التحول صوب اليسار والشعبوية في بلدان أمريكا اللاتينية

muf37التحول صوب اليسار والشعبوية في بلدان أمريكا اللاتينية
عادل حبه
انطلقت في عام 2001 مظاهرات جماهيرية عارمة في المكسيك موجهة ضد الحكومة اليمينية وسياستها، حيث رفع المتظاهرون شعار ” أرموا الجميع إلى الخارج، ولا تبقوا على أحد منهم”. وسرعان ما سرت عدوى المظاهرات إلى بلدان أخرى في أمريكا الجنوبية مطالبة بسقوط الحكومات اليمينية. لقد كانت هذه المظاهرات مؤشراً على بدء تباشير التغيير، ففي عام 1998 جرى انتخاب الشعبوي هوغو جافيز كرئيساً لفينزويلا. وفي السنوات التي أعقبت ذلك التاريخ، جرى تحول في الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وتشيلي والأكوادور وغويانا وغواتيمالا ونيكاراغوا وبراغواي وبيرو والأورغواي، حيث انهارت حكومات اليمين واستلمت السلطة أطياف متفاوتة من اليسار ويسار الوسط والتيار الشعبوي عبر انتخابات ديمقراطية في هذه البلدان. لقد أثار هذا التحول المفاجئ تساؤلات عديدة لدى المتابعين والمحللين السياسيين حول الأسباب الكامنة وراء هذه التطورات وطبيعتها. في هذه المقالة، سنسعى إلى إلقاء قدر من الضوء على هذه الظاهرة المثيرة التي جرت في أمريكا الجنوبية دون غيرها من بقاع المعمورة.
عند البحث في تفسير هذه الظاهرة، ينبغي التأكيد على أن هناك عدد من العوامل الكامنة وراءها. وتقف في مقدمتها العوامل الهيكلية وتلك المتعلقة بالاقتصاد وبما في ذلك نتائج “إصلاحات” الليبرالية الجديدة التي طبقت في هذه البلدان، وما أفرزته من تغيرات على قوة العمل وانكماش اقتصادي ساد في هذه البلدان في عقد التسعينيات من القرن الماضي، ومهدت لصعود اليسار في هذه البلدان. ويضاف إلى هذه العوامل العامل الدولي وما طرأ من تحول في العلاقات الدولية ووتخفيف التوتر في المناخ العالمي بعد انتهاء الحرب الباردة. ولابد لنا هنا من الإشارة إلى ما جرى في نهاية عقد الأربعينيات من القرن الماضي ومع اندلاع الموجة المكارثية في الولايات المتحدة وهستيريا معاداة الشيوعية، حيث دقت حكومة الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفاؤها الغربيون ناقوس الحرب الباردة ضد “الخطر الشيوعي”. وبدأت الولايات المتحدة بحملة شاملة شعواء في الميدان الإعلامي والفكري والسياسي وحتى التخطيط للانقلابات العسكرية في بلدان أمريكا اللاتينية تحت راية مكافحة الشيوعية واليسار عموماً بكل ألوانه، مهما كان “باهتاً” في بلدان أمريكا اللاتينية. وهكذا قامت حكومة الولايات المتحدة بتدبير العديد من الانقلابات العسكرية، ودشنته بالانقلاب العسكري ضد الرئيس الغواتيمالي الإصلاحي اليساري المنتخب في عام 1951 جاكوب أربنز، وأطيح به في عام 1954 بنفس الذريعة. واستمر تعاقب الانقلابات العسكرية حتى حدوث الانقلاب الذي أطاح بحكومة الوحدة الشعبية اليسارية واغتيال زعيمها سلفادور أليندي في عام 1973، لتحصد هذه الموجة عشرات الآلاف من الضحايا من التيار اليساري في هذه البلدان.
خلاصة القول، لقد عولت واشنطن على أمريكا اللاتينية خلال كل فترة الحرب الباردة كمنطلقاً وقاعدة من أجل الحفاظ على مصالحها في العالم أجمع. ولم تتردد الولايات المتحدة حتى بالإطاحة بحلفاء سابقين لها مثل نورويغا في بناما، على غرار ما حدث في العراق عند الإطاحة بصدام حسين وفي باكستان عندما لقى أيوب خان مصيره في حادثة طائرة، بمجرد أن لاحظت الإدارة الأمريكية أن هؤلاء بدأوا ينحرفون عن الدور الذي أوكل لهم. وفي خلال فترة الحرب الباردة، بحيث دأبت بلدان هذه المنطقة مجتمعة على الإدلاء برأيها في الأمم المتحدة لصالح المشاريع الأمريكية وضد الاتحاد السوفييتي ولم تحيد عن الإرادة الأمريكية خشية من ردود فعل الإدارة الأمريكية. لقد قدمت الحملة المتطرفة الشاملة التي قامت بها الادارات الأمريكية المتعاقبة وسياسة الحرب الباردة كل المبررات للحكومات اليمينية في بلدان أمريكا اللاتينية للقيام بأقسى الإجراءات القمعية ضد الأحزاب اليسارية والحظر على نشاطها، مما تسببت في ضعفها التنظيمي والسياسي المزمن عموماً. فلم تعد تتمتع هذه الأحزاب إلاّ بوجود سياسي محدود حتى منتصف عقد التسعينيات.
ولكن مع انهيار النظام السوفييتي في عام 1989، انهارت معها خطط الولايات المتحدة وتطرفها خلال المواجهة المعلنة مع “خطر الشيوعية” واليسار عموماً في أمريكا اللاتينية. فلم يعد هناك أي مبرر لترويجها بعد أن انزاح هذا “البعبع الشيوعي”. كما لم يعد بمقدور واشنطن أن توجه الاتهام إلى أي نظام من اليسار أو يسار الوسط أو غير الوسط على أنه يشكل “رأس جسر سوفييتي” في المنطقة كما كان يجري في السابق ليصبح مبرراً لتدبير المؤآمرات والانقلابات العسكرية. ولم يعد بمستطاع الولايات الاستمرار بسياسة التلويح بالقوة واستخدامها في تطويع بلدان أمريكا اللاتينية. كما لم يعد أمام الحكومات الخيار بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، بعد أن اختفى الأخير. وأكتفت الولايات التحدة من أجل إعمال نفوذها بالاستناد إلى الانتخابات واستخدام ورقة الضغط الاقتصادي لقد فقدت الأوساط اليمينية الحاكمة جراء هذه التطورات على المسرح الدولي كل مبررات الدورالذي كانت تلعبه كـ”حارس” ضد “الخطر الشيوعي واليسار”. واضطرت هذه الحكومات إلى التخفيف من قمع اليسار في هذه البلدان، بحيث أضحى اليسار معلماً من معالم الحركة السياسية في أمريكا اللاتينية.
لقد ترك انهيار التجربة السوفييتية تأثيراً ملحوظاً داخل الأحزاب الشيوعية في أمريكا اللاتينية، وبضمنها اليسار، صوب إعادة النظر في المنطلقات الفكرية والممارسة العملية والتخلي عن “التطرف” و”النصية” و”الدوغمائية” و “المقولات والشعارات” التي لم تعد تتناسب مع الواقع وغير مقبولة من قبل المواطن. ففي الآونة الأخيرة جرت عملية إصلاحية في غالبية الحركات اليسارية شيوعية كانت أم اشتراكية أو حتى لدى بعض التيارات مثل التيار الشعبوي، مع استثناءآت في بعض البلدان مثل كوبا حيث جرى قدر من الاصلاحات بعد تنحي فيدل كاسترو عن السلطة لأخيه راؤل كاسترو مع الحفاظ على نموذج الحزب القائد ورفض الديمقراطية والتعددية في البناء السياسي الكوبي. لقد راجعت الأحزاب الشيوعية والعديد من أحزاب اليسار تجربتها السابقة واعترفت بإخفاقاتها والخلل في نماذجها السابقة. ومما يجدر بالاهتمام هو أن هذه الأحزاب بغالبيتها تحولت، فكراً وممارسة وفي حياتها الداخلية، إلى أحزاب ديمقراطية. وتراجعت غالبية هذه الأحزاب وبأشكال مختلفة عن نهج أدلجة السياسة باعتبار أن وظيفة الحزب السياسي هي وظيفة سياسية واقتصادية واجتماعية بالدرجة الأولى، وليس وظيفة أيديولوجية. فطرحت هذه الأحزاب في برامجها سياسة اقتصادية واقعية تمهد الطريق للتخفيف من الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها هذه البلدان. وتلاشت موضوعة “الديكتاتورية” أياً كان شكلها من قاموس هذه الأحزاب، وأضحت الديمقراطية بالنسبة لها الطريق الوحيد للوصول إلى السلطة، والهدف الرئيسي لمعظم الحركات السياسية. وترك القبول بالديمقراطية واحترامها أثراً كبيراً في شيوع قدر غير قليل من الاعتدال السياسي والتسامح والتخلي عن التطرف الذي ميّز اليسار في مجتمعات أمريكا اللاتينية خلال عهود مديدة سابقة، مما خلق أجواءاً مناسبة للتقارب الفكري والعملي بين قوى اليسار على اختلاف ألوانه من ناحية، ومن ناحية أخرى التوجه صوب العمل المشترك. وخففت هذه الأحزاب من تقاليد المدرسة القديمة في العداء المطلق للولايات المتحدة وتراجع شعارها التقليدي
(Anti- Americanism)
، دون أن يعني التخلي عن توجيه النقد لها والدعوة لإعادة النظر بالعلاقة معها على أسس من احترام السيادة والاستقلال.

لقد أدى إعادة النظر بنهج هذه الأحزاب واليسار نحو الاعتدال والواقعية إلى أن يصبح هذا المسار الجديد مقبولاً من جمهور الناخبين، وخياراً قابلاً للتطبيق من أجل إصلاح الأوضاع المتردية في بلدانهم، وهو ما اتضح في الانتخابات التي جرت في منتصف عام 1990 في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية. فقد ظهر نموذج جديد من النزعات الاشتراكية بعيدة عن الدوغمائية، ولا تتقيد بنصوص حول الحزب الطليعي أو محو طبقة الرأسماليين، بقد ما تركز على موضوعة تقليص عدم المساواة في المجتمع وايجاد الحلول لمشكلة الفقر المستعصية وزيادة المشاركة الجماهيرية في صياغة القرارات والتمسك بالخيار الديمقراطي. إن هذا النموذج الجديد لا يلوّح بورقة تعميق الصراعات الطبقية الداخلية ولا يدافع عن موضوعة إلغاء الملكية الخاصة أو القطيعة مع العلاقات الاجتماعية القائمة. فهذا النموذج يدعو إلى السير في عملية ارتقائية اجتماعية وسياسية واقتصادية وصولاً إلى بناء مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية. إنها اشتراكية تبتعد عن نموذج “اللينينيية” الذي طبق في الاتحاد السوفييتي وخاصة النهج الذي اتبع في العهد الستاليني حيث مورس باسم هذا النموذج سياسة التنصل من الديمقراطية والتي كرست البيروقراطية والنمط الأوامري في الاقتصاد والإدارة.
في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي، اعتمدت بلدان أمريكا اللاتينية مجتمعة سياسة في الاستيراد لصالح التصنيع في الداخل والتقليل من استيراد البضائع المصنعة. وبسبب من ضعف المصادر المالية والتمويل عند هذه البلدان، فقد توجهت نحو اقتراض مبالغ ضخمة من الدائنين الدوليين من أجل تمويل هذه العملية. ولكن مع مرور السنين تضاعفت فائدة هذه القروض لتتحول إلى ديون ضخمة لا تستطيع هذه الدول سدادها، واجتاحت هذه الدول ما أطلق عليها “أزمة الديون” خاصة في عقد الثمانينيات من القرن الماضي. وأزاء هذه الأزمة الاقتصادية الحادة، اقترحت حكومة الولايات المتحدة حلولاً أطلق عليها اسم “إجماع واشنطن”
(Washington Consensus)
، الذي حَظي بإجماع حكومات دول أمريكا اللاتينية. واعتمد هذا المبدأ سياسة اقتصادية ترمي إلى تحرير التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر والخصخصة بما يعرف بسياسة “الليبرالية الجديدة”.

إلاّ أن هذه السياسة، إذ أدت إلى تحسن نسبي في الالتزامات المالية لهذه البلدان، وقلصت قليلاً من دائرة الفقر فيها، إلاّ أنها لم تؤد إلى تحقيق أي نمو في الناتج القومي الإجمالي في منتصف عقد التسعينيات من القرن الماضي. فقد تراجع النمو الاقتصادي بمقدار 0,30%، مقارنة بالسنوات التي سبقتها. كما أدت الليبرالية الجديدة إلى قدر طفيف من التحسن في التشغيل في قطاع الخدمات وفي قطاع التشغيل الموسمي الذي يتسم بأجور متدنية. ولكنها تركت آثاراً سلبية على العمالة عموماً نظرا لآثارها على طبيعة الوظائف المتاحة. فالكثير من العمالة قامت على عقود قصيرة الأجل وبأجور زهيدة. كما أدى تمركز وتركز القطاع الزراعي إلى تهميش فئات واسعة من الفلاحين الصغار، وتعرضت للانهيار غالبية اقتصاديات المزارع الصغيرة والمتوسطة التي لم تستطع المنافسة مع الشركات الزراعية الاحتكارية الكبرى. وهذا ما حدا بهؤلاء الفلاحين إلى التوجه صوب المدينة للبحث عن لقمة عيشهم. وتسبب ذلك في تدني مستوى التشغيل وارتفاع نسبة البطالة وتدني أجور العمال في المؤسسات الصناعية قياساً بعقد الثمانينيات من القرن الماضي. وهذا يعني وقوع جمهرة من العمال في دائرة الفقر في تلك الفترة. وطبقاً لـ
(Washington Consensus)
، قلصت حكومات هذه البلدان النفقات الاجتماعية مما عمّق دائرة الفقر وحد من تقديم الخدمات الاجتماعية للفئات الفقيرة على وجه الخصوص، وعمق الهوة بين الفقراء والأغنياء. وبالنتيجة زاد من استياء المواطنين الذين وجهوا اللوم إلى اليمين الحاكم لاخفاقه في حل مشاكلهم.

ومما لعب دوراً مهماً في هذا التحول هو الشروع بممارسة الديمقراطية وانهاء مظاهر الأنظمة الاستبدادية والعسكرية التي حكمت لفترة طويلة في دول أمريكا الاتينية. إن الجمع بين عدم المساواة والديمقراطية يميل بشكل عام إلى التسبب في تمدد الحركة إلى اليسار في كل مكان. فقد كان هذا صحيحاً في أوروبا الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى بعد الحرب العالمية الثانية، وهو صحيح اليوم في أمريكا اللاتينية حيث تعمد الجماهير الفقيرة إلى التصويت للسياسات التي يأملون منها أن تجعلهم أقل فقراً. إن ترسخ الديمقراطية على نطاق واسع وتعزيز الانتخابات الديمقراطية باعتبارها الطريق الوحيد للوصول إلى السلطة، يؤدي إلى جلب الانتصارات لليسار بسبب التكوين الاجتماعي والديموغرافي والعرقي في بلدان أمريكا اللاتينية. ومن الجدير بالإشارة إلى أن النهج الجديد لعموم اليسار قد أدى إلى أن ينال شعبية بين أوساط خارج اليسار وخارج الطبقات العمالية والفلاحية والفئات الكادحة. فقد حققت الأحزاب اليسارية في أوروغواي وتشيلي على سبيل المثال، نجاجات ملحوظة في الانتخابات بالاستناد إلى الفئات الاجتماعية المتوسطة، رغم أنها لم تكن على صلة في السابق بالحركات اليسارية أو تميل إلى التعاطف معها.
وينبغي أن لا يغيب عن بالنا عند النظر إلى ما يحدث في أمريكا اللاتينية من تحول، وجود أطياف متنوعة من اليسار وتيارات مختلفة من الحركات التي تعارض اليمين الذي حكم بلدان أمريكا اللاتينية خلال عقود. وليس كل من عارض اليمين أو سياسات الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية يمكن أن يصنف ضمن إطار اليسار. فاليسار – الذي يعرف بأنه تيار فكري وسياسي يسعى إلى تحسين الأو ضاع الاجتماعية على أساس التوزيع المتساوي للثروة والتعاون الدولي واحترام الاستقلال والسيادة والالتزام بالقواعد الديمقراطية (على الأقل عندما يكون في المعارضة)، موجود بأشكال مختلفة في أمريكا اللاتينية، شأنه في ذلك شأن أجزاء أخرى من العالم. فهناك اليسار الذي سار على خطى الأممية الشيوعية والثورة البلشفية والتجربة السوفييتية كما هو الحال بانسبة إلى الحزب الشيوعي في تشيلي وفي أورغواي والبرازيل وسان سلفادور وكوبا (قبل ثورة كاسترو). فقد تمتعت هذه الأحزاب بنفوذ ملحوظ في المجتمع وفي الأوساط الأكاديمية والفكرية في عقد الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وشاركت في عقد الجبهات الشعبية وفي حكومات الوحدة الوطنية في تلك الفترة.
وهناك أشكال متدرجة من اليسار، منها الوسط وحتى اليسار اليميني كما يطلق عليه في أمريكا اللاتينية. ويطلق العديد من المحللين والمراقبين صفة اليسار حتى على التيار الشعبوي الذي له تاريخ ورصيد في أمريكا اللاتينية، حيث يحتل رموزها التاريخيين مكانة أسطورية كبيرة، مثل بيرو فيكتور راؤول هايا دي في بيرو ولا توري والكولومبي خورخي غايتان ولازارو كارديناس في المكسيك و فيلاسكو ايبارا في البرازيل ، أو الشخصيات التي برزت في القرن العشرين مثل الارجنتيني خوان بيرون خوسيه فيلاسكو ايبارا في الأكوادور. وينظر إلى هؤلاء حتى الآن على أنهم “أيقونات” من المحسنين إلى الفئات الفقيرة والمحرومة، ويعاملون كمعاملة “الأولياء الصالحين” في بلداننا. والذي يستند إلى الفئات الهامشية في المجتمع وعلى الفئات المنحدرة من سكان أمريكا الأصليين “الهنود الحمر” في أمريكا اللاتينية.
ولكن اعتبار “الشعبويين” تياراً يسارياً ينطوي على قدر من الإشكالية، لأن اليسار الذي نشأ في أوربا، وخاصة مع انطلاقة الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، طرح وتبنى موضوعة الديمقراطية في صلب توجهاته. وفي منتصف القرن التاسع عشر ومع انطلاق الحركة الاشتراكية الديمقراطية، تبنت هذه الحركة موضوعة الديمقراطية كركن أساسي من أركان برامجها وتطلعاتها. ولكن العملية الديمقراطية والقواعد الديمقراطية كانت في بداياتها، وكانت تتعرض للتشويه والالتفاف عليها من قبل التيارات البرجوازية واليمينية، ولم تنضج حينئذ بعد كل التشريعات التي توفر الفرصة للشعب بممارسة سليمة لهذه القواعد والحقوق الديمقراطية، ناهيك عن مستوى الوعي الاجتماعي الذي كان سائداً والذي لم يؤد إلى اختيار سليم يكرس هذه القواعد. ولذا برز تيار من أقطاب الحركة الاشتراكية الديمقراطية يعارض “الديمقراطية البرجوازية”، ويدعو إلى ما سمي آنذاك بـ “الديمقراطية المباشرة”، خاصة بعد فشل تجربة كومونة باريس في 28 آيار عام 1871، ليجري تبني موضوعة “ديكتاتورية البروليتاريا” من أقطاب بارزين فيها وعلى رأسهم كارل ماركس. وكان هذا الاعلان سبباً في الاختلافات والانشقاقات داخل الحركة الاشتراكية الديمقراطية، والتي تعاظمت وأصبحت محور نقاش واسع وخلاف عميق في بداية القرن العشرين مع صدور “كتاب الدولة والثورة” في آب عام 1917 لفلاديمير ايليج لينين الذي لم ير أفقاً ايجابياً في “الديمقراطية البرجوازية”. وترسخ هذا النهج بعد ثورة اكتوبر وأصبح قانوناً ثابتاً في العهد الستاليني وليحل معه مفهوم “الديمقراطية الاشتراكية” ثم “الديمقراطية الشعبية” بعد الحرب العالمية الثانية. لقد أثار هذا التوجه عشية ثورة اكتوبر نقداً واسعاً من قبل أقطاب الحركة الاشتراكية ومنهم بليخانوف وروزا لوكسمبرغ وكارل ليبنخت، إضافة إلى رموز بارزة في الأممية الشيوعية لاحقاً، ومن ضمنهم بالميرو تولياتي. وأدى الاختلاف في الموقف تجاه موضوعة الديمقراطية إلى خصومة دائمة بين الحركة الاشتراكية الديمقراطية والحركة الشيوعية وألغى كل إمكانية للتقارب بينهما، مما أدى إلى كوارث سياسية في بعض البلدان الأوربية وخاصة في ألمانيا. واستمر النقاش حول موضوعة الديمقراطية خاصة في فترة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات لينتهي بعد انهيار النموذج السوفييتي، إلى انهيار الموقف التقليدي السلبي من الديمقراطية والتخلي عن كل المقولات غير العلمية حول “الديمقراطية البرجوازية” و “الديمقراطية المباشرة” و “الديمقراطية الاشتراكية” والديمقراطية الشعبية”، التي ليس لجميعها وجود وأساس علمي. فهناك قواعد وسنن ديمقراطية واحدة. وقد أكدت الأحداث اللاحقة أن تراكم القواعد الديمقراطية وارتقائها وتطورها خاصة في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي وبعد الحرب العالمية الثانية، فتح الطريق أمام صعود اليسار إلى السلطة في ظل هذه الديمقراطية التي تم رفضها وادانتها، كما نجحت بعض الأحزاب الشيوعية في المشاركة في السلطة بعد الحرب العالمية الثانية أو تولي مواقع في السلطات المحلية في ظل هذه الديمقراطية. و يجري عبرها صعود اليسار أيضاً في أمريكا اللاتينية في الآونة الأخيرة.
إن هذا الاستعراض التاريخي ذو أهمية في تبيان أن التيار الشعبوي هو ليس يساري لأنه غير ديمقراطي. فلو استعرضنا تاريخ هذا التيار في روسيا على سبيل المثال، “الحركة النارودنية”، لوجدنا أنه كان يميل إلى الفوضوية والإرهاب ومناهضة الشيوعية دون تبني الديمقبراطية. وتدل تجربة هذا التيار في أمريكا اللاتينية، “تجربة بيرون في الأرجنتين” وتجربة هوغو جافيز قبل رحيله في فينزويلا، أن هذا التيار يميل إلى الاستئثار بالحكم وتجاهل الديمقراطية التي أوصلته إلى سدة الحكم. فقد حكم بيرون بقوة الحديد والعسف ضد كل معارضيه وبمن فيهم التيار اليساري. وما أن استتب الحكم لهوغو جافيز في فينزويلا حتى شرع بتغيير القوانين كي يحتكر السلطة ويصبح ديكتاتوراً وحاكماً إلى الأبد على البلاد.
وعلى خلاف ما أحرزه اليسار ويسار الوسط من نجاحات في إدارة بلدانهم في بعض بلدان أمريكا اللاتينية، إلا أن التيار الشعبي الذي حكم في بعض هذه البلدان ظل يتخبط في إدارة هذه البلدان. ففي فينزويلا، تشير مؤشرات التنمية البشرية منذ عام 1999، عام تولي جافيز السلطة، إلى ركود في الاقتصاد. فلو قارنا الوضع في فينزويلا بالمكسيك خلال السبع سنوات الماضية، فقد نما اقتصاد المكسيك بنسبة 17,5% في حين فشل الاقتصاد الفينزويلي في إحراز أي نمو. كما ارتفع الناتج القومي الاجمالي للمكسيك بين عام 1997-2003 بمقدار 9,5% بينما انكمش الاقتصاد الفينزويلي بمقدار 45%، وانخفضت عملة البوليفار الفينزويلي بمقدار 292%. لقد بلغ معدل التضخم في المكسيك أدنى مستوى له ليصل إلى 3،3%، في حين بلغ معدل التضخم في السنوات الأخيرة نسبة 16%. كما أن من الصعوبة بمكان أن يدرج نظام يسعى إلى البحث عن حلفاء له في نظام صدام حسين أو نظام ولاية الفقيه في إيران في قائمة الأنظمة اليسارية.
وبشكل عام، فإن التحول الذي جرى ويجري في أمريكا اللاتينية، مع كل تلاوينه وملابساته، هو خطوة إلى الأمام نحو تحقيق تنمية في هذه البلدان، وتغيير في هيكلية بناء المجتمع صوب اصطفاف طبقي لصالح القوى المنتجة الحديثة وتقليل الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وخلق حالة من الاستقرار الاجتماعي بعيداً عن العنف والتطرف.
25/11/2014

About عادل حبه

عادل محمد حسن عبد الهادي حبه ولد في بغداد في محلة صبابيغ الآل في جانب الرصافة في 12 أيلول عام 1938 ميلادي. في عام 1944 تلقى دراسته الإبتدائية، الصف الأول والثاني، في المدرسة الهاشمية التابعة للمدرسة الجعفرية، والواقعة قرب جامع المصلوب في محلة الصدرية في وسط بغداد. إنتقل الى المدرسة الجعفرية الإبتدائية - الصف الثالث، الواقعة في محلة صبابيغ الآل، وأكمل دراسته في هذه المدرسة حتى حصوله على بكالوريا الصف السادس الإبتدائي إنتقل إلى الدراسة المتوسطة، وأكملها في مدرسة الرصافة المتوسطة في محلة السنك في بغداد نشط ضمن فتيان محلته في منظمة أنصار السلام العراقية السرية، كما ساهم بنشاط في أتحاد الطلبة العراقي العام الذي كان ينشط بصورة سرية في ذلك العهد. أكمل الدراسة المتوسطة وإنتقل إلى الدراسة الثانوية في مدرسة الأعدادية المركزية، التي سرعان ما غادرها ليكمل دراسته الثانوية في الثانوية الشرقية في الكرادة الشرقية جنوب بغداد. في نهاية عام 1955 ترشح إلى عضوية الحزب الشيوعي العراقي وهو لم يبلغ بعد الثامنة عشر من عمره، وهو العمر الذي يحدده النظام الداخلي للحزب كشرط للعضوية فيه إعتقل في موقف السراي في بغداد أثناء مشاركته في الإضراب العام والمظاهرة التي نظمها الحزب الشيوعي العراقي للتضامن مع الشعب الجزائري وقادة جبهة التحرير الجزائرية، الذين أعتقلوا في الأجواء التونسية من قبل السلطات الفرنسية الإستعمارية في صيف عام 1956. دخل كلية الآداب والعلوم الكائنة في الأعظمية آنذاك، وشرع في تلقي دراسته في فرع الجيولوجيا في دورته الثالثة . أصبح مسؤولاً عن التنظيم السري لإتحاد الطلبة العراقي العام في كلية الآداب والعلوم ، إضافة إلى مسؤوليته عن منظمة الحزب الشيوعي العراقي الطلابية في الكلية ذاتها في أواخر عام 1956. كما تدرج في مهمته الحزبية ليصبح لاحقاً مسؤولاً عن تنظيمات الحزب الشيوعي في كليات بغداد آنذاك. شارك بنشاط في المظاهرات العاصفة التي إندلعت في سائر أنحاء العراق للتضامن مع الشعب المصري ضد العدوان الثلاثي الإسرائيلي- الفرنسي البريطاني بعد تأميم قناة السويس في عام 1956. بعد انتصار ثورة تموز عام 1958، ساهم بنشاط في إتحاد الطلبة العراقي العام الذي تحول إلى العمل العلني، وإنتخب رئيساً للإتحاد في كلية العلوم- جامعة بغداد، وعضواً في أول مؤتمر لإتحاد الطلبة العراقي العام في العهد الجمهوري، والذي تحول أسمه إلى إتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية. وفي نفس الوقت أصبح مسؤول التنظيم الطلابي للحزب الشيوعي العراقي في بغداد والذي شمل التنظيمات الطلابية في ثانويات بغداد وتنظيمات جامعة بغداد، التي أعلن عن تأسيسها بعد إنتصار الثورة مباشرة. أنهى دراسته الجامعية وحصل على شهادة البكالاريوس في الجيولوجيا في العام الدراسي 1959-1960. وعمل بعد التخرج مباشرة في دائرة التنقيب الجيولوجي التي كانت تابعة لوزارة الإقتصاد . حصل على بعثة دراسية لإكمال الدكتوراه في الجيولوجيا على نفقة وزارة التربية والتعليم العراقية في خريف عام 1960. تخلى عن البعثة نظراً لقرار الحزب بإيفاده إلى موسكو-الإتحاد السوفييتي للدراسة الإقتصادية والسياسية في أكاديمية العلوم الإجتماعية-المدرسة الحزبية العليا. وحصل على دبلوم الدولة العالي بدرجة تفوق بعد ثلاث سنوات من الدراسة هناك. بعد نكبة 8 شباط عام 1963، قرر الحزب إرساله إلى طهران – إيران لإدارة المحطة السرية التي أنشأها الحزب هناك لإدارة شؤون العراقيين الهاربين من جحيم إنقلاب شباط المشؤوم، والسعي لإحياء منظمات الحزب في داخل العراق بعد الضربات التي تلقاها الحزب إثر الإنقلاب. إعتقل في حزيران عام 1964 من قبل أجهزة الأمن الإيرانية مع خمسة من رفاقه بعد أن تعقبت أجهزة الأمن عبور المراسلين بخفية عبر الحدود العراقية الإيرانية. وتعرض الجميع إلى التعذيب في أقبية أجهزة الأمن الإيرانية. وأحيل الجميع إلى المحكمة العسكرية في طهران. وحكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات، إضافة إلى أحكام أخرى طالت رفاقه وتراوحت بين خمس سنوات وإلى سنتين، بتهمة العضوية في منظمة تروج للأفكار الإشتراكية. أنهى محكوميته في أيار عام 1971، وتم تحويله إلى السلطات العراقية عن طريق معبر المنذرية- خانقين في العراق. وإنتقل من سجن خانقين إلى سجن بعقوبة ثم موقف الأمن العامة في بغداد مقابل القصر الأبيض. وصادف تلك الفترة هجمة شرسة على الحزب الشيوعي، مما حدى بالحزب إلى الإبتعاد عن التدخل لإطلاق سراحه. وعمل الأهل على التوسط لدى المغدور محمد محجوب عضو القيادة القطرية لحزب البعث آنذاك، والذي صفي في عام 1979 من قبل صدام حسين، وتم خروجه من المعتقل. عادت صلته بالحزب وبشكل سري بعد خروجه من المعتقل. وعمل بعدئذ كجيولوجي في مديرية المياه الجوفية ولمدة سنتين. وشارك في بحوث حول الموازنة المائية في حوض بدره وجصان، إضافة إلى عمله في البحث عن مكامن المياه الجوفية والإشراف على حفر الآبار في مناطق متعددة من العراق . عمل مع رفاق آخرين من قيادة الحزب وفي سرية تامة على إعادة الحياة لمنظمة بغداد بعد الضربات الشديدة التي تلقتها المنظمة في عام 1971. وتراوحت مسؤولياته بين منظمات مدينة الثورة والطلبة وريف بغداد. أختير في نفس العام كمرشح لعضوية اللجنة المركزية للحزب إستقال من عمله في دائرة المياه الجوفية في خريف عام 1973، بعد أن كلفه الحزب بتمثيله في مجلة قضايا السلم والإشتراكية، المجلة الناطقة بإسم الأحزاب الشيوعية والعمالية العالمية، في العاصمة الجيكوسلوفاكية براغ. وأصبح بعد فترة قليلة وفي المؤتمر الدوري للأحزاب الممثلة في المجلة عضواً في هيئة تحريرها. وخلال أربعة سنوات من العمل في هذا المجال ساهم في نشر عدد من المقالات فيها، والمساهمة في عدد من الندوات العلمية في براغ وعواصم أخرى. عاد إلى بغداد في خريف عام 1977، ليصبح أحد إثنين من ممثلي الحزب في الجبهة التي كانت قائمة مع حزب البعث، إلى جانب المرحوم الدكتور رحيم عجينة. وأختير إلى جانب ذلك لينسب عضواً في سكرتارية اللجنة المركزية ويصبح عضواً في لجنة العلاقات الدولية للحزب. في ظل الهجوم الشرس الذي تعرض له الحزب، تم إعتقاله مرتين، الأول بسبب مشاركته في تحرير مسودة التقرير المثير للجنة المركزية في آذار عام 1978 وتحت ذريعة اللقاء بأحد قادة الحزب الديمقراطي الأفغاني وأحد وزرائها( سلطان علي كشتمند) عند زيارته للعراق. أما الإعتقال الثاني فيتعلق بتهمة الصلة بالأحداث الإيرانية والثورة وبالمعارضين لحكم الشاه، هذه الثورة التي إندلعت ضد حكم الشاه بداية من عام 1978 والتي إنتهت بسقوط الشاه في شتاء عام 1979 والتي أثارت القلق لدي حكام العراق. إضطر إلى مغادرة البلاد في نهاية عام 1978 بقرار من الحزب تفادياً للحملة التي أشتدت ضد أعضاء الحزب وكوادره. وإستقر لفترة قصيرة في كل من دمشق واليمن الجنوبية، إلى أن إنتدبه الحزب لإدارة محطته في العاصمة الإيرانية طهران بعد إنتصار الثورة الشعبية الإيرانية في ربيع عام 1979. وخلال تلك الفترة تم تأمين الكثير من إحتياجات اللاجئين العراقيين في طهران أو في مدن إيرانية أخرى، إلى جانب تقديم العون لفصائل الإنصار الشيوعيين الذين شرعوا بالنشاط ضد الديكتاتورية على الأراضي العراقية وفي إقليم كردستان العراق. بعد قرابة السنة، وبعد تدهور الأوضاع الداخلية في إيران بسبب ممارسات المتطرفين الدينيين، تم إعتقاله لمدة سنة ونصف إلى أن تم إطلاق سراحه بفعل تدخل من قبل المرحوم حافظ الأسد والمرحوم ياسر عرفات، وتم تحويله إلى سوريا خلال الفترة من عام 1981 إلى 1991، تولى مسؤلية منظمة الحزب في سوريا واليمن وآخرها الإشراف على الإعلام المركزي للحزب وبضمنها جريدة طريق الشعب ومجلة الثقافة الجديدة. بعد الإنتفاضة الشعبية ضد الحكم الديكتاتوري في عام 1991، إنتقل إلى إقليم كردستان العراق. وفي بداية عام 1992، تسلل مع عدد من قادة الحزب وكوادره سراً إلى بغداد ضمن مسعى لإعادة الحياة إلى المنظمات الحزبية بعد الضربات المهلكة التي تلقتها خلال السنوات السابقة. وتسلم مسؤولية المنطقة الجنوبية حتى نهاية عام 1992، بعد أن تم إستدعائه وكوادر أخرى من قبل قيادة الحزب بعد أن أصبح الخطر يهدد وجود هذه الكوادر في بغداد والمناطق الأخرى. إضطر إلى مغادرة العراق في نهاية عام 1992، ولجأ إلى المملكة المتحدة بعد إصابته بمرض عضال. تفرغ في السنوات الأخيرة إلى العمل الصحفي. ونشر العديد من المقالات والدراسات في جريدة طريق الشعب العراقية والثقافة الجديدة العراقية والحياة اللبنانية والشرق الأوسط والبيان الإماراتية والنور السورية و"كار" الإيرانية ومجلة قضايا السلم والإشتراكية، وتناولت مختلف الشؤون العراقية والإيرانية وبلدان أوربا الشرقية. كتب عدد من المقالات بإسم حميد محمد لإعتبارات إحترازية أثناء فترات العمل السري. يجيد اللغات العربية والإنجليزية والروسية والفارسية. متزوج وله ولد (سلام) وبنت(ياسمين) وحفيدان(هدى وعلي).
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.