د. أكرم هواس
في منتصف نوفمبر من العام الماضي كتبت مقالة تحت عنوان … مصر … الثورة و الحرب… و كان احد العناوين الفرعية في تلك المقالة … الهيكل المقدس يعاد بناؤه… قلت فيه..(هنا كانت البداية… حيث تراكمت بعض اهم عوامل التمرد على الفرعون… الرأس و النظام… الناس ارهقت من الفقر و العجز و لعبة الاستخبارات و المخابرات و الهيكل الهامد… الجيش… الذي لم يعد له وظيفة و لا دور و لا وجود… الجيش كان هيكلا مقدسا… فهو الذي يمثل روح الفرعون و قوته الهادرة…الجيش الذي ظل حتى في عهد الدولة الحديثة املا و شرفا و كرامة… اصبح في فترة ما بعد 1973 كابوسا للفقراء و سلعة للاغنياء… فازداد الشرخ الاجتماعي بين النخبة و المجتمع و كان لابد للمجتمع ان يعيد بناء نفسه فكانت الثورة.. و الان لابد ايضا من اعادة بناء ذلك الهيكل المقدس… الجيش…هنا… جاء انقلاب الهيكل على الفرعون تساميا مع ثورة المجتمع و هنا ايضا جاء انقلاب القصر داخل الموسسة العسكرية حيث ازيحت النخبة المتهرأة… )..
لا ادري ان كان الفريق السيسي أو جنرالاته قد قراًوا تلك المقالة لكني اعتقد ان ما جرى في مصر في فترة ما بعد 30 يونيو / حزيران تؤكد فكرتي تلك بشكل أو بآخر…. فالجيش لم يكن يوما أداة بيد الفرعون بل كان روح الفرعون و لذلك لم يكن ممكنا لهذه الروح ان تتحول إلى مؤسسة مهنية تنفذ الأوامر التي يصدرها السياسيون كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية الحديثة…. هذا الإرث التاريخي المتراكم عبر آلاف السنوات و التجارب قد وضعت الجيش في جدلية تناقضية مع مفهوم الديمقراطية الفتية لكن المتهرئة بفعل تهرئ المجموعة الحاكمة و عدم قدرتها في تفعيل دور الجيش بعيدا عن بلاط السلطة…
النخبة الحاكمة كانت عاجزة… ذاتيا و لكن ايضا بفعل التحديات و الضغوط و المعارضة …. و هذا العجز لم يتوافق مع عملية اعادة بناء الجيش لكن الامر الاسواً كان هو ان عجز الحاكم كان يتاقض كليا مع قداسة دور الجيش و روحه المرتبطة بالمجتمع …. بكلام اخر ان قيادة الجيش وجدت نفسها محاصرة بين ما سمي بالاخونة و ما كانت تقوم به بعض فصائل المعارضة و خاصة وسائل اعلامها بشيطنة الاخوان و من لف لفهم… هذا معناه ان الجيش كان يتعرض الى تقليص دوره ليصبح اداة تعمل على ترسيخ سلطة مجموعة سياسية اي انه يصبح جيشا عقائديا….. و لأن العلاقة بين الدولة و المجتمع قد تغيرت هيكلته التاريخية مما يعني توقع تطورات كثيرة اخرى قد تأخذ هذا الاتجاه أو ذاك … لذلك قرر الجيش ان يضع نفسه في واجهة الأحداث…
الجميع مقتنع أن ما حصل يوم الثالث من هذا الشهر هو انقلاب عسكري لكنه ليس أبدا نموذج من نماذج الانقلابات العسكرية التقليدية …. انه ليس انقلابا على النظام القائم و ليس انقلابا بهدف الاستيلاء على السلطة… انه انقلاب على مسار تطور اجتماعي سياسي في مجتمع يموج بكثير من المسارات المتناقضة و المتصارعة… انه انقلاب على امتدادات خارجية واضحة و على محاولات داخلية طموحة للتمدد نحو الخارج….
أمام هذه التقاطعات المختلفة كان على الجيش أن يختار… أما التوقف و تلقي آثار الأمواج المتلاطمة… أو التحرك باتجاه ما يضمن… ليس فقط بقاء وجوده… و إنما تطوير هذا الوجود برؤية مجتمعية جديدة يحقق فكرة إعادة بناء الذات … هيكلا مقدسا ينحني له الجميع… هيكلا يضمن نموذجا فريدا…. و أن كان مذكورا في كتب التطور السياسي الاجتماعي و نظريات الديمقراطية…. و أعني الديمقراطية الشعبية و لكن بامتداد تاريخي و مشاركة فعالة للنخبة العسكرية التي عادة تهتدي بالسلطة على و ليس بسلطة الشعب…
الديمقراطية الشعبية مصطلح قديم و التجارب التي استندت اليه تتراوح بين ما يسمى
Popular Democracy
أي الديمقراطية الشعوبية و
People’s Democracy
أي ديمقراطية الشعب… كلاهما وجدت اغلب تطبيقاتها في بعض الأنظمة الاشتراكية أو شبه الاشتراكية في الصين و كوريا الشمالية و إلى حد ما في فنزويلا…. و في العالم العربي فان نظام القذافي و نظامي البعث في العراق و سوريا و نظام اليمن الجنوبية كانت تقدم نفسها في مرحلة ما على هذا الأساس… لكن التجربة المصرية الآن تقدم نموذجا مختلفا عن الديمقراطية الشعبية لان التغيير كما أسلفنا حصل نتيجة انقلاب لا يشبه الانقلابات الكلاسيكية …
رغم ذلك فان اصحاب هذا الانقلاب مثل غيره من الانقلابات السابقة يتهربون من كلمة انقلاب و يفضلون تسميته ثورة… لا ادري لماذا يتهرب الجميع من هذا المصطلح رغم ان كلمة انقلاب هو الذي يمنح الحدث معنى حقيقيا… الانقلاب هو انقلاب الوضع على راًسه… أو تغيير الوضع… بينما الثورة تعني محاولة التغيير… و المحاولة قد تكون ناجحة أو غير ناجحة… كما أن الثورة ليست دائماً دالة على عمل إيجابي و لا تحمل دوما قيما إنسانية … فكما قد تكون الثورة هي ثورة المظلومين يمكن أن تكون ثورة القوى السلطوية أو ثورة الطبيعة المدمرة …
المهم ان التغيير في مصر هو انقلاب على القيم التقليدية …أي انه لم يعد انقلابا باًسم الشعب كما كانت الانقلابات السابقة تدعي بل انه انقلاب بمشاركة الشعب…. هو انقلاب على مفهوم التبعية القديمة التي ربطت مصر بديون لا تنتهي … و هو أيضاً انقلاب على التبعية الحداثوية التي أصبحت قصيدة يغنيها الجميع دون أن يفهمها احد… انه انقلاب يقدم نموذجا جديدا للديمقراطية تتوافق مع الوضع العالمي الجديد…
نعم… منذ الظهور الجديد لروسيا و الصين و ايران على الساحة الدولية بعد احتلال العراق فقد تغير الكثير من المفاهيم و الآليات… روسيا هي أيضاً ديمقراطية لكنها ديمقراطية الرجل القوي الذي يقطع لسان أي منتقد… الصين ما تزال تحكم بنظام الحزب الواحد و لكنه حزب لا يختلف كثيرا عن الحزب الديمقراطي الأمريكي أو حتى الحزب الجمهوري… مؤسسة بيروقراطية نخبوية اقتصادية ربحية … ايران من جانبها لديها نموذج ديمقراطي اسمها الديمقراطية الدينية الإسلامية يقف على رأسها قائد أوامره فوق كل قانون…
في كل هذه الأنظمة لا يمكن الفصل بين المؤسسة العسكرية و النظام السياسي … إذن ما هو المانع أن يصبح الجيش في مصر مؤسسة راعية للنظام السياسي كما كان ايام الفرعون …. و على أساس نموذج خاص من الديمقراطية….؟؟؟…
على كل حال فان ذكر النموذج الإيراني يربطنا أيضاً بما قيل أن الإخوان كانوا يعملون على تأسيسه لكنهم لم ينجحوا… أو هكذا تبدو الأمور بعد الانقلاب… لكن رغم ما يوحي به الانقلاب من تناحر بين المشروع الاخواني و ما يتبنى على الانقلاب فان ما يجمع الاخوانيين و الانقلابيين هو أن الجيش لابد أن يعاد بناؤه… هذا ما بداً به العمل تحت حكم الإخوان و هذا يترسخ بعد الانقلاب و العملية مستمرة و تطورات كثيرة على الطريق قد يكون أحدها حربا بشكل ما كما توقعت في المقالة الآنفة الذكر… و قد يكون يوم الجمعة 26 يوليو/ تموز يوما مشهودا في تاريخ تطور الأحداث في مصر و الشرق الأوسط… لكنه بالتأكيد سيكون مؤشرا مهما في اعادة بناء الهيكل المقدس… هذه كانت ملاحظة أولى…
الملاحظة الثانية …. هي أن النموذج المصري في حالة نجاحه فان قد يشكل نموذجا قابلا للتطبيق في مختلف دول الشرق الأوسط بعد سقوط المشروع الديمقراطي الحداثوي و تخلي الغرب و خاصة الولايات المتحدة عنه أمام تحديات تحقيق الاستقرار.. و لعل تأييد القوى الليبرالية و اليسارية و الوطنية للانقلاب في مصر يوفر مؤشرات غنية للاستقراء في هذا الاتجاه…
نواصل…