لا شك ان التصور العام لظاهرة التحرش الجنسي المتفاقمة هذه الايام يعتبرها ظاهرة مرضية متجاوزة للحدود الاخلاقية و معيقة للتطور الاجتماعي…. لكن لكي ندرس الظاهرة بشكل علمي و بعيدا عن الادانات التي اصبحت هي الاخرى ظاهرة مرضية كونها تعبر بشكل مباشر عن العجز والهروب من الواقع اكثر من مواجهة المشاكل و ايجاد حلول قابلة للديمومة لها…
و لكي يكون تحليلنا علميا و منطقيا فلابد من ايجاد ادوات تحليلية ترتبط بالموضوع بشكل مباشر… و على هذا الاساس فقد اخترت ثلاثة عناصر مهمة يمكنها ان تجمل عناصر كثيرة اخرى و هي الرموز و المفاهيم و الواقع… كما عمدت الى تفكيك مصطلح التحرش الجنسي الى (تحرش) و ( جنس) مما يسهل مناقشة تقاطعهما مع الادوات التحليلية….
ابتداء لابد من توفير مدخل موضوعي الى هذه الظاهرة التي يكثر الكلام عنها في وسائل الاعلام و يتم توضيفها سياسيا عن طريق ربطها بالدين و علاقته بالصراع السياسي الدائر في كثير من المجتمعات العربية و المسلمة و الذي تتجلى مظاهره في العنف و السعي اسقاط الاخر باية وسيلة بعيدا عن القيم الاخلاقية التي يتشدق بها الجميع دون تفعيل قيمها و اليات تطبيقها…بحيث تكون النتيجة الوغول اكثر و اكثر في الانفصام بين الواقع و الخطاب السياسي الاعلامي و بين الاهداف المعلنة و السياسات القائمة..
هناك اتهام مباشر للقوى الدينية و التقليدية في استفحال هذه الظاهرة كون هذه القوى تسعى الى اعادة هيمنتها التاريخية الذكورية على المرأة و محاولة منعها من ساحة العمل و اعادتها الى المنزل و كتم صوتها و اخراجها من دائرة التفاعل المجتمعي و التاثير و النفوذ… لاشك ان هذه الاتهامات لها جذور تاريخية وواقعية يمكن ملامستها من خلال البرامج السياسية و السلوك الاجتماعي السياسي للكثير من الجماعات و الاحزاب و المنظمات التي تشرعن سياساتها على اسس تعتبرها مستمدة من الشرائع الدينية…. لكن في المقابل فان اختزال ظاهرة التحرش الجنسي بهذا الشكل الطفولي هو ايضا هروب من الواقع و للاسف لا يمكن وضعها الا ضمن خانة العجز رغم كل القيم الجميلة و الانسانية مثل الحرية و حق المرأة و غيرها و التي يتم استثمارها في الخطاب السياسي للقوى التحررية و اللليبرالية و اليسارية…
ينبغي لنا ان نخرج رؤسنا من تحت التراكم التاريخي لركام القيم الاخلاقية الجميلة التي تستطع ان تقدم رادعا حقيقيا لحماية اي فرد او جماعة في مجتمعاتنا من اعمال القتل و الدمار و النهب و السلب و السخرة في العمل و استهزاء و تدبير المؤامرات ضد الاخ و الجار… قبل ان نتحدث عن الاخرين… فكيف يمكن ان نتصور ان المراة كانت بمنأى عن كل الاختراق و التجاوز على قيمنا الاخلاقية التي نتحث عنها صباح مساء دون ترجمتها الى واقع..؟؟…
لو اردنا ان نكون موضوعيين لابد اولا… ان نقر ان ظاهرة التحرش الجنسي ليست ظاهرة جديدة في المجتمعات العربية و الشرق الاوسطية رغم وجود المانع اللاخلاقي الممتد عبر الاف السنوات من خلال الاديان التي تدعو الى احترام المرأة و الابتعاد عن الزنا بشكل او باخر… بل ان هذه الظاهرة كانت موجودة و ربما تشكل الحياة اليومية للكثير من النساء اللوتي كنا نجلهن و نعتبرهن سعيدات بيما كن يعانين من اشكال متعددة من الضغط النفسي ازاء مشكلة لم يكن من الممكن التحدث عنها حتى لاقرب الناس… بل ان الكثير من حالات التحرش الجنسي ضد النساء و الاطفال كانت تتطور الى اغتصاب حقيقي بمعنى الممارسة الجنسية القسرية لكن كان يجب على المرأة او الطفل الضحية كتمان الامر بشكل مطلق سعيا للحفاظ على الذات رغم جروحها و عدم خدش النظام الاجتماعي العام..
ثانيا.. لابد ايضا ان نعي ان هذه الظاهرة لا تقتصر على مجتمع معين بل هي ظاهرة منتشرة في اغلب ارجاء العالم بغض النظر عن التطور الاجتماعي و المادي الاقتصادي و التكنولوجي بل و حتى القانوني… لو ابتعدنا عن المناطق الفقيرة او الدول التي تتحكم بها العلاقات الاجتماعية التقليدية و ضعف الاجهزة الامنية و التهاون الواضح و الانتقائي في تطبيق القانون مثل باكستان و الهند التي يتم فيها بيع النساء و الاغتصاب بشكل واسع فاننا نجد ان الظاهرة ليست اقل حضورا في المجتمعات الغنية و التي تتمتع بتشريعات قانونية تحمي الطفل و المرأة بل حتى ان هذه القوانين تمنع ممارسة الجنس مع الزوجة اذا لم تكن راغبة في ذلك… رغم كل هذه القوانين و رغم الكثير من حملات التوعوية و الثقافية التي تقام بشكل دوري فان التحرش الجنسي ما زال واسعا و هناك الكثير من حالات الانتحار التي يقوم بها شباب من كلا الجنسين بسسبب عدم تحمل الاثار النفسية لهذه الممارسات …. و رغم الحرية الجنسية في هذه المجتمعات فان اعداد حالات اللاغتصاب و استخدام العنف و الجرائم المصاحبة للاغتصاب حتى بين المتزوجين تزداد باطراد…
الخلاصة الاولية هي ان لا الكتمان المنتشر في المجتمعات التقليدية و لا الحرية الجنسية التي تتمتع بها المجتمعات الحديثة و المتطورة اقتصاديا و تكنولوجيا استطاعت ان تشكل رادعا ضد التحرش بانواعه او الاغتصاب او الحرمان الجنسي.. لكن لو ركزنا على الوضع في العالم العربي و بلاد المسلمين يمكننا ان نتحدث عن تأثير التغيير الاجتماعي المصاحب للعولمة…
عندما نتحدث عن التغيير الاجتماعي في ظل العولمة فاننا نتحدث عن عمليتين متزامنتين و متداخلتين… اولها … هو تـأكل او تدمير البنية الاجتماعية التقليدية…. و ثانيا… استقبال رموز و مفاهيم من مجتمعات اخرى… لكن بين هذا و ذلك هناك عامل ثالث اكثر اهمية و هو عامل استحداث رموز و مفاهيم جديدة غير ملتزمة باية خطوط حمر… هذا العامل ينشط بشكل كبير و احيانا بتدافق رهيب في منطقة الفراغ بين الرموز و المفاهيم المغادرة و تلك القادمة …
الان نحاول ان الرابط بين الرموز ة المفاهيم و الواقع…. و لنبدأ بالرموز.. حيث ان العلاقات بين المرأة و الرجل مثلها مثل اي منحى من العلاقات الاجتماعية بين البشر تحتفظ بمجموعة كبيرة من الرموز…. سواء كانت هذه الرموز تتعلق بالكلمات التي التي يتم تداولها او بالحركات او الايماءات الجسدية من كل كلا الطرفين و بالتالي هناك من الخطوط الحمر التي وضعها المجتمع للحفاظ على التوازن الاجتماعي العام … و حيث ان مسار التطور الاجتماعي ليست متساوية و لا متزامنة في المجتمعات فان كل مجتمع يحتفظ تاريخيا بمجموعة معينة من الرموز و الخطوط الحمر…
و لكن كيفية فهم الرموز المتداولة او استنباط رموز جديدة يعتمد على فهم تطور الحياة في لحظة تاريخية معينة من قبل الافراد و المجموعات التي تقوم باختراع هذه الرموز او تطوير مسارها التاريخي… و هذا يفتح الباب امام اشكالية مهمة و هي تتعلق بمدى التواصل بين الاجيال المختلفة في فهم ظاهرة معينة و تأثير هذا الفهم على السلوكيات الفردية و الجماعية…
لو فككنا مصطلح التحرش الجنسي لوجدنا اننا نتحدث عن مفهومين غير متلازمين بشكل دائمي فالتحرش قد يكون في اي شيء قد يكون اجتماعيا او سياسيا او اقتصاديا او عسكريا… كما انه قد يكون سلبيا او ايجابيا.. علميا يمكننا ان نعرف التحرش بانه استخدام للوسائل او الرموز بشكل يهدف الى تغيير الوضع السائد و الوصول الى نتائج مختلفة… الدوافع وراء التحرش ترتبط عادة بالتقاطع بين التراكم الزمني للوضع السائد و الاهداف المرجوة تحقيقها..
اما مفهوم الجنس فقد شهد تطورا هاما في العقدين الاخرين… هنا نلاحظ انحسارا سريعا للمفهوم التقليدي الذي يتعامل مع الجنس اما كواجب ديني حيث يقال للذي يتزوج انه يكمل دينه… او شيء خاص لا مرد منه مثل طرح الفضلات من المعدة… الان اصبح الجنس يعترف به كحاجة انسانية مثل الحاجات الاساسية الاخرى …. اي الاكل و الشرب و اللباس… و هذا يستدعي ان تستجاب حاجة الجنس كما تستجاب حاجة الجوع و العطش و اللباس… اي ان مفهوم الجنس قد تحول من شيء عرضي الى حق واضح من حقوق الانسان ( نساء و رجالا على السواء)…
هذا التغيير الجذري و المفاجئ او السريع قد احدث خللا في الاطر الاجتماعية التقليدية التي لم تتوائم مع سرعة هذا التغيير… فبقيت الاطر شبه جامدة بينما تسارعت وتيرة اليات التغيير السيكولوجي داخل اللانسان نفسه و خاصة لدى فئة الشباب… و مع بروز او عودة الدين للهيمنة على حياة الناس فان الفاصلة التطورية بين التغيير الاجتماعي و التغيير الواقعي المادي و المفاهيمي يزداد يوما بعد يوم مما يزيد من مساحة منطقة الفراغ…
و هنا اصبحت الارضية الاجتماعية منفتحة في اغلب مناطق العالم و خاصة تلك المتأثرة بموجات العولمة ليس فقط لاستقبال رموز او مفاهيم غريبة و انما ايضا محاولة المؤامة مع التطور التكنولوجي في كل ما يحمله من تجاوز للجدارات التاريخية و الاسس التقليدية… فقد تم رفع الغطاء عن كل الكوامن و الرؤى و الظلامات و المعاناة و الاحلام و الرغبات … الخ… لكن المشكلة هي ان الشلال العظيم من التغييرات ما يزال يراد له ان يجري في ذات القنوات العتيقة التي لم تعد تستوعب التغييرات لا كما و لا نوعا…. و هذا يسبب التصدعات التي يفهما البعض بشكل سلبي مستخدما مفاهيم اخلاقية مثل التحرش جنسيا كان ام غير… بينما يفهما اخرون بانها تعبير عن روح العصر الجديد حيث يمتلك حرية الحركة و الدفاع عن الذات…
لقد تم تغيير لغة الجسد و التعبير عن الرغبة و لم يعد ممكنا التمييز التقليدي بين الغزل الذي يشكل ديناميكية العلاقات الاجماعية بين الرجل و المرأة و التحرش اللفظي الذي قد يسبب الما نفسيا عند طرف… كما ان التحرش لم يعد من سلوكيات الرجل لوحده و انا هناك سلوكيات نسائية يمكن وضعها ضمن اطار التحرش و هذه الحالة تنطبق على مفهوم الاغتصاب الجنسي ذاته فهناك نساء يغتصبن رجالا مثلما ان نساء يمارسن العنف ضد نساء و رجال اخرين لاتفه الاسباب و هناك نساء اغلبهن شابات يقمن بالسرقة من المحال التجارية…
هذا ما يحصل في الغرب و الدول الصناعية الغنية الاخرى رغم ان جميع هذه الدول تقودها قوى ليبرالية و اشتراكية و تنعم مجتمعاتها بالديمقراطية و الحرية منذ عقود طويلة فلماذا يجب ان نفترض ان شعوبا تعرفت حديثا على الديمقراطية يمكن ان تؤسس نظاما اجتماعيا مبنيا على اخلاقيات جميلة كما كان يريد اجدادهم بينما على الجميع رجالا و نساء الخروج الى العمل و و بذل الجهد دون ان تواجه احدا منهم ادنى خدش…
ما اريد قوله هو ان ظاهرة التحرش الجنسي هي مشكلة عرضية مثل الكثير من المشكلات التي تواجه المجتمعات التي تمر في مسار تغييرات اجتماعية جذرية… و هي بلا شك مشكلة سلبية لكن التوظيف السياسي لها ليس باي شكل من الاشكال اقل سوءا… و بالتالي فان العمل على ايجاد حلول يجب ان يستند الى دراسة الواقع من حيث هو الان و كيف يمكن ان يكون في الايام القادمة و ليس كما كان يوما سابقا تقليديا دينيا او رغبويا من احلام اليسار المتقادم..أكرم هواس (مفكر حر)؟