لقد كان في قرطاجة عدد كبير من أهلها يحملون أسماء “هملكار ” ، و”هزدروبال “، “وهنيبال”، وأن هذه الأسماء لا يخلو منها جيل من الأجيال ، وكانت من الأسماء الشائعة في أقدم أسرها . وكانت أسماء تدل على التقوى والصلاح ، ومشتقة من أسماء الآلهة ..
فأما “هملكار” معناه ( من يتمتع بحماية ملكارت ) ، وأما “هزدروبال” فمعناه (من في معونته بعل ) ، ومعنى “هنيبال ” (الفضل لبعل ) .
ولقب هملكار الذي نتحدث عنه في هذا الموضوع ” بهملكار برقة” (الصاعقة ) ، وذلك لأنه كان من طبيعته أن يعجل بضرب عدوه ويفاجئه حيثما وجده .
وكان لا يزال شابًا في مقتبل العمر حين ولّته قرطاجة في عام 247 ق.م القيادة العليا لجيوشها، فسار ومعه أسطول صغير نحو إيطاليا وأخذ يغير على سواحلها ويفاجئها بالنزول في أراضيها ، ويدمّر المراكز الرومانية الأمامية ، ويأسر كثيرًا من جنودها. وفي واحدة من معاركه أنزل جنوده إلى البر في مواجهة جيش روماني كبير كان يحمي مدينة “بنورمس ” ( بالرمو حاليا )، واستولى على هضبة تشرف على المدينة . وكانت القوة التي يقودها أصغر من أن تجازف بالاشتباك مع الرومان في واقعة كبرى ، ولكنها كانت تعود بالأسباب كلما قادها لمهاجمتهم .
وأخذ يرجوا مجلس الشيوخ القرطاجي أن يبعث إليه بالأمدادات من الأسلحة والمعدات والتموين ، ولكن المجلس لم يستجب لطلباته ، بل فأن المجلس أمره بأن يطعم جنوده ويكسوهم من مال البلاد التي يستحوذ عليها .
وكان الأسطول الروماني في هذه الأثناء قد انتصر في واقعة بحرية أخرى ، ولكنه هزم هزيمة منكرة عند “دربانا “، وأضعفت هذه الحروب قوة الفريقين على السواء فاتفقا على تسعة أعوام من الهدنة.
ولم يبدر عن قرطاجة شيئاً في هذه التسع السنين ،لأنها كانت تعتمد على عبقرية هملكار ، وأما روما فإن فريقا من أبنائها الحرفيين قاموا ببناء اسطولا بحريا مؤلفا من مائتي سفينة حربية وبتعداد ستون ألف جندي . وأبحرهذا الاسطول ذو الترسانة القوية بدون علم من خصمها، وباغت الرومانيون الأسطول القرطاجي عند جزر “إيجاديان ” بالقرب من ساحل صقلية وألحقت به خسائر فادحة فاضطرت قرطاجة إلى طلب الصلح .
حينها تنازلت قرطاجةعن أملاكها في صقلية إلى روما ، وتعهدت أن تؤدي لها غرامة حربية مقدارها 440 تالنتاً في كل عام وعلى مدار عشرة أعوام ، وألغت كل ما كان مفروضاً على التجارة الرومانية من قيود .
كانت الحرب قد دامت عشرين عاماً أو نحوها وأشرفت روما في خلالها على هاوية الإفلاس حتى اضطرت إلى تخفيض قيمة نقدها بنحو 83%، ولكنها برهنت على ما في أخلاق الرومان من صلابة لا تلين، وعلى تفوق الجيش المكون من رجال أحرار على مرتزقة الجند الذين يسعون للحصول على أكثر المغانم بأقل ما يمكن إراقته من الدماء .
وكادت قرطاجة أن تقضي عليها شراهتها وأطماعها؛ ذلك أنها كانت قد عمدت ان تسحب يدها بعض الوقت عن دعم جنودها المرتزقين، فلم تؤد إليهم أجورهم، ولم تستثن من هؤلاء من أخلصوا في خدمة هملكار . فأقبلت جموعهم على المدينة يطالبون بتلك الأجور ، ولما تلكأت الحكومة في إلأستجابة لمطالبهم تمردوا عليها علنا ، وانظمّت فئات واسعة من الشعوب القرطاجية إلى هؤلاء المتمردين من وجهة نظر الحكومة ، وثوار من وجهة نظر القرطاجيين ، وكانت العباء الضريبية التي كان الشعب يتحملها جرّاء الحروب المستعرة لفترات طويلة .
باعت نساء “لوبيا “حليهن لتمد الثوار بالمال ، وحاصر قرطاجة عشرون ألفًا من جنود المرتزقة والثوار يقودهم “ماثو” وهو من “لوبيا ” و “اسبنديوس ” وهو عبد “كمباني” .
وكان ذلك الحصار في وقت لا يكاد يوجد فيها جندي يحميها . وارتعدت فرائض التجار فرقاً وخشوا أن يقضي عليهم الثوار ، فأرسلوا في طلب هملكار ليؤمنهم على حياتهم . وألفى هملكار نفسه يتنازعه عطفه على جنوده المرتزقة وحبه لمدينته ، ولكنه آثر مدينته على جنده وجند جيشاً من عشرة آلاف قرطاجي ودربهم ، وقادهم بنفسه ، ورفع الحصار عن المدينة . وإرتد الجنود المرتزقون المهزومون إلى الجبال ، وقطعوا يدي “جسكو” أحد القادة القرطاجيين وقدميه ، وكسروا ساقيه ، وفعلوا ذلك الفعل نفسه بسبعمائة أسير غيره ، ثم ألقوا بمن بقي منهم أحياء في قبر جماعي بلا تمييز بينهم .
واحتال هملكار على أربعين ألفًا من المتمردين حتى اضطرهم إلى الالتجاء إلى مضيق ، وسد عليهم مسالكه حتى أوشكوا على الهلاك من الجوع . فأكلوا من بقي لديهم من الأسرى ، ثم أكلوا عبيدهم ، واضطروا في آخر الأمر أن يرسلوا “أسبنديوس ” بطلب الصلح ، فما كان من هملكار إلا أن صلب أسبنديوس وألقي بمئات من الأسرى تحت أرجل الفيلة ، وظلت تطؤهم حتى قضوا نحبهم . وحاول المتمردون أن يجدوا لهم مخرجاً لمأزقهم الذي وقعوا فيه ، ولكن جيش هملكار قطع أوصالهم ، وقبض على ماثو وأرغمه على أن يعدو في شوارع قرطاجة ، وأهلها من ورائه يضربونه بالسياط ويعذبونه حتى مات .
دامت “ حرب المرتزقة “ هذه أربعين شهرًا ( 241-237 ق.م) ، ويقول “بولبيوس “: ( إنها كانت أفظع الحروب وأشدها وحشية ، وإن ما سفك فيها من الدماء لم يسفك مثله في التاريخ كله ) .
ولما خمدت نار الفتنة وجدت قرطاجة أن الرومان قد احتلوا سردانية . فلما احتجت على هذا الاعتداء أعلن الرومان الحرب عليها . واضطر القرطاجيون في يأسهم إلى طلب الصلح ، ولم ينالوه إلا بأن يؤدّوا لروما فوق ما كانوا يؤدّون لها من الغرامة 1200 تالنت ، وأن يتخلوا عن سردانية وقورسقة .
وفي وسعنا أن نتصور غضب هملكار من هذه المعاملة القاسية التي عوملت بها بلاده . فعرض على حكومته أن تمده بالجند والمال ليعيد قوة قرطاجة في أسبانيا وليستعين بها لمهاجمة إيطاليا . وعارض الملّاك الأشراف هذه الخطة لأنهم كانوا يخافون مغبة الحرب ، ولكن طبقة التجار التي حزّ في نفوسها ما فقدته من المصالح الأجنبية أيدته . وتراضت الفئتان وأتفقت بعدئذ على أن يقود هملكار قوة صغيرة يعبر بها البحر إلى أسبانيا ، وبهذه القوة الصغيرة من العسكر، استولى على المدن التي كان ولاؤها لقرطاجة قد تزعزع في أثناء الحرب ، وقوّى صفوف جيشه بأهلها، وجهّزه وأمدّه بالمال من غلات المناجم الأسبانية ، ومات وهو يقود هجوماً على إحدى قبائل تلك البلاد . وترك وراءه في معسكره “هزدروبال” زوج ابنته وأولاده ، “هنيبال” ، و ،”هزدروبال “و “ماجو”الملقب بـ ( ابن الأسد ) . واختير زوج ابنته قائدًا بدله ، وظل ثماني سنين يحكم البلاد بحكمة وسداد كسب في أثنائها معونة الأسبان، وأقام بمقربة من مناجم الفضة ، مدينة عظيمة يعرفها الرومان باسم “قرطاجة الجديدة” وهي مدينة قرطاجة الحالية.
ولما اغتيل في عام 221 ق.م اختار الجيش لقيادته “هنيبال ” أكبر أبناء هملكار، وكان وقتئذ في السادسة والعشرين من عمره . وكان أبوه قد جاء به قبل أن يغادر قرطاجة ، وهو لا يزال غلاماً في التاسعة من عمره ، إلى مذبح “بعل – هامان “وأقسم من على منصته بأن يثأر لبلاده من روما في يوم من الأيام ولم ينس وعده .