إن ما حدث للعراق بعد سقوط دكتاتورية صدام الرهيبة على أيدي القوات الأمريكية وحلفائها لايمكن أن يوصف إلا باعتباره تراجيديا أو مأساة من الطراز الأول. ذلك إن النوايا غير المعلنة التي كانت تُبيّتها القوى المحتلة (أمريكا – بريطانيا)، وبتدبير من الصهاينة المهيمنين على إدارة بوش الأبن، وبالأخص وزارة الدفاع الأمريكية، كانت على الضد قطعاً من التطلعات والأحلام الوردية التي كان يحملها الشعب العراقي، بعامته. لقد كانت تطلعات الشعب، ببساطة، هي التخلص من سلطة الدمار التي كان يهيمن عليها و يقودها صدام حسين وجلاوزته، وتبديلها بنظام ديمقراطي يلغي أسباب القهر ويكرس بدلاً منها أسباب الحرية والمساواة والعدالة ويضع العراق على سكة الأعمار والأزدهار الأقتصادي، تماماً كما حصل بعد الحرب العالمية الثانية لأوربا، بضمنها ألمانيا، وكذلك اليابان في الشرق الأقصى.
على أن أحلام العراقيين تلك سرعان ما تبددت، والذي حصل هو العكس تماماً، ما سبب صدمة صاعقة للشعب لم ير مثلها بتأريخه الحديث. فالمآسي التي جرت على الساحة العراقية بعد الأحتلال، وهي ما زالت مستمرة، كان مُدبّر لها تخطيط مُسبق كما تبين بعد حين. ذلك أن الذي حدث للعراق لم يكن إلا نتيجة تفاعل أجندات دول الأحتلال مع أجندات بعض الدول المحيطة بالعراق والمتضاربة مع أماني الشعب وطموحاته، وبذلك تبدت المحصلة النهائية بكونها ضد مصالح الشعب العراقي الذي لم يَر مما حدث غير الأرهاب والخراب. والأنكى من كل ذلك أن الجهات التي تربعت على كراسي السلطة بعد سقوط النظام لم تأتِ تلبية لطلب من الشعب أو رغبة منه وإنما جاءت أجزاءٌ منها مع المحتل وأجزاءٌ أخرى جاءت من أبواب دول الجوار، ثم تسلمت مفاتيح السلطة من الحاكم المدني الأمريكي الذي رجع لبلاده بعد سنة من الحكم.
لقد بدأت تلك الجهات، وهي متنافرة فيما بينها ويكره بعضها البعض، تحكم البلاد بطريقة غريبة لم تألفها دول العالم المتحظر وهي الحكم بالمحاصصة، وليس بالأكثرية الديمقراطية. ولقد تبين من الحكم بتلك الطريقة التي فرضها الصهاينة على العراق واستمرأتها الكتل اللاوطنية المتنافرة التي تسلمت مسؤولية الحكم، أن الهم الوحيد لأغلب المشتركين في الحكم هو سرقة المال العام وليس بناء البلد وخدمة الشعب. ولم تبيّض تلك الجهات صفحة للتأريخ كما لم تحقق أية طموحات مشروعة للشعب. فهي بعد أن تقاسمت السلطة في السنة الأولى طبقاً لمحاصصة طائفية – إثنية غريبة كل الغرابة على الشعب، مخضت بلمح البصر فولدت دستوراً، وإن كان جيداً من حيث توفيره للحريات وحمايته لحقوق الأنسان، إلا أنه جاء أبكماً، بتعمد، في العديد من مفاصله، كلٌ يفسرها حسب مزاجه وهواه. أضف الى ذلك أن الدستور هذا وُلد جامداً مكبلاً لا يمكن تعديله إلا بشروط تنسجم مع توجهات الأقليم الكردي. وبموجب هذا الدستور الكسيح، المنتهك دوماً من نفس الجهات التي تكاتفت على إخراجه، جرت ثلاث دورات إنتخابية بغياب قوانين وطنية تنظم عمل الأحزاب وبظل نظم إنتخابية تصب في صالح الكتل السياسية المتنفذة، وبأشراف هيئة غير مستقلة للأنتخابات موزع أعضاؤها بنسبة تمثيل الكتل السياسية بالبرلمان.
إن الميزة الرئيسية المشتركة التي ميزت الكتل السياسية التي جاءت لحكم العراق هي شدة تمسكها بتلابيب السلطة لحد لا يوصف. ولا يبدو من سلوك هذه الكتل أنها معنية من قريب أو بعيد ببناء نظام حكم ديمقراطي في العراق، يسمح للأكثرية المنتخبة بالحكم وللأقلية المنتخبة بتصويب دفة الحكم.
لاشك أن للتراجيديا العراقية التي نتكلم عنها عدة أوجه قبيحة طرحنا معضمها أعلاه. على أن أقبحها شكلاً وأكثرها هولاً هو الأرهاب المستمر الذي لوّع الشعب العراقي بجميع مكوناته، وبالأخص في المناطق الغربية من العراق. إذ هناك في شمال غرب العراق، حيث الموصل الحدباء، تراق الدماء الزكية للشباب البطل الآتي من الجنوب والوسط ذوداً عن الأرض التي دنستها فلول داعش المتوحشة، لتختلط مع الدماء الزكية لأبطال الغربية وكردستان العراق وكافة المكونات الأخرى الغالية للشعب العراقي الحبيب، هذا الشعب المؤسس للحضارات العظيمة التي نبتت وترعرعت على أراضي وادي الرافدين منذ فجر التاريخ.
إن هذه الدماء الزكية التي سالت وما زالت تسيل دفاعاً عن حياض الوطن ورَجماً للدنس الداعشي إنما تختلط مع بعضها لتقبل أديم الأرض المقدسة، فيما ترتفع الأرواح الطاهرة الى بارئها في عُلى السماوات.