فيما كانت صور أوروبا الغارقة في الدماء والرعب تملأ العالم، تداخلت فيها صورة من بلاد التانغو: باراك أوباما يراقص امرأة من بوينس أيرس على انغام الكومبارسيتا (شاهده هنا: فيديو تمايل أوباما مع راقصة التانغو الأرجنتينية يثير العالم المكلوم بضحايا بروكسل ) . وكان يقال إن الفارق بين التانغو والمصارعة الحرة هو أن بعض “المسكات” ممنوعة في المصارعة الحرة.
ذهب أوباما إلى جولته اللاتينية فيما كانت الدنيا تعيد وتكرر دراسة مبادئه ورؤيته السياسية لأحوال – وليس لأهوال – هذا العالم. ولا بد أن الذين جمعوا بين صورة التانغو وصورة المرأة التي عراها انفجار مطار بروكسيل، تذكروا الحكمة التي اطلقها في حديثه المتسلسل إلى “أتلانتيك مانثلي”: يُقتل من الناس في اميركا زحطاً في المغاطس أكثر مما يُقتل منهم على أيدي الإرهاب.
جبّار، يا سيد التاريخ المقارن، وقلبٌ مليء بالعطف. ذات مرة قتل الإرهابيون في أسوان نحو 15 سائحاً وسائحة ألمانياً. وأقدم ثلاثة منهم على بقر بطون السائحات، ثم اغتصابهن. ونددت الصحافة الأميركية بالجريمة، فدافع وزير السياحة المصري يومها عن الاوضاع قائلاً، إن أضعاف ذلك العدد يُقتلون في حروب المافيات في اميركا. أدب مقارن.
يقول روجر بويز في “التايمس”: “لم يقضم شيء من مكانة الولايات المتحدة مثل غرور هذا الرئيس”.
سوف تكون صورة الراقصة شبه العارية بارزة في “الالبوم” الذي يجمعه أوباما. وبعد عاميه الأولين، صار لدي اقتناع بأن الرجل سوف يكتفي بإصدار كتب اخرى تدر الثروة على العائلة، مليئة بالصور التذكارية لأنه لم يتبلغ بعد، ومن الصعب أن يبلغه أحد، أنه اصبح رئيساً للولايات المتحدة، الكرسي الذي بدأ باعداده له أبراهام لينكولن.
الحديث الذي أدلى به إلى “أتلانتك” هو حديث مقاه، لا بيت ابيض. يستخف بالرؤساء الذين سبقوه، يهمل مبدأ العلمانية لكي يتدخل بين السنة والشيعة، ناسياً أن “نظرية المؤامرة” تتهم أميركا بتغذية الصراع بين هؤلاء وأولئك. وإذ يعرض مبدأه في صيغة صبيانية مجردة، يقرر أن يلغي الشرق الأوسط برمّته من الخريطة: لنذهب إلى آسيا لأن الأمور شديدة التعقيد هنا.
يدافع أوباما في مبدئه عن الاشياء التي لم يحققها. ويفعل ذلك مثل أي طفل، أو مثل أي أقليّ أخفق في مسؤوليته. فالخطأ ليس خطأه، بل دائماً هناك سياسي آخر يتحمل الذنب. فالحرب الليبية كانت “مسرحية غائطية” يتحمل وزرها تائه يدعى ديفيد كاميرون، أو بهلوان يدعى نيكولا ساركوزي. فقط في الموضوع السوري يُقر بشيء من التقصير. لكن الحالم الأسمر الذي راهن عليه العرب ومعظم العالم في أن يحقق معادلة ما للقضية الفلسطينية، لا يقول لنا اطلاقاً كيف انتهى به الأمر ألى هذا الإخفاق. فقط يكرر التأكيد أن سلامة اسرائيل مسألة اخلاقية عند الرئاسة الاميركية، مندفعاً في الهرب من الحل، بل عازماً على الهرب من منطقة الشرق الأوسط برمّتها. ومن يقرأ “مبادىء” الرؤساء السابقين، يذهله ان هذا الاتجاه يعكس، أو ينقض، جميع الالتزامات الماضية التي كانت ترى في المنطقة جزءاً من أمن الولايات المتحدة نفسها، ومن الأمن العالمي بصورة عامة. وبدل أن يواجه أوباما الفشل الاميركي على جميع المستويات الشرق الاوسطية، يفعل ما يفعله المراهقون: يقرر ترك المنطقة إلى الأبد.
إلى أين يريد الذهاب من هنا؟ إلى آسيا؟ وأي سعادة أسعد من آسيا؟ خذ كوريا الجنوبية. خذ سنغافورة. خذ ماليزيا. بل إذا شئت خذ تايوان المحتقرة ومضرب المثل في خِطب لبنان. إنها الاقتصاد الخامس عشر في العالم من 170 دولة. تُصدّر إلى الآخرين كل سنة 360 مليار دولار مقابل سبعة للبنان، ومعدل البطالة فيها 2%. أما عندنا فتطلّع حولك. لكنها مضرب مثل في بلاد الحكايات والزبالات والامثال، على كل حال.
الأفضل أن نعود إلى أوباما الذي يترك الرئاسة الاميركية وهو بعد في الرابعة والخمسين، لنسأل تكراراً لمن يريد أن يترك الشرق الأوسط؟ سلم الرجل المنكفىء موقع أميركا إلى الروسي المندفع في كل مكان. واحد لا يرى مبرراً لاستمرار التفوق الاميركي لأنه باهظ التكاليف، وواحد يريد استعادة مجد الاتحاد السوفياتي، مرسلاً دباباته إلى القرم، مقسماً أوكرانيا، ملعلعاً في القوقاز، مطارداً الشيشانيين إلى سوريا، حيث قامت مقاتلاته باوسع عرض عسكري لها منذ الحرب.
إذ يرسل أوباما مبررات التخلي عن الشرق الأوسط، يخرج من النص مرة أخرى، رجل يسيء استخدام التعابير. إنه يدعو إلى أن “تتقاسم” السعودية وايران هذه البقعة البركانية. لم يستخدم أحد هذا المصطلح على ما أذكر. حتماً ليس على مستوى الرؤساء ورجال الدول. أو بالاحرى ليس منذ المسيو بيكو والسير سايكس، اللذين نحتفي بمئويتهما هذه السنة. لقد اعتدنا خرائطهما (إلا طبعاً فلسطين)، والآن يريدنا بوتين واوباما أن نعتاد شيئاً آخر. الاميركي الرسمي يقول إن سوريا لن تعود كما كانت، والروسي الرسمي يتحدث عن الفيديرالية كأنها الترياق الآتي من العراق. يا له من نموذج جهنمي، ذلك الذي قام بين النهرين.
تحيِّر المطالعة المطولة في “أتلانتك مانثلي” في أمر الرجل أوباما. فهو أول رئيس “يعاتب” منتقديه. وقد أبلغه أحد أعضاء الكونغرس ان ملك الأردن عبدالله الثاني ينتقد سياساته، فما أن التقاه بعد ذلك في مؤتمر عالمي، حتى انتحى به جانباً ليسأله هل صحيح ما نُقل إليه. طبعاُ نفى الملك ذلك، وتمت المصالحة فوراً. وهو اول رئيس “يقرِّع” العالم العربي ويؤنبه ويعتبره مجرد بئر نفطية لم يعد لها حاجة في الاستراتيجية الاميركية. ثمة خفة شديدة في هذا المسلك نحو التاريخ. رئيس الولايات المتحدة يردد ما يقوله ويعرفه جميع الناس، وهو ان بلاده سوف تكون بعد حين في غنى عن النفط العربي. حسناً، ماذا يحدث؟ إذن لا حاجة بها للمنطقة، أو العلاقات الخاصة التي دامت أكثر من 80 عاماً. هذا كلام يقوله محلل سياسي أو نفطي، لكن لا يعلنه رئيس دولة. فإذا لم تعد هناك مصلحة لأميركا مع العرب، فليس لها مصلحة ايضاً في معاداتهم، ولا في معاداة سواهم. ولعله يلاحظ بعد ولايتين في البيت الأبيض، أن المسافات الوجودية بين العالم قد ضاقت كثيراً، وان أوروبا مهددة، وأن مواجهة الارهاب المنتشر في كل مكان، من افريقيا إلى آسيا إلى أوروبا، لم تعد مهمة دولة واحدة، بل صارت مهمة كونية لا مفر منها، لأن طبيعة الحرب الحالية لا سابقة لها. فالاميركيون يقولون مثلاً إن 22 الف داعشي قتلوا، في حين لم يعلن عن اعتقال سوى واحد. حرب لا معتقلون فيها ولا شهود.
عندما وصل باراك حسين أوباما إلى البيت الأبيض، كان هناك تفاؤل عالمي بأن ثمة مرحلة كونية على وشك أن تبدأ. فالعالم الذي يمكِّن ابن كيني مسلم من الرئاسة الاميركية، قد وضع خلفه ذلك العالم الأليم المليء بالعنصريات والصدامات الهمجية والحروب المجانية والاعتداءات والمظالم والغطرسة والاستقواء ورفع رايات الجهل والقتل. وربما كان في ذلك الأمل بعض المبالغة في التفاؤل. غير أن التحول كان مذهلاً الى درجة أن الناس رفضت الأخذ بمنطق المحدوديات. هوذا دون كيخوته شاب في أعلى قمم السياسة العالمية، يرى الطواحين من فوق، لا من تحت، وسيفه من حديد، لا من خشب. لكن شيئاً واحداً لم تحسب الناس حسابه، هو أن دون كيخوته الجديد اختار سيف دون كيخوته الأصيل. وقف “بسيف خشبي امام الطواحين مهدداً باللا شيء”.
في الداخل الاميركي استنسخ أوباما احلام دون كيخوته الصعبة: العدالة للايتام والأرامل. الضمان الصحي للفقراء. العناية والمساواة للأقليات. ولكن حتى في هذا المشروع الطوباوي وجد الباب إلى التاريخ ضيقاً. حاصره الكونغرس كما حاصر من قبل “الغرباء على واشنطن”، واختلف مع معظم مساعديه، بدءاً بهيلاري كلينتون. أما جون كيري، فكان أكثر طاقة على التحمل.
“مبدأ” الرئيس مطالعة صبيانية في أحوال العالم و “حالة الاتحاد”. رجل هاو، أو متدرب، لا يتردد في استخدام التعابير الشديدة الابتذال في وثيقة تاريخية يختتم بها عهده.
ما هي خلاصة العهد وما هو جوهر “المبدأ”؟. إن الحق على جميع الآخرين. الاوروبيون والعرب والمسلمون، بل حتى، اجهزته الخاصة التي اخفقت في اعطائه الصورة الحقيقية عن “داعش”، اكبر خطر دولي في عالم اليوم. هذه “نهاية اللعبة” كما يقول المثل الاميركي. دخلها أوباما شاباً وخرج منها مراهقاً. والعالم من حوله يتمزق. والناخب يشتهي دونالد ترامب. وتانغو في عيون الحاسدين.
نقلا عن “النهار”