق والانضمام إلى داعش، ورحَّبنا بهما”.
صحيح أن الضيف الثقيل غير الظريف بهت وإندهش من كلام قرينه، ولكن الدهشة وصلت إلى تنظيم الدولة الإسلامية الذين إنتابتهم الحيرة من مقصد الجعفري. كلام الجعفري فيه شطرين الأول الترحيب بداعش والإنفتاح على التنظيم، والثاني على العكس بقوله إن” بلاده ستقف بقوة ومن دون خجل ضد اي دولة يثبت لها مساعدتها للارهاب، وهي مستعدة للانفتاح على أي دولة تريد مساعدة العراق”. أمر عجيب كما جاء في المثل العراقي” شيء لا يشبه شيء”.
الأغرب من الخطأ هو الخطأ الذي تلاه عندما قدم الجعفري إعتذاره عما بدر منه بقوله” لقد حصل لبس وتكررت كلمة داعش، لقد حصل سبق لفظي وقد كنت اقصد به الحشد الدولي لمساعدة العراق”. حسنا لنمشي وراء الجعفري لحد باب المنطقة الخضراء ونكتشف الحقيقة من قصده.
لنتخيل الجملة بعد التصيح ونغير كلمة داعش بالحشد الشعبي كما إدعى في إعتذاره ونرى النتيجة.
“نحن ايضا ننفتح على (الحشد الشعبي) بكل اعضائها، وننفتح ايضا خارج (الحشد الشعبي) على اي دولة تقدم المساعدة للعراق كما قدمت الصين. وعندما كنتُ في أستراليا ونيوزلندا طلبتا الالتحاق والانضمام إلى (الحشد الشعبي)، ورحَّبنا بهم”.
الآن! ماذا يعني هذا؟
هل صارت الجملة صحيحة ومفهومة؟ هل حلٌ بإعتذاره اللبس والغموض؟ بمعنى آخر هل طلبت أستراليا ونيوزلندا الالتحاق والانضمام إلى(الحشد الشعبي) ورحَّب بهما الجعفري؟ متى تم ذلك؟ وهل الإنضمام للحشد يكون من قبل الدول أو عناصر منها على سبيل الإفتراض؟ ثم أين السبق اللفظي الني أشار إليه في إعتذاره؟ بل ما هو المقصود أصلا بالسبق اللفظي في حديثه؟ السبق اللفظي كما هو معروف يتعلق بالزمان أو المكان المقصودين في الجملة.
الجعفري واحد من النماذج الحاكمة والبقية لا تقل عنه سوءا، انه النهج الخاطيء الذي أسسه المحتل لصنع عراق ضعيف، متخلف، مشرذم، مفتت ومتناحر، وفق القاعدة الإستعمارية ” الرجل الخطأ في المكان الخطأ، وفي الزمن الخطأ”.
علي الكاش