ان الايمان بالآخرة ما كان له ان يكون ايمانا هنديا حقيقيا لو لم يخصص نصيبا للمخلوقات المؤنثة الجميلة التي يلتقي الصالحون بها في السماء او ( براهمالوكا) ، كما ان دراسة التراتيل المانوية ترينا انها لم تهمل عذارى الجنة الموعودة ، وعندما يلتقى الانسان الصالح في المانوية مع ذاته السامية على شكل عذراء الهية رائعة ، او فتى وسيم مفتول، فانها ترافقه او يرافقها في الطريق الى الجنة ، ونقرأ هذا في قطعة نحتية صغدية مكتوبة ( متحف وسط لندن )، وتواصل هذه القطعة شرحها قائلة :
” سيقترب الانسان الصالح اثر موته ما لا يقل عن ثمانين ملكا من الجنس الآخر مزنين بالورود ويحضّونه على التقدم نحو جنة النور ليتذوق السعادة هناك “
ان اشد اللحظات تأثيرا في جميع المعتقدات الايرانية المتعلقة بالآخرة هي تلك التي يصادف فيها الانسان الصالح المتوفي ذاته السامية على شكل فتاة جميلة في الربيع الخامس عشر من عمرها ، تخبره انها هي روحه ، ويتضح هنا تماما ان المفهوم والرمز المانويين هنا مقتبسان من الايمان الايراني القديم المتعلق بالآخرة .
ودعيت الفتاة السماوية التي تجسد اعمال الانسان على الارض ، والتي تأثرت صفاتها ومظهرها بهذه الاعمال في النصوص الزرادشتية بإسم ( كونسن ) ” أي سلوك الميت ” .
ويشغل الرداء الممنوح للروح الصاعدة ، حسب الرأي المانوي ، دورا هاما في النصوص الزرادشتية المكتوبة بالايرانية الوسيطة ، وفي النصوص العرفانية ذات المنشأ الأيراني ، وهذا صحيح بشكل خاص بخصوص ترتيلة اللؤلؤة ، وبناء عليه يوجد هنا رمز آخر اقتبسته المانوية من العرفانية الايرانية .
وخدمت اعمال التقويم بعض الآراء الشائعة العائدة للمصطلحات الغنوصية والمانوية في تقديم المظاهر الرئيسية للايمان المانوي بالآخرة بقدر ما يتعلق الامر بأرواح الصالحين . واما فيما يتعلق بأرواح الاخرين فقد كانت عقيدة ماني عقيدة تقمص ، ولربما جاء هذا كمسألة استيعاب للبوذية ، مع انه يجب عدم استثناء تأثير الفيثاغورثية المحدثة ، ومن الغريب ان التقمص قد دعي في النصوص القبطية بعبارة هي في الاغريقية تعني ” إعادة الصياغة او التشكيل ” ، ومن المحتمل ان هناك وراء هذا الاستخدام للكلمة افكارا ايرانية ــ هندية قديمة حول كون الانسان نتاجا لصانع ( حداد) سماوي يوجب على كل روح ان تملأ بالعزيمة ( تصبح فولاذية ) خلال النار ، حتى تكون مهيأة لاجتياز عملية الانبعاث الروحي داخل الأتون المشتعل ، وتعالج الحكايات الايرانية القديمة حول إله البرق الموضوع نفسه .
ولم يكن الايمان المانوي بالاخرة ، حسبما تعلق بالفرد وأثر به ، متطابقا مع المستقبل المعد للعالم بصورة عامة ، والتفسير الذي يجب تتبعه حول هذه المسألة ، هو ان ذرات النور الخالد لم يتم وقفها على الارواح البشرية ، بل كانت قد تم توزيعها في كل مكان ، في الطبيعة ، في النباتات ، والاشجار والفواكه ، وفي المخلوقات الحيوانية
ويمكن بوضوح استخلاص جزء من المواد للأسفار الايرانية ، فمثلا تتحدث قطعة أثرية تركية مانوية عن ايام الآخرة عندما سيظهر “مثرا” المزيف الذي يكون الثور مطيته والحرب علامته ، وتؤكد مختلف التقاليد الموروثة ، ان الإله مثرا المخلص كان له مثرا مزيف ، وهو بمثابة نظيره الاخروي .
ومن المحتمل ان الحدث المتعلق بمثرا المزيف قد كان جزء مما يسمى بـ ( الحرب العظيمة )، وهي الدراما للرؤية الاخيرة التي ظهرت الى حيز الوجود بشكل خاص في المواعظ القبطية ، وكانت عبارة ( الحرب العظيمة ) اسما قد اقتبسه ماني من المصطلحات الايرانية ، وهي العبارة نفسها التي استخدمت في الاوصاف الرؤية الزورانية .
وتم التنبؤ نتيجة هذه المواجهة الحاسمة على انها انتصار لمعبد الصلاح ، اي جمع الصالحين ، كما ستجتمع جماعة المصلين المتبعثرة من جديد ، وسيتم تحديد المعبد وانقاذ الكتب المقدسة المعرضة للخطر ، واتمام انتصار المانوية ، وسيأتي الجيل الجديد ويستحوذ بقوة على ممتلكاته وسيحظر الملك العظيم ويتولى السلطة ، وسيقدم الجيل الجديد له الطاعة ، وستقوم القيامة اثر ذلك ، وذلك عندما ستجتمع الارواح امام العرش ، وسيتم فصل الخير عن الشر ، والغنم عن الماعز . اذ تستخدم النصوص المانوية بعض الاوصاف الاستعارية للعهد الجديد والمحافظ عليها .
ويعكس كل من الجزئين المتبقيان من الشابورقان ( كتاب ماني ) والمواعظ القبطية وجهة نظر ماني حول هذا الموضوع ، وتظهران ان ماني كان منسجما الى درجة كبيرة مع مفاهيم مسيحية حقيقة ، هذا من ناحية ، اما من ناحية اخرى فان لقب الملك العظيم مأخوذ من ( الهامات هيستاب ) الرؤية الايرانية ، وهي سلسلة من النبؤات كانت منتشرة في منطقة الشرق الوسط في القرون التي انصرمت قبل ميلاد المسيح .
واستطردت العقيدة تقول ( ان يسوع سيحكم في الارض لمدة قصيرة من الزمن ، ثم ان المسيح سيترك مع النخبة والآلهة الكونية الحارسة للعالم ، وسيعود معهم الى مملكة النور ، حيث تحصل النهاية عملية التطهير ، وسيتم جمع ذرات النور تلك التي مايزال انقاذها ممكنا لتشكل نصبا نهائيا ” ان كلمة انديانزــ هي العبارة المستخدمة في النصوص القبطية ” حيث سيتم رفع هذا النصب الى السماء مثل عمود ضوئي كوني ، وسيتم بعد هذا مباشرة الغاء القبة السماوية ذاتها ، وسييقذف الملعونون والشياطين وعالم الظلام بعضهم مع بعض على شكل كتلة بشعة ، وسيتم اغراق هذه الكتلة في اعماق أخدود ذي امتداد كوني سيتم عندئذ بصخرة عظيمة ) ..
أنهى ماني وصفه لسير العالم بهذه الرؤى الكونية الفخمة ، ووصل بالتالي الى نهاية الطور الثالث ، فقد اشتمل الطور الاول على وضع الكون قبل مزج الظلام والنور ، واهتم الطور الثاني بمدة ذلك الاختلاط ، ودل الطور الثالث على فصل العناصر المختلطة ، وتعد هذه العقيدة ذات الشُعب الثلاثة مع المبدأين الاثنين عقيدة المانوية الرئيسة .
ويُظهر التقسيم الثلاثي للزمن في النصوص الزرادشتية ــ البهلوية حيث تحتوي عل صيغ : ماهو كائن ، وما كان ، وما سيكون ، لكن هذا النمط اقدم من ذلك بكثير وموجود في سجلات ( وبانيشاد) الهندية وهي من اصل هندي ــ ايراني .
ويتتبع نهاية الكون كما تم تخيلها يمكن الافتراض ان سير العالم سيكون بعودة الاشياء الى الحالة التي كانت قائمة قبل خلط النور والظلام ، وكأنما كان هذا إرجاعا حقيقيا بالفعل ، انما على الرغم من التكلم بهذا الخصوص عن ارجاع الطبيعتين، يبقى هناك اختلاف ، لان قوة المادة والظلام لن تكون قادرة بعدئذ على تجديد الهجوم على عالم النور ، وسيواصل كل من مبدئي النور والظلام وجودا منفصلا ، ومع ذلك فان الآراء تتباين حول كمالية عالم النور ، فقد صرحت المدرسة الاولى ان إله النور كان قادرا على استعادة جميع ذرات النور المفقودة ، بينما ردت الثانية ، وقد كانت اكثر تشاؤما ، بقولها انه قد تم فقدان جزء من النور الى الابد ، وكان لذلك الجزء جزء لاحق ليوم الحساب ليشارك الاحتجاز الابدي للظلام مع المادة .
ويقينا ان عقيدة النهاية المزدوجة التي اعلنت المدرسة الثانية عنها تقترب من التشابيه والرموز التي استخدمها ماني ، هذا من ناحية ومن ناحية اخرى من المحتمل انه لم يتكلم بوضوح كاف حول هذه النقطة الخاصة ….