يتميز الإنسان عن سائر الكائنات الحية بتفوقه عليها في حب المعرفة والبحث عن حقائق الحياة والطبيعة، وخلال هذا البحث الجدلي في صراعه مع قوى الطبيعة وقوى الحراك الاجتماعي صنع لغته وثقافته وحضارته. وما زالت قدرة الإنسان على صناعة ثقافته وبنائها وتطويرها أهم مصدر لقوته، فهي تمكنه من التكيف في البيئة الطبيعية والاجتماعية، وتمكنه من مجابهة التحديات والتغلب عليها وحل المشكلات.
لقد عاش الإنسان من خلال الثقافة كما تطور بالثقافة الإبداعية، فهو وحده الذي يصنع الأدوات، وهو وحده الذي يملك اللغة المنطوقة والمكتوبة، وهو وحده الذي يستخدم الرموز في اللغات والرياضيات والفنون. ولا يوجد كائن آخر يضحك ويفكر ويعرف شكلا من أشكال القناعة النفسية التي تحل جزئيا محل حاجاته في بعض الأحيان لإشباعاته البيولوجية، والإنسان وحده الذي له تاريخ مميز عن الماضي، وله قيم مميزه عن الحاجات، وله مشاعر متباينة تجاه نفسه والعالم، وله منهج مميز عن العقل والتفكير يميز ثقافته عن الثقافات الأخرى.
فالثقافة هي شبكة منظومات القيم والعادات والتقاليد والمعتقدات، تكوٌن منهجا مسيطرا على شبكة ذهنيات أفراد المجتمع، تحدد طريقة تفكيرهم وسلوكهم وتحدد طريقة فهمهم لظواهر الحياة والطبيعة وتحدد مفاهيمهم الشمولية الدالة على نظرتهم إلى الكون والحياة والموت والإنسان ومهماته وقدراته وحدوده وما ينبغي أن يعمل.
لقد بدأ أجداد الإنسان الحالي منذ أكثر من مئة ألف عام في صناعة لغاتهم وثقافاتهم وحضاراتهم، مستعملين حواسهم وأيديهم وإدراكهم وتفكيرهم والسنتهم، من خلال قواهم الجسدية في علاقاتهم الجدلية مع القوى والموجودات الطبيعية، حتى أنجزوا ما أمكنهم من الإنجازات الثقافية والحضارية. فكل تجمع إنساني في منطقته الجغرافية صنع ثقافته وحضارته التي تشترك مع الثقافات والحضارات الأخرى ببعض الصفات والأساليب، وتختلف عنها ببعض الخواص والأساليب، ومما لاشك فيه أن الثقافات الإنسانية لها إنجازات متفاوتة في اكتشاف ومعرفة قوانين وخواص بعض جوانب الحياة والظواهر الطبيعية التي مكنت الإنسان في السيطرة عليها وتذليلها لتنمية حياته الصحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وعبر المسيرة التاريخية للتجمعات الإنسانية ماتت ثقافات وأخرى تجمدت، وثقافات تجددت وبعضها تطورت حتى وصلت في العصر الحديث إلى الثقافة العلمية، وبما أن اللغة هي خزان الثقافة في مجتمع ما، فإن قيم وقواعد وأساليب التفكير في هذه الثقافة هي التي تتحكم في موت هذه الثقافة أو جمودها أو تجددها وتطورها، ويتضح ذلك في ضوء تاريخ تفكيرها الثقافي.
فالتفكير الثقافي هو المنهج الثقافي السائد والمهيمن على تفكير وعقول أفراد مجتمع ما، في فهم الظواهر الحياتية والاجتماعية والطبيعية وتفسيرها وكيفية التعامل معها في مرحلة من مراحل التاريخ الثقافي التطوري.
والثقافة العلمية باعتبارها نتاجا للتفكير العلمي لا يمكن أن ندرك معانيها ونفهمها بشكل واضح إلا إذا درسناها في ضوء هذا المنهج التطويري، أو بمعنى آخر إلا إذا استعرضنا تاريخ التفكير الثقافي البشري في مراحله المختلفة، ثم القينا نظرة فاحصة على مكان التفكير العلمي والثقافة العلمية في سياق هذا التاريخ.
لقد وجد الإنسان البدائي نفسه أمام العديد من الظواهر الطبيعية، وكانت هذه الظواهر أكبر منه قوة وأشد منه بأسا، كان ضعيفا أمام قوى الطبيعة من حوله، فكان أمرا طبيعيا أن يتساءل باحثا عن الأمان: أين يذهب من العواصف التي تطيح بمسكنه؟ وأين يفر من الرعد الذي يصم آذانه؟ ومن الأمطار التي تغمر الأرض عندما لا يريدها أن تغمر الأرض والتي تحتبس عنه عندما يكون في أشد الحاجة إليها، وهناك الزلازل والبراكين والأعاصير والليل والنهار والشمس والقمر وغير ذلك من ظواهر الطبيعة الحية وغير الحية، وكلها أمور لديه مثارا لخوفه ودهشته وتعجبه، وعندما يثار الخوف…. يبدأ الإنسان يتخيل ويتخبط وعندما تثار الدهشة يبدأ الإنسان يفكر ويبحث متسائلا عن السبب.
ولكن تفكير الإنسان البدائي لم يكن تفكيرا علميا بالطبع، ذلك أنه كان قاصرا محدود الخبرة والمعرفة شديد الخوف، بدأ الإنسان البدائي يرجع إلى نفسه إلى ذاته، وهي الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يخبره خبرة مباشرة، رجع إلى خبرته الذاتية كمصدر للمعرفة عله يجد عندها مصدرا للتفسير، فوجد أنه من الممكن أن يرى نفسه في أماكن مختلفة في الأحلام يتحدث ويروح ويجيء ويحارب ويصطاد ويغضب ويفرح، في حين أن جسمه يظل ثابتا في مكانه أثناء النوم، ولما كان ذلك الكائن الذي يراه أثناء النوم يستطيع أن يخترق الحجب ولا يتقيد بطبائع الأشياء، لذلك فقد اعتقد أنه من طبيعةٍ مخالفةٍ لطبيعته، وسمى هذا الشيء بالروح أو النفس، واعتقد أنها تسكن جسده وتغادره مؤقتا في أثناء النوم ثم تغادره نهائيا عند الموت، وبما أنه من هاتين الحالتين لا يستطيع أن يتحرك أو يفكر أو يأمل ويتأمل… الخ، لذا فقد عزا الإنسان إلى هذه الروح حركته وسلوكه، واعتقد أنها مسئولة عن كل ما يصدر عنه.
كان ذلك التفكير الذي فسر به الإنسان البدائي سلوكه، هو نفسه الذي اعتمد عليه في تفسير الظواهر والقوى الطبيعية الأخرى من حوله، فنسب إليها أرواحا كروحه هو، وعزا أفعالها وظواهرها إلى إرادة خفية يتصورها على نحو ما يتصور إرادته هو، إرادة تعمل بحرية ذاتية دون تقيد بقانون أو نظام، ودون خضوع لمنطق” العلل” أو “الأسباب”، بل إن مثل هذه القوى الخفية أو الأرواح الإلهية أو النفوس التي تسكن أجسادنا، كانت في نظره هي العلل الأولى للأشياء والقوى الطبيعية، وهي المتصرفة بذاتها في شأن الإنسان نفسه، أليس في يدها أن تحيي الإنسان أو تفنيه؟ أليس في يدها أمر حمايته أو الإطاحة به أو هلاكه أو وفاته؟ ومن هنا كان لابد أن يتعبدها وأن يبتهل لها ويتوسل إليها إذا كان له أن يصل إلى تحقيق رغبة أو قضاء حاجة، وليس هناك طريق آخر غير ذلك، ومن هنا أيضا كانت الطقوس والسحر والتعاويذ والعادات الغريبة التي لا نزال نرى الكثير منها في ثقافتها الحالية.
تلك هي المرحلة الأولى من مراحل التفكير الثقافي الإنساني: مرحلة التفكير الثقافي الخرافي، حيث كان دأب العقل البحث عن العلل الأولى للأشياء محاولا إرجاع كل طائفة من الظواهر إلى مبدأ مشترك يفسرها، وحيث أسند الإنسان إلى الكائنات الطبيعية حياة روحية شبيهة بحياة الإنسان، وعزا إلى هذه الأرواح جميع ما يحدث في هذا الكون من ظواهر.
ومن أمثلة هذا النوع من التفكير الثقافي الخرافي مثلا: اعتقاد قدماء المصرين أن الانتقال الظاهري للشمس تفسيره أن اله الشمس “رع” يسافر كل يوم رحلته في قارب يسبح في نهر، وقد يحدث أن يهجم على الزورق الإلهي حينا بعد حين ثعبان ضخم فيبتلعه في جوفه، لكن الزورق يعود إلى الظهور من جديد. أو تفسير الإنسان الأول للرياح والعواصف بأنها نفس الأرواح والشياطين عندما تزفر زفيرا شديدا، أو المطر بأنه دموع الآلهة، وغير ذلك من التفسيرات التي لا يزال بعضها قائما بيننا في ذهنيات وعقول غالبية العامة من الناس. فتفسير المرض مثلا بأنه ” عين و صابت المريض”، أو إرجاع ظواهر الاضطراب النفسي إلى الشياطين والأسياد التي تسكن جسم المضطرب… وغيرها، كل هذه أنواع من التفكير الثقافي الخرافي الذي حاول به الإنسان عصورا من الدهر أن يفسر بها الظواهر الطبيعية من حوله.
فخصائص هذه المرحلة الثقافية بوجه عام، هي أن تفسيراتها للظواهر الحياتية والطبيعية تعتمد على افتراض وجود كائنات خارقة للطبيعة، كائنات لا ترى بإرادتها تتحكم في كل ما يحدث حولنا من تغيرات وما دامت هذه الكائنات غير مرئية، لذا فقد أطلق الإنسان لخياله العنان فيما يمكن أن يسنده إليها من صفات، فكل ما تعجز المدارك عنه كائن مثلما الظنون تشاء، لذلك فان منهج التفكير الثقافي في هذه المرحلة منهج خيالي بعيد عن الواقع، بل منهج خرافي ليس له أي أساس من الواقع، مما سهل من انتشار ثقافة الخرافات والسحر والشعوذة بين أفراد الجماعة الإنسانية، و مما قيد فعاليات العقل والإدراك ومغيبا قدرته على التفكير الطبيعي، فتأخر الإنسان في فهم الطبيعة المحيطة به وفي قدرته على السيطرة عليها والتمكن منها، وما زالت غالبية مجتمعات العالم الثالث تعاني من هذه الإعاقة الثقافية.
إلا أن عقل الإنسان في بعض المجتمعات سار خطوة أخرى في التفكير الثقافي، فاستبدل الأرواح والشياطين التي كان يفترض وجودها مستقلة عن الأشياء، استبدلها بعلل أخرى ذاتية تكمن داخل الشيء نفسه، تلك العلل الجديدة ليست في الواقع سوى معان مجردة، جسٌمها للإنسان خياله وساعده على ذلك جهله بالعلل الحقيقية، ظهر مثل هذا التفكير في الفلسفات والأديان المختلفة قديمها وحديثها، حيث نجد معان مثل الصورة الهيولي الجوهر الماهية النفس القوة الفاعلة والعلة الغائبة وما إليها كمحركات أو علل أولى للأشياء وللظواهر جميعا، فقوة كيميائية معينة مثلا تفسر التغيرات والتفاعلات التي تحدث في الأجسام والقوة الحيوية تفسر الحياة ومظاهرها، وإرادة الحياة أو الطاقة الحيوية تفسر السلوك والتفاعل بين الناس.
إن الفرق بين هذا الأسلوب من التفكير والتفكير الثقافي الخرافي هو أن الفكرة المجردة قد حلت محل الروح أو الإله، و بدلا من أن تكون العلة في حدوث الشيء مفارقة عنه قد أصبحت ساكنة فيه، فطبيعة الشيء أو جوهره أو صورته مثلا هي التي تحدد صفاته وخصائصه، وعقل الإنسان هو الذي يفكر وهكذا، ولكن ما هي طبيعة الشيء وما جوهره وما هي الصورة وما هو العقل؟ إن هذا النوع من العلل لم يكن خاضعا لأية ملاحظة أو اختبار، ولذلك فهو لا يختلف من هذه الناحية عن الأرواح أو الشياطين أو الآلهة في المرحلة السابقة الذكر، وكل ما حدث هو أن الإنسان قد جرد بعض الصفات العامة من الحوادث الطبيعية الجزئية التي تتصف بها ثم جعل لهذه الصفات أو المعاني المجردة بعد ذلك وجودا في ذاته مستقلا عن الطبيعة أو الحوادث الطبيعية التي جردها منها، ثم جعل من هذه الصفات القوة التي تحرك الطبيعة ولذلك فقد سمي هذا الأسلوب من التفكير بالتفكير الثقافي الميتافيزيقي.
وإذا كان الأسلوب الخرافي في التفكير قد اعتمد على الخيال فان الأسلوب الميتافيزيقي قد اعتمد على الاستدلال القياسي، وهذا الأخير وإن أفاد في هدم التفكير الخرافي إلى حد ما إلا أنه لم يأت بجديد من حيث فهم الطبيعة والسيطرة عليها، ذلك أنه إذا كان العقل قد تخلص بالأسلوب الميتافيزيقي من الإرادات أو القوى الخارقة للطبيعة فقد أحل محلها معان مجردة لا وجود لها في الواقع ولا هي خاضعة لأي سيطرة أو لأي ملاحظة.
ولكي نتبين عقم هذا الأسلوب من التفكير نأتي بمثال بسيط: افترض ديكارت لكي يفسر النشاط النفسي أن هناك نفسا وأن النفس عنصر بسيط مفكر ثم عين لها مكانا ممتازا من جسم الإنسان هو الغدة الصنوبرية، ” حيث تقوم النفس بوظائفها بنوع اخص منه في سائر الأجزاء وتنتشر قوتها في الجسم كله”. وكلما أرادت النفس ” شيئا ” حركت الغدة المتحدة بها الحركة اللازمة لإحداث الفعل المتعلق بتلك الإرادة، ويؤثر الجسم في النفس بأن يبلغ إليها الحركات الواقعة عليه والحادثة فيه، فتترجمها ألوانا أصواتا روائحا رغباتا لذاتً و آلاما.
وإذا سألناه: كيف عرف أن النفس عنصر بسيط؟ فإنه لا يستطيع أن يجد جوابا، وإذا سألناه كيف يتم تأثير النفس في الجسم، وكيف يتم تأثير الجسم في النفس، وكيف تتم هذه الترجمة التي يتحدث عنها. ولِمَ تحدث هذه الظواهر؟ فإنه لا يستطيع جوابا أيضا، بل إذا سألناه: كيف عرف أن هناك نفسا؟ فانه أيضا لا يعرف كيف يبرهن لنا عن ذلك، فكلامه إذن لا يفيد أي معرفة للظواهر التي نريد فهمها، ولا يفيد بالتالي في سيطرتنا على الطبيعة التي نريد السيطرة عليها كما أنه لا يحتمل إلى جانب ذلك البرهنة على صدقه أو كذبة، حتى نكون على بينة من حقيقة الأمر الواقع، وبذلك يبقى الواقع مجهولا كما بدأنا به مجهولا.
على هذا النحو كان الإنسان في مرحلة التفكير الميتافيزيقية يفسر الظواهر من حوله، ففي مجال التغييرات الكيميائية مثلا، افترض الكيميائيون وجود مادة الفلوجستين لتفسير ظاهرة الاحتراق وبعض التغيرات الكيميائية الأخرى التي تحدث في الأجسام، ولكن ما هو الفلوجستين؟ إنه مادة لم يرها أحد قط ولا يمكن أن ترى، وكل ما تأتي به فكرة الفلوجستين هي أن الأجسام التي بها كثير من الفلوجستين سريعة الاشتعال، والنار نفسها الحادثة من الاحتراق هي مظهر من مظاهر الفلوجستين، والفحم عندهم كان مادة كثيرة الفلوجستين، ولذلك فهو يحترق بسرعة ويخرج الفلوجستين الموجود به في صورة نار إلى الهواء، وهكذا كان تغير الأجسام باحتراقها يفسر بوجود مادة الفلوجستين، دون أن يكون هناك فائدة عملية لمثل هذا التفسير ودون أن يكون لما يسمى بمادة الفلوجستين نفسها أي وجود، أو تحديد يساعد على الفهم أو التنبؤ أو الضبط.
ومثل آخر واضح لاستخدام مثل هذا التفكير، هو مثل تفسير ظواهر الضغط الجوي، بافتراض وجود قوى ذاتية في الطبيعية هي” كراهية الطبيعة للفراغ” وأن ” العالم ملآن دائما” فقد لاحظ الناس في العصور الوسطى مثلا أن البيرة لا تخرج من برميلها إذا لم يكن به إلا ثقب واحد بأسفله فقالو أن البيرة إذا خرجت من برميلها لأحدث ذلك فراغا والطبيعة تأبى الفراغ وعللوا عدم خروج البيرة من البرميل بكراهية الطبيعة للفراغ، وكان من السهل جدا الاعتماد على هذا المبدأ في تفسير الظواهر المشابهة فالماء يرتفع في الأنبوبة عن المص لأن الطبيعة تكره الفراغ والمضخة الماصة تحدث رفع الماء لأن الطبيعة تكره الفراغ، وهكذا يكون التفسير بقوة مجرده لا وجود لها في الواقع ولا دليل على وجودها بأي طريقة من الطرق ولكنها موجودة مع ذلك (في ذهن الناس فقط) أي في تفكيرهم الثقافي الميتافيزيقي كلما وجدت الظاهرة.
بهذا الأسلوب إذا كان الميتافيزيقي يتحدث عن الخير في ذاته والشر في ذاته، وعن المثل وعن النفس وعن العقل الجمعي كما لو كانت أشياء لها وجود في الواقع، ويعتبر هذه التجريدات الوهمية مسئولة عن تفسير الظواهر من حوله، تاركا الواقع ذاته محلقا في عالم من الألفاظ والألفاظ فحسب، فابتداء من هذه الألفاظ التي لا وجود لها في الواقع كان الميتافيزيقي يدور في الاستدلال من قضية إلى قضية أخرى تلزم عنها ثم من إلى أخرى دون أن يؤدي ذلك إلى علم جديد، بل دون أن يعلم هل هذه القضايا تصور الواقع أو لا تصوره ولم يؤد هذا بالطبع إلى تقدم ما في فهم الواقع الطبيعي أو السيطرة عليه أو التنبؤ به.
وكما أن المنهج الثقافي الخرافي كان الخاصية المميزة للتفكير الثقافي في العصور الأولى، كان المنهج الثقافي الميتافيزيقي هو الخاصية المميزة للتفكير الثقافي في العصور الوسطى. ( وان كان هذان النوعان من التفكير الثقافي لا يزالان يسكنان ذهنيات وعقول غالبية الأفراد والجماعات من حولنا حتى اليوم). ولذا فان الطبيعة قد ظلت لغزا غامضا على الأذهان طوال تلك العصور، ظل الجهل بأسرار الظواهر الطبيعية هو الذي يسيطر على عقول الناس، بدلا من أن يسيطر الناس على ظواهر الطبيعة، فهيمنة الثقافتين الخرافية والميتافيزيقية على ذهنيات وعقول الناس صادرت اللغة التي هي أداة التفكير وعزلتها عن الواقع والأشياء وعن الحياة والإنسان وعن التفكير التجريبي، وأسرت مدلولاتها في الخيال الخرافي والميتافيزيقي، مما أدى إلى إلغاء الخيال والمخيلة القائمة فعاليتهما على إدراك حقائق الواقع وهما المنتجان لاختراعات وقيم التطور والتحديث.
ولمْ تبدأ الآية تنعكس إلى في العصور الحديثة بعد أن بدأت تتقوض دعائم ذلك النوع من التفكير وأخذ يحل محله أسلوب آخر من التفكير هو الأسلوب العلمي وكان هذا بظهور عدة ثورات كان من أهمها الثورة العلمية في دراسة الظواهر الحياتية والطبيعية والثورة المعرفية الطبيعية، وتفعيل حب الإنسان للمعرفة الطبيعية، وقد تمت هذه الثورتان في أحضان الثورة العلمانية المدنية والثورة الصناعية والتنمية الإنتاجية والاقتصادية.
حدث ذلك أولا في مجال الفلك، حيث لم تعد السماء مكانا مقدسا، لا ينبغي أن نتهجم عليه بالدراسة، عندئذ بدأ الإنسان يلاحظ ويدون ويرصد ويستخلص القوانين وتوصل أخيرا إلى قوانين الجاذبية فتخلص كليا من الأساطير والخرافات والأفكار المطلقة التي كانت تحيط بهذا الوجود، وتحدد دون ما أساس من الواقع طريقة فهم الناس له ولحركته، فعندما لم تعد الأرض تعتبر المسرح المركزي للرواية الكونية، وعندما تلاشت فكرة تقديس الأجسام السماوية، وعندما نظر الإنسان إلى الفلك من حوله على أنه خاضع لنفس الظروف المادية التي تخضع لها الأرض، وباختصار عندما تخلص الناس من هيمنة التفكير الثقافي الخرافي والميتافيزيقي عن مجال تفكيرهم تقدم علم الفلك واضطرد في تقدمه كالقضاء المحتوم، من كوبيرنيق إلى نيوتن، والبحث ما زال مستمرا عن أسرار الكون.
وعندما تلاشت فكرة العناصر الأربعة وهي: الماء الهواء النار والتراب، كعناصر أساسية في تكوين المادة ومبادئ أولية في تفسير تغيرها، وعندما تلاشت كذلك الأفكار الأخرى المماثلة التي لا تعتمد على الواقع أو الملاحظة، كفكرة الصورة عند أرسطو وفكرة الصفات الخفية وفكرة الفلوجستين، وعندما تلاشت جميع هذه الأفكار الخرافية والميتافيزيقية
التي كانت عقبة أداء أمام التفكير العلمي وحلت محلها فكرة الجسيمات الذرات والجزيئات المتحركة وهي الفكرة القائمة على أساس من الواقع والملاحظة الواقعية، عندئذ بدأ الإنسان يسيطر على أحوال المادة وتغيرها كيميائيا، وأخذ علم الكيمياء يسير في طريق التقدم مكتشفا قوانين التفاعلات الكيميائية في المادة الحية والمواد الطبيعية.
وفي البيولوجيا أو علم الحياة لم يبدأ التقدم فيه إلا بعد أن تخلص العلماء من فكرة الأرواح الحيوانية التي كانت حسب الاعتقاد الخرافي والميتافيزيقي بأنها تسير الأجسام وتحرك أعضاءه، و أحلو محلها اكتشاف الدورة الدموية على يدي “هارفي”, وتفسير هذه الدورة بعبارات وظيفية وميكانيكية، واكتشاف أهمية الماء الهواء الغذاء الحركة والجنس في استمرار حياة الكائنات الحية فتقدم علم الحياة في اكتشاف أسرار حياة الكائنات الحية, وابسط مثال على ذلك ازدياد معدل عمر الإنسان في العصر الحديث, عما كان في العصور السابقة.
كذلك عندما تخلى الإنسان فيما يتعلق بالظواهر الطبيعية عن خرافة, “كراهية الطبيعة للفراغ” وهي الخرافة القديمة التي كان يفسر بها عمل المضخات وحلت محلها فكرة “الضغط الجوي”. بدأ الإنسان يسيطر على الهواء ثم أصبح في استطاعته أن يسبح في الفضاء بواسطة الطائرات والصواريخ والمكوكات الفضائية.
وهكذا… فان نهضة الإنسان في العصور الحديثة لم تتم إلا عندما ثار على النماذج الخرافية والميتافيزيقية في التفكير, وأحل محلها طريقة الأسلوب العملي في التفكير, وإذا كان الإنسان قد ثار على تلك الطرق العقيمة في التفكير فان جوهر ثورته وأساسها كان في الدعوة إلى الخروج إلى الطبيعة لملاحظتها ودراستها، بعد أن أغمض عينيه عنها طوال تلك العصور. وقنع بالتأمل الخرافي والميتافيزيقي فيما وراءها, أو التحليق بخياله في أوهام لغوية عقيمة من صناعته واختراعه, فقد عمل كل من التفكير الثقافي الخرافي والميتافيزيقي على الحد من شغف الإنسان بالطبيعة وعطله عن ملاحظتها, وأقعده عن تفعيل حب المعرفة لديه فالتفكير الخرافي جعله يهيم في عالم من الخيال و الأوهام وأما التفكير الميتافيزيقي فقد شجعه ودفعه للاهتمام بالعالم الأخر وجعله يقتنع إلى أن كل ما نعرفه بواسطة حواسنا ما هو إلا صور ناقصة مشوهة لما هو موجود وقائم في عالم آخر كامل وحقيقي فيما وراء الطبيعة، ولم ينقذ الإنسان من غياهب الخرافة والميتافيزيقيا إلا عندما بدأ من حواسه واعتمد على خبرته الحسية والتجريبية في دراسته للطبيعة, فتجمعت لديه معرفة من نوع جديد هي ما نسميه بالمعرفة العلمية التي حررت تفكيره وشجعته ودفعته إلى تفعيل حب المعرفة لديه: في الملاحظة التعليم التجريب البحث الدراسة التطوير للحصول على المزيد من المعرفة الحرية والآفاق الجديدة.
ولم يتحقق هذا التقدم العلمي للإنسان إلا بقيام الثورة العلمانية المدنية الديمقراطية التي بنيت خصائص كل من التفكير الديني والتفكير العلمي, حتى يدرك الإنسان نوعية تفكيره وخصائصه، وبينت أن التفكير الثقافي الديني تفكير شمولي مقدس مهيمن على ذهنيات وتفكير وعقول أفراد المجتمع، مما مكن الطبقات المتنفذة في المجتمعات الدينية على مر العصور من تطويع المفاهيم والنصوص الدينية لمصلحتها, هذا مع استسلام المجتمع للتدجين الديني السلفي فاستطاعوا حكم المجتمع بالعنف والاضطهاد و الاستبداد, دون أي معارضة تذكر، نشرت الخوف بين الناس وصادرت حرية التفكير، فإنشل التطور الثقافي والحضاري في هذه المجتمعات.
في بغض المجتمعات الأخرى سارعت الثورة العلمانية وبكل حزم إلى فصل الدين عن نظام الحكم حتى يكون العِقد الاجتماعي بين أفراد المجتمع لنظام الحكم مستمدا من واقع المجتمع وثقافته الايجابية بموافقة الأغلبية وعدم ممانعة الأقلية, على أساس حماية الحريات المدنية والديمقراطية، وبقي الدين علاقة بين الإنسان وربه ومصدرا من مصادر التشريع وثقافة اجتماعية أخلاقية إنسانية, تسودها المحبة والتسامح بين الإنسان وأخيه الإنسان.
غرست الثورة العلمانية قيم ومبادئ التمدن الديمقراطي في المجتمع، كما عززت قوة الثورة العلمية والصناعية والتنمية الاقتصادية، وعملت على حماية حرية التفكير وحرية التعبير، مما سهل انتشار التفكير العلمي والثقافة العلمية بين أفراد المجتمع، فما هو العلم؟ وما هو التفكير العلمي؟ الذي أدى بالإنسان إلى هذه النتيجة العظمى بالوصول إلى الثقافة العلمية؟.
يقول جوليان هكسلي:” العلم عبارة عن ذلك النشاط الذي نحصل به على قدر كبير من المعرفة بحقائق الطبيعة وعلى السيطرة عليها”، فالعلم هو إنتاج العقل الإنساني الذي جمع في وعيه المنطق الرياضي والتحليلي والنقدي، مكونا منهجا لغويا منطقيا هو التفكير العلمي في دراسة الطبيعة وظواهرها من أحياء و جمادات لمعرفة ما أمكن من حقائقها وأنشطتها ومميزاتها ليتمكن من السيطرة عليها”.
إن العلم كنشاط إنساني موجه يهدف إلى وصف الظواهر التي يدرسها وتصنيفها في أنواع، ولكنه لا يقتصر على هذا الهدف بل يحاول اكتشاف العلاقات بين الظواهر المختلفة، إن فهم ظاهرة ما لا تؤدي إذن إلى قيام العلم فلا بد من فهم علاقة هذه الظاهرة بالظواهر الأخرى، لان فهم هذه العلاقات الجدلية هو الذي يمكن الإنسان من زيادة سيطرته على الطبيعة.
ولما كانت ظواهر الكون عديدة فإن العلاقات بينها عديدة ومتشابكة، ولذلك لجأ العلماء إلى تقسيمها في مجموعات لتسهيل دراستها، فنشأت العلوم المختلفة، فالظواهر الخاصة بالفلك كانت موضوعا خاصا لعلم الفلك، والظواهر الخاصة بالسلوك الإنساني كانت موضوعا لعلم النفس، والظواهر الخاصة بالتغيرات التي تحدث في المادة كانت موضوعا لعلم الكيمياء، وهكذا نشأت العلوم المختلفة دون وجود فواصل بينها، فالظواهر مترابطة والعلوم كلها إذن مترابطة فالعلم إذن لا يرتبط بموضوع ما أو بمجال ما أو بظاهرة ما، بمقدار ما يرتبط بالعلاقات والقوانين التي تسير بموجبها الظواهر كافة سواء كانت فيزيائية أو كيميائية أو اجتماعية أو نفسية.
ويميز الباحثون بين التفكير العلمي وبين تفكير العلماء، فالتفكير العلمي منهج أو طريقة منظمة يمكن استخدامها في حياتنا اليومية أو في أعمالنا ودراستنا، بينما يقوم تفكير العلماء على أساس دراسة مشكلة محددة متخصصة، مستخدمين في ذلك لغة ورموزا علمية خاصة بتلك المشكلة، فالتفكير العلمي ليس تفكيرا متخصصا بموضوع معين بل يمكن أن يوجه في معالجة جميع الموضوعات والقضايا التي تواجهنا.
إن العالم الفيزيائي يفكر بدراسة الظاهرة الفيزيائية أو بعض أجزائها، بينما يمكن أن يتوجه التفكير العلمي لمناقشة الظواهر والأحداث والقضايا والمواقف العامة دون اعتبار للتخصص، والتفكير العلمي بموضوع ما يتطلب معرفة الحقائق والمعلومات المتعلقة به حتى يتمكن باحث الموضوع من التفكير به على أساس تنظيم الأفكار والأساليب استنادا إلى المبادئ المنطقية التالية: فلا يمكن إثبات الشيء ونقضيه في نفس الوقت فالشيء إما أن يكون موجودا أو غير موجود، وإما أن يكون اللون أبيض أو لا يكون، فالتفكير العلمي لا يجمع بين النقائض في الوقت نفسه، ويقوم التفكير العلمي على أن لكل حادثة أسباب، وأن هذه الأسباب تؤدي إلى ظهور النتيجة ما لم يكن هناك عائق، ولا يتصور التفكير العلمي أن شيئا ما ينتج صدفة أو دون سبب ولا يسلم بوجود إلا بكل ما هو موجود محسوس مدرك ومفهوم.
إن التفكير العلمي هو بالتأكيد نتيجة للجهود التي بذلها العلماء في بحثهم عن المعرفة الإنسانية ويحدد الدكتور فؤاد زكريا السمات المميزة للتفكير العلمي والمعرفة العلمية بما يلي: التراكمية التنظيم البحث عن الأسباب الشمولية والتجريد، وفيما يلي توضيح لهذه السمات:
أولا – التراكمية- ينطلق التفكير العلمي من الواقع، فالمعرفة بناء يسهم فيه كل الباحثين والعلماء وكل باحث يضيف جديدا إلى المعرفة وتتراكم المعرفة وينطلق كل باحث مما توصل إليه من سبقه من الباحثين، فيصحح أخطائهم ويكمل خطواتهم أو قد يلفي معرفة سابقة ويبطل نظرية عاشت فترة من الزمن فكل معرفة علمية جديدة تكون هي المعرفة المعتمدة على أنها الصحيحة وتصبح المعرفة العلمية القديمة جزءا من تاريخ العلم، فالحقيقة العلمية هي حقيقة نسبية بمعنى أنها حقيقة في فترة زمنية معينة، وأنها تتطور وتتبدل باستمرار، ومع أن الحقيقة العلمية نسبية إلا أنها تفرض نفسها على كل الناس، والتفكير العلمي مع تطوره يتقدم باستمرار ويكتشف مجالات واسعة حيث تمتد المعرفة العلمية فينحسر الجهل باستمرار.
ثانيا- التنظيم- إن وسيلة العلم في دراسة أي ظاهرة هي إتباع منهج علمي منظم فالعلم معرفة منهجية تبدأ بالملاحظة ووضع الفروض واختبارها عن طريق التجريب ثم الوصول إلى النتائج، فالتفكير العلمي إذن هو أسلوب منهجي للبحث والحصول على المعرفة، وهو يختلف عن التفكير العادي الذي أشبه ما يكون ردود أفعال عشوائية على أحداث، دون وجود أي قدر من التنظيم.
ثالثا – البحث عن الأسباب – يهدف العلم والتفكير العلمي إلى فهم الظواهر التي يدرسها ولا يتم هذا الفهم من خلال الوصول إلى المعلومات والحقائق عن الظواهر موضوع الدراسة والبحث بل لابد من تفسير هذه الظواهر وتحليلها عن طريق معرفة أسبابها وعوامل نشوئها وتطورها وعلاقتها بالظواهر الأخرى، فمعرفة أسباب ظاهرة ما وتفسيرها هو الذي يمكن الإنسان من السيطرة عليها وضبطها والتأثير فيها وزيادتها أو إنقاصها، وبالتالي التحكم فيها وإخضاعها للتجربة والتعديل والتطوير.
رابعا – الشمولية واليقين – يتصف التفكير العلمي بالشمولية واليقين، فالباحث العلمي لا يدرس مشكلة محددة كهدف، بل ينطلق من دراسة المشكلة أو الظاهرة المحددة للوصول إلى نتائج وتعميمات تشمل الظواهر المشتركة أو المواقف المشتركة مع موضوع دراسته، وحين يتحدث الباحث عن قاعدة أرخميدس فلا يقصد جسما معينا بل يقصد كل جسم مغمور في سائل، وحين يتحدث عن الجاذبية فلا يتحدث عن مادة معينة بل عن جميع المواد المماثلة، إن هدف العلم والتفكير العلمي هو الوصول إلى تعميمات ونتائج تتسم بالشمول وتنطبق على أكثر من ظاهرة وأكثر من حالة وأكثر من موقف، وهذه المعرفة العلمية الشمولية اليقينية لا تجد من يعارضها من أصحاب العقول الحرة.
خامسا – الدقة والتجريد – يتسم التفكير العلمي بالدقة والتجريد وهذا ما يميزه أيضا عن أنماط التفكير الأخرى ولكي ينجح الباحث العلمي في أن يكون دقيقا ويحدد مشكلاته وإجراءاته وفروضه بدقة، فانه يستخدم لغة الرياضيات التي تقوم على أساس القياس المنظم الدقيق والتحدث بلغة الأرقام والرموز والعلاقات الرياضية المحددة فاستخدام اللغة الرياضية في التفكير العلمي يؤدي إلى فهم دقيق للظواهر لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال القياس الكمي الرقمي الدقيق، فالأحكام الكيفية لا تساعد لوحدها على فهم الظواهر، بل قد تعطي فهما خاطئا لها، فحين نقول الجو حار فان هذا يختلف عن قولنا تبلغ درجة الحرارة 40ْم أو 35 ْم، فالفرق بين الجو الحار والجو البارد هو فرق في الدرجة لا فرق في النوع، والتفكير العلمي حين يستخدم الأرقام والقياس الكمي أو حين يستخدم لغة رياضية فانه يجرد الأشياء من مادتها فحين نقول 3+4=7 فإننا لا نعني ثلاثة أشياء معينة بل كل ثلاثة وكل أربعة مهما كان موضوع هذا العدد، فالباحث العلمي يتحدث بلغة مجردة ويضع خطوطا مجردة ومدارات مجردة، فحين يتحدث عن خطوط الطول أو خطوط العرض على الكرة الأرضية فانه لا يتحدث عن خطوط مادية فالتجريد هو وسيلة الباحث العلمي للسيطرة على الواقع وفهم قوانينه وحركاته وتغيراته بشكل أفضل.
وبما أن العلم والتفكير العلمي نشاط إنساني يهدف إلى فهم مميزات الظواهر الطبيعية المختلفة وفهم علاقتها الجدلية باكتشاف الأسباب والعلاقات والقوانين التي تحكم هذه الظواهر والتنبؤ بالظواهر والأحداث الممكنة الحدوث أثناء أنشطتها، وإيجاد الطرق المناسبة لضبطها والتحكم بها، فان الإنسان العادي يحتاج إلى التفكير العلمي في مواجهة مشكلاته أنه يعيش بين عشرات من المواقف التي تتطلب بحثا علميا، فالتفكير العلمي أو البحث العلمي ليس تفكير العلماء فقط، إنه تفكير يحتاج إليه كل الناس سواء كانوا مدرسين أو طلابا، مهندسين أو عمالا، أطباءً أو محامين، مزارعين أو تجراً، ربات بيوت أو موظفات. فجميع الناس يحتاجون إلى التفكير العلمي والبحث العلمي كما يحتاج إليه العلماء فالإنسان بحاجة إلى أن يعرف أفضل طريقة للتعامل مع جسده ونفسه وعقله، ولاختيار طعامه ولارتداء ملابسه، ولتنظيم علاقته بالآخرين ومن اجل تحقيق ذلك فانه يحتاج إلى معلومات وحقائق تتعلق بكل هذه القضايا والأمور، ويحتاج إلى معلومات وحقائق تتعلق بعملة وتطوير هذا العمل كما يحتاج إلى معلومات تساعده على تحسين أساليب حياته وزيادة دخله ويحتاج أن يعرف كيف يساعد أفراد أسرته في تنظيم أمورها، فالمعرفة هي الثروة الضرورية للتفكير والبحث العلمي، والتفكير والبحث العلمي هو الأساس في تقدم المجتمع أنه الأساس في تقدم التاجر والعامل، وازدهار المزارع، وتحصيل الطالب، وتخطيط المعلم،……….الخ، انه ليس ترفا يمارس لقضاء الوقت وشغل الفراغ، انه البحث عن الحقائق والتفسيرات والحلول الواقعية والطبيعية التي تساعد كل إنسان على تطوير حياته وأساليبه، انه الثقافة العلمية التي تميز المجتمعات المتقدمة.
ومن أهم تطبيقات التفكير والبحث العلمي في الحياة هو اعتماد التخطيط كمبدأ في مواجهة المشكلات الفردية والاجتماعية، فلم يعد الفرد أو المجتمع قادرا على أن يعيش في عفوية ويرتجل الحلول والمواقف، فالتخطيط أحد منجزات التفكير والبحث العلمي الهامة التي كانت وما زالت أساسا للتنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
فالمجتمعات المتقدمة اختارت طريقها منذ أكثر من أربعة قرون، بالثورة العلمانية وتبني التفكير العلمي والثقافة العلمية، فقطعت أشواطا طويلة في ميادين الحياة المختلفة في التطور والتقدم والتحديث، أما المجتمعات النامية فليس أمامها إلا أن تتبع المنهج العلمي وطريق الثقافة العلمية لتقليص الهوة بينها وبين المجتمعات المتقدمة صحيح أن الطريق شاقة وصعبة وأنها تتطلب العزم والتخطيط. وتتطلب تضحيات تبدأ بنبذ العادات والنظم الاجتماعية والسياسية المعيقة لصناعة ثقافة التغيير ولا بد من القيام بالثورة العلمانية لأنها الطريق الوحيدة لنشر الثقافة الديمقراطية والثقافة العلمية فهي المنطلق الأساسي للتقدم العلمي في مختلف النشاطات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية.