التبشير بالمانوية

بقلم; عضيد جواد الخميسيsabiaa

في سنة 240 ـــ 241م وصل التفويض ببث الرسالة الى العالم ، وان رسالة الملاك هي التي عينت ماني رسولا ، وتمشيا مع نصيحة الملاك ، اعلن ماني نبوته ، الى والده والى اعضاء اخرين بارزين في اسرته، وضمن ايمانهم به وتحولهم الى عقيدته ، ونستخلص من هذا الخبر ان والد ماني قد احتفظ بالصلة مع انسبائه واقربائه ، وكان هذا ضروريا لان ماني كان قادرا منذ البداية ـــ اعتمادا على تلك الوسيلة ــ على نيل الدعم الفعال .
كان دين ماني هو مزيج توفيقي من المسيحية ، والعقيدة الزرادشتية مع مرتكزات من عقيدة بلاد الرافدين القديمة وفق الشكل الذي اكتسبته من العقيدة المعمدانية ، واصبحت المسيحية والزرادشتية معتادتين على نوع التقوى الرافدية، لان التقاليد المحلية مارست نفوذا قويا ، لهذا كانت المانوية في وضع اكثر اشراقا بين العقائد الاخرى ، والمعني بهذا عالما اللاهوت المسيحي والزرادشتي ،كي يندمجا في كيان توحيدي اعلى ، يوضع تحت تصرف السكان الاصليين لبلاد النهرين بدرجة متساوية ، هؤلاء السكان ذوي النتاج المقدس المنبعث من العقائد البابلية ـــ الاشورية التقليدية الموروثة ، ولاشك ان هذا كله قد انبأ عن توفر امكانات فرص هامة .
ومع ذلك فان نشاط ماني الاجتماعي العام لم تكن بدايته في بلاد الرافدين ـــ كما هو متوقع ـــ بل في الهند، ويخبرنا هو عن ذلك بقوله في نص جاء باللغة القبطية [ بدأت التبشير في السنين الاخيرة لحكم الملك اردشير ، فقد ابحرت الى بلد الهنود ، وبشرت بينهم بأمل الحياة ، واخترت هناك نخبة جيدة ] .

لقد ذهب ماني الى الهند ،ومن المحتمل ان رحلته لم تذهب به ابعد من اقليمي مكران وتوران الفارسيتين اضافة الى المناطق الشمالية الغربية من الهند وقندهار [ اي الى المناطق التي تالفت منها باكستان ] فقد كانت الاقاليم الشمالية الغربية من الهند واقعة منذ ذلك الحين ، اي في حوالي سنة 130 ق.م ، تحت النفوذ الفارسي الشديد ، وبشكل ادق تحت النفوذ الفرثي ، ففي هذه المناطق لربما كان ماني قادرا ــ على الاقل بين الاوساط العليا ـــ على جعل نفسه مفهوما بالتعبير عما كان يريده بلغته الفرثية الام .
ولم يقدر نشاط ماني في الهند ان يدوم طويلا ، ولم يكن عليه ان يمكث هناك مدة تزيد عن السنة ، فقد جاء في روايته قوله [ في السنة التي توفي فيها الملك اردشير ، واصبح ابنه شابور ملكا وخليفة له ،ابحرت من بلاد الهند الى بلاد فارس ، وسافرت من بلاد فارس الى بلاد بابل ، الى ميشان ,, ميسان ,, وخوزستان ] وكان لشابور ــ ملك الملوك ــ اخ يسمى مهرشاه ، كان اميرا على اقليم ميشان ، وقد كسبه ماني الى دينه هو واخوه فيروز، وعليه انتقل ماني الى اقليم ـــ اشورستان ـــ ثم الى اقاليم ميديا وفرثيا ، كما انه نجح اثناء اقامته في طيسفون في اقامة علاقات مع الملك العظيم شابور وجرى استقباله من قبل الملك الجديد ، وحظي بثلاث مقابلات متتالية معه ، وكان برفقة ماني في مقابلته الاولى ، ابوه ، واثنان من تلاميذه هما شمعون وزكوا ,, وكلاهما اسمان سريانيان ,, وقدم للملك بهذه المناسبة كتابه الاول ,, كتاب شابور ,, والذي هو ــ بالمناسبة ــ كتابه الوحيد الذي كتبه بالفارسية الوسيطة .
وتذكر المصادر المانوية ان شابور قد تاثر بعمق برسالة ماني ووافق على السماح له بنشر تعاليمه بكل حرية ، وفي كل مكان من الامبراطورية ، ويقول ماني نفسه ، ان الملك العظيم قد بعث بتوجهاته الى السلطات المحلية في كل مكان لتقديم حمايتها للدين الجديد اسوة بالديانات الاخرى ،المسيحية واليهودية والمندائية وباقي الديانات البابلية ، ويقص علينا في سيرته في سيرته قائلا [ مثلت امام الملك شابور، واستقبلني بحفاوة كبيرة ، ووافق على ان اتجول في بلاده ، وابشر برسالة الحياة ، وامضيت كذلك ؟… اعواما مع حاشيته ] ، كما يروي عن مقابلته الاخيرة الحاسمة مع الملك العظيم قائلا -;- [ كان الملك شابور قلقا عليّ ، فكتب رسالة توصية ودفاع عني الى جميع الاشخاص البارزين ، بالعبارات التالية ,, ساعدوه ودافعوا عنه بحيث لايخالفه احد او يعتدي عليه ,,] ..

وهكذا نعلم ان مؤسس المانوية قد امضى عددا من السنوات بين اتباع الامبراطور ، وهذا يعني ان ماني قد انتسب الى اسرة الامبراطور ، وكان واحدا من الاتباع الملكيين، ولهذا دلالته وعلاقاته بالنظام الاقطاعي ، ويعني وجود رباط خاص للطاعة والاخلاص بين ماني وشابور ، وبهذه الاهلية ذهب ماني مع سيده المرتبط به ورافقه ضمن اتباعه في حملاته العسكرية .
وحققت الحملات لشابور نجاحات عسكرية وسياسية باهرة ، وبدأ الامر عام 260م كما لو ان شابور سيعيد تاسيس الحكم الاخميني في اسيا الصغرى ، ويفسر هذا كيف ان ,, كرتير ,, موبذموبذان الديانة الزرادشتية في بلاطه قد حصل على سلطات مطلقة من الملك العظيم ــ كما سجلها في نقوشه ــ ليعيد من جديد تاسيس الدين الايراني ,, الزرادشتي ,, مع هياكل ناره في الاقاليم المحتلة لاسيا الصغرى، حيث كان قد سلف لطبقة ارستقراطية اقطاعية ايرانية الاستقرار هناك منذ عدة قرون ، ونعم فيهاالرهبان الزرادشت بموقع سلطوي قوي ، وذلك وفق مارواه الجغرافي سترابون .
وبما ان كرتير ــ وفق روايته الشخصية ــ قد اشرف بنفسه على تجديد هياكل النار ، فمن الواضح ايضا انه كان مع الجيش خلال زحفه في الحملات العسكرية ، وبالنتيجة كان كل من ماني وكرتير ــ اللذين اصبحا متعاديين فيما بعد ــ في حاشية الملك العظيم .

ومن العدل ان نفترض ان شابور لم يكن قد اتخذ بعد اي قرار بتقديم اعتراف رسمي لاي دين من الاديان كان يمكن ان يقع اختياره عليه في مثل تلك الظروف ، واذا كان لابد من ايجاد جل لهذه المعضلة ، فان المانوية كان امامها الكثير كيما تعتمد ، لكن وجود كرتير وماني في حاشية شابور ، يوحي بان الملك الساساني قد رغب في ابقاء كل من البديلين تحت تصرفه.
ومهما يكن الحال فقد قوي الوضع القائم وتمتن خلال الثلاثين سنة التي حكم فيها شابور ، علما بان الامور بدت كما لو ان الفرص كلها كانت مهيأة امام المانوية لتصبح الديانة الرسمية للامبراطورية الساسانية ، غير انها لم تصبح الديانة الرسمية كما طمح ماني وتمنى ، ولانعرف المعايير التي اعاقت شابور على الاقدامعلى اتخاذ خطوة كهذه ،ولكننا نستطيع بكل ثقة ان نقدر حق القدر قوة التقاليد المحافظة التي ورثها من اسلافه ،كهنة زرادشت في [ تخت طاووس ] ـــ اصطخر,, شمالي شرق ايران ,, ـــ ، ففي نقشه الكبير يبزغ شابور من وسط الوصايا والتقاليد الموضوعة للطقوس الروحية لاسرته كأمير زرادشتي تقليدي ، اي زرادشتي بالمعنى التوفيقي المقبول للكلمة في ايامه ، لقد كان هذا موقفه الرسمي ،ومن الجائز لنا ان نفترض ان ميوله الذاتية ومشاركاته الوجدانية كانت مع ماني ، فبدون ذلك يصعب تفسير مواقفه المتعاونة معه وتسهيل الحماية والخدمات له ..[يتبع] .

المصادر
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
ماني والمانوية ــــ جيووايد نغرين
المانوية ــ المؤسس والعقيدة ـــ باريس 1949
ابحاث حول المانوية ــ كومونت ــ بروكسل ــ 1912
ديانة المانويين ــــ كوغنر وبوركت ــ كمبردج ــ 1925

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.