إذا كانت لا تزال لديك القدرة على مشاهدة أخبار الكابوس العربي كل مساء، سوف تلاحظ أن حلم الوحدة قد تحقق: الحدود قد زالت والشعوب قد تبادلت وحرية التنقّل قد تأمّنت. أخبرني رجل من “الصحراء”، جهة موريتانيا، أن مدينة “العيون” امتلأت بالنازحين السوريين. ودولتا “الكيان الهزيل”، الأردن ولبنان، تضمّان الآن نحو خمسة ملايين سوري وعراقي وفلسطيني. وديار الله واسعة.
سوف تلاحظ شيئاً آخر في مشاهد نشرة الثامنة: أن هذه الأمة الشاكية الفقر والجفاف والتخلُّف، تصرف كل يوم عشرات الملايين من الدولارات على السلاح، جواً وبراً وبحراً وأنفاقاً (غير غزة). وسوف تنتبه إلى أن جميع الجبهات داخلية أو عربية، لولا الاستثناء الغزاوي الذي يذكِّر “الأسرة الدولية” الرثّة، بأن التوحّش ليس عربياً فقط وإن الذي بدأ طريق التهجير والتشريد في هذه المنطقة البائسة، هو إسرائيل.
وإذا كنت لا تزال تتابع الأخبار والتعليقات والتحليلات، سوف تلاحظ، أو ربما تلاحظ، أننا نتعامل مع كل شيء وكأننا في رحلة بحرية (كروز) نتفرّج على أرض ليست لنا. كل محلّل (سياسي) يحدّثك عن مشاريع تقسيم المنطقة. وعن المؤامرة. وعن مخططات الإمبريالية. وعمّا يُرسم لك ولي وله.
يتحدث العرب عن هذه القضايا وكأن لا علاقة لهم بالأمر. إنهم غير مسؤولين عن شيء ولا عن أحد. المُرتكب هو دائماً الغريب، الأجنبي. يوم نتّهم أميركا بالتآمر، ويوم نتّهمها بالتخاذل، ويوم نعرض عليها التحالف في الحرب على الإرهاب.
ما من جديد: صدام حسين ومعمر القذافي قالا في خطاب رسمي إن المشكلة مع “أمريكا” هي في خيارها المحلّي. الثاني كان سفيهاً في مخاطبة شعبه وخصومه، لذلك، دفع “جماهيره” إلى شوارع طرابلس الجميلة يرفعون لافتات كُتب فيها “طزّ في أمريكا”. وعاد ابنه ووريثه المفترض، سيف الإسلام، فقال للعالم أجمع “طزّ”. هل يمكن أن تبقى دول، السلطة فيها للسُفهاء، ولغة الحاكم هي لغة الزقاق، أو الزنقة؟
وصلت هذه الفئة إلى الحكم فوصلت البلدان إلى هذا الدرك.
كان اليونانيون القدامى يقولون إنه كي لا تكون حاكماً ظالماً أو محكوماً مظلوماً، لا بد من الحل الوسط، القانون. انقسم العرب بعد الاستقلال بين حاكم قاهر ومحكوم مقهور ولا قانون في الأفق.
سقطت دولة القانون في العالم العربي ليقوم مكانها الانقلاب. انتقلنا من أن وزير التعليم هو طه حسين، إلى أن وزير العلوم هو حسين عبد المجيد، صهر صدام حسين، الذي سيعود فيُقتل بأيدي عديّ صدام حسين في عملية تحصيل شرف سياسي وخروج على أوامر العشيرة.
“تجوب في المدينة سيارات البيك آب التي تنتصب على ظهورها قواعد الشيلكا والدوشكا، وبواريد القنص وصناديق القنابل اليدوية. سيارات كاملة الصلاحية بقطع الطرق الرئيسية وتعطيل أشغال الناس في أي وقت(…) مدنيون بأسلحة فردية خفيفة ومتوسطة كلهم يتجوّلون بغطرسة في قلب السوق ولا يجرؤ أحد على رفع وجهه أو صوته في حضرة بنادقهم. يُباع الموس الكبّاس والخناجر والبوكس الحديد والبلطات والعصي الكهربائية علناً على البسطات فوق أرصفة السوق”.
من أين هذا المشهد؟ إنه اختصار مُجحف لصورة نقلتها نجاة عبد الصمد (“الملحق”، السبت 30 آب) من السويداء، ذات زمن درّة جبل العرب ومنصّة الثورة العربية. ذكَّرتنا صاحبة هذا القلم الأدبي بتلك المشاهد الغائرة في كتب التاريخ، يوم في شوارع السويداء سلاحان، الفرنسي المستعمر والدرزي المقاتل، ويوم اسمهان تغني في القاهرة من أجل جمع الأسلحة للجبل.
هذا هو المشهد الذي تراه في نشرة الثامنة (والعاشرة والسابعة والسابعة والنصف) على نحو 2000 شاشة عربية. نضال تلفزيوني وأسلحة في الشوارع وغزة حصار على الأرض وقصف في السماء. جبهات وخيام وحرّ قاتل أو صقيع مثل صقيع القلوب. أو أكثر توحشاً. وغطرسة. وعجرفة. وهمجية.
غاب في هذا الضياع وعامّية الموت، صوت حبيب من دروز فلسطين. وُلد سميح القاسم يبكي ضياع فلسطين ومات يبكي غياب العرب. لم يفقد لحظة الأمل بتحرير فلسطين وفقَد مُبكراً أي أمل بقيامة العرب من عقل العبودية وإدمان الاستعباد. غنّى لفلسطين منذ اليوم الأول ولم يمنع ذلك الشاعر معين بسيسو من وصفه بـ”الجاويش في الجيش الإسرائيلي”. عندما يصاب الشعراء بالحسَد، يردحون من الشرفات. لكن محمود درويش وسميح القاسم كانا للشعر العربي ما كان أحمد شوقي وحافظ إبرهيم. الأول كتَب في حُب الأرض وفي حُب سواها، والثاني لم يكتب إلا لها. هكذا فعل سميح القاسم الذي ضحّى بإغراءات الشاعرية من أجل أن يكون شاعر القضية درزياً. فقد ملّ السخافات التي قيلت في دروز فلسطين. وسئم أن يقول لسائر العرب إنه ليس هناك درزي واحد بين آلاف المتعاملين والخوَنة والمحكومين بالإعدام.
في سبيل ذلك عاش سميح القاسم في عصر نزار قباني من غير أن يقف على نافذة أو أن يتعلّق بضفيرة. شعر أن لا شيء يرفع لعنة الأقليات عند العرب. حتى تاريخ سلطان الأطرش. أينما اتجهت هناك لافتة أو حاجز يذكّرك بـ: “المسألة الشرقية”. أي أننا نعيش اليوم ذلك الظلام الذي عاشَته المسألة الأوروبية من قبل. الناس طوائف لا بشر، ومعتقدات لا مواطنون. داعش مجرد اسم آخر لمحاكم التفتيش. وقبل 70 عاماً فقط كانت أوروبا تدكّ بعضها البعض. الياباني يركع للامبراطور والأميركي لا يرى الحل إلا في قنبلة ذرية.
ولكن يفترض أنه بعد 1945 دخل العالم عصر الضوء والعِلم والحياة. الذَرّة لإنارة المستشفيات، والمختبرات لصناعة الأدوية، والآلة لإخراج الإنسان من مشاركة الثور في الفلاحة والبغال في الأحمال. كانت محاكم التفتيش في عصر ظلام كلّه، والحروب القومية في زمن لا أفق فيه، فما هو مبرّر العودة إلى فكر البربرية، فيما حقوق اللوكسمبور في الوحدة الأوروبية مثل حقوق ألمانيا، أو فيما تحكم امرأة أزهى اقتصادات العالم: البرازيل وكوريا الجنوبية وألمانيا وتشيلي؟ هل تلاحظ في نشرات الأخبار أننا أسوأ اقتصادات العالم، لا شيء يزدهر سوى السلاح وأن مَن لا تقتله داعش بسبب معتقده يقتل نفسه بسبب معتقدها. ثقافة قاعدتها واحدة: الموت من طرَفيها والقتل من طرَفيها. وإذا كنت تريد صورة أوفى لما صرنا إليه، يجب أن تقرأ نجاة عبد الصمد: كيف صار ممنوعاً على المدينة الآمنة أن تبقى في مراتبها. اعتبرت سياسة نجيب ميقاتي في النأي بالنفس خيانة وتخاذلاً. كذلك اعتبرت دعوة غسان تويني إلى الحياد، ليس حيال إسرائيل ولا في القضية العربية، بل في مجانيات الخراب العربي. ليس في وحدتهم بل في حروبهم.
لم نكن في حاجة إلاّ إلى القليل من التواضع لأنه يوفّر لنا بعض الواقعية وليس البراغماتية. الواقعية ليس بمعنى الانتهازية والتكاذب ومنافقة الجاه والثروة وأقبح أشكال الفساد، وإنما الواقعية بمعنى الترفّق بأحوال الناس والمحافظة الممكنة على راحة بالِهم. الواقعية بمعنى محاولة العثور على درب مشترك بدَل حال التشلّع والتفكّك والتكارُه والنفخ في الغرائز. الواقعية بمعنى البحث عن سقف وطني بدل التخبّط في قعر هذا المستنقع منذ 40 عاماً على الأقل.
لا نتحدث عن مثاليات مستحيلة بل عن واقعيات بسيطة تحمي بسطاء هذا البلد الذين لا نعرض عليهم سوى الخيار بين آتون وآخر. إلى حضرتكم نشرة المساء: العالم العربي مُلبنن كله. والذين كانوا يُرسلون إلينا المناضلين لتحريرنا من هدوئنا، من ليبيا إلى سوريا مروراً بالعراق، نُرسل إليهم الآن مناضلينا. ونعطيهم دروساً في الوطنية والقومية. ونترك للدوائر المختصة في الأمم المتحدة أن تُحصي القتلى والمشوّهين. كلفة السلاح متروكة لتقديراتكم… البث مباشر.
* نقلا عن “النهار” اللبنانبة
newspaper.annahar.com/article/167248-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A8%D8%A7%D8%B4%D8%B1