رغم أنها تقع في المقلب الآخر من العالم، وراء البحار والمحيطات، بعيداً عن فلسطين، وبالقرب من الولايات المتحدة الأمريكية، زعيمة الاستكبار العالمي ورأس العدوان الدولي، ونصيرة الكيان الصهيوني وكفيلته، التي ترعاه وتحفظه، وتسانده وتؤيده، وتناصره وتقف إلى جانبه، إلا أن البرازيل القاصية البعيدة في جنوب العالم من القارة الأمريكية الجنوبية، تأبى إلا أن تناصر فلسطين وأهلها، وأن تساند الانتفاضة وتعترف بحقها، وأن تعارض الولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها، وترفض طاعتها واتباعها سياستها والدوران في فلكها.
إذ أنها ترى في الإدارة الأمريكية ظلماً يستشري، وعدواناً يمتد، وكراهيةً تسود، وعنصريةً تتعمق، وحروباً تستفيق، وحرائق في الكون بسببها تشتعل، فهي لا تدخل بلاداً إلا وتخربها، ولا تتوسط في شأن إلا لتفسده، ولا تعرض مساعدةً على أحدٍ إلا لتورطه، هكذا هم يعرفون الولايات المتحدة الأمريكية، وحشٌ مستبد، تفترس كل ما يعترضها، وتقتل كل من يعترض على سياستها، فترى أن الحق يتحقق في غيابها، والخير يكون في مخالفتها، والسلام يسود في البعد عنها.
تعتقد البرازيل حكومةً وشعباً أن الكيان الصهيوني غاصبٌ محتلٌ، وقاتلٌ معتدي، ووجهٌ من وجوه الامبريالية العالمية، التي تناصره وتؤيده، وتساعده وتمكنه، خدمةً لأهدافها، وتحقيقاً لغاياتها، وهي الدولة التي تظلم الشعب الفلسطيني، وتمارس ضده سياسة استعمارية كولونالية يعرفونها ويمقتونها، وقد جربوها وعانوا منها، وقاوموا في بلادهم المحتلين لأوطانهم، وأجبروهم على الرحيل عن بلادهم، والتخلي عن أحلامهم في أرضهم وخيراتهم، وهم الذين سكنوها لعقودٍ طويلة، وغرسوا فيها ثقافتهم ولغتهم، وعاداتهم وتقاليدهم، وزرعوا في كل مكانٍ فيها منارةً لهم، وتشير إلى مرحلتهم، لكنهم بقوا في عرف البرازيليين وشعوب دول القارة الأمريكية، جنساً أبيضاً محتلاً غاصباً، عنصرياً استعمارياً جاء لاستعباد السكان وسرقة خيرات البلاد، الأمر الذي يجعلهم يحسنون توصيف الكيان الصهيوني ويسهل عليهم تحديد سياستهم تجاهه.
يتابع البرازيليون الانتفاضة الفلسطينية كما يتابعها العرب، ويتفاعلون معها كأنها تخصهم وتتعلق بشعبهم، وكأن القضية الفلسطينية قضيتهم، فهم وإن لم يكونوا عرباً ولا مسلمين في غالبيتهم، إلا أنهم يحسون بالظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، ويحزنهم مشاهد القتل التي يرون، ومسلسل الاعتداءات الإسرائيلية التي لا تتوقف، ويستنكرون الصمت العالمي على الجرائم التي ترتكبها الحكومة الإسرائيلية والمستوطنون، ويطالبون دول العالم أن تكون لها كلمتها الحرة والصادقة ضد الكيان الصهيوني، انتصاراً للحق، وتحقيقاً للعدالة الإنسانية التي تدعي الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية حرصها عليها.
لأن البرازيل التي يسكنها أكثر من ستة عشر مليون مواطنٍ من أصلٍ عربي، تعتبر أن القضية الفلسطينية قضيةً إنسانية تهم الإنسانية كلها، وعلى جميع أحرار العالم أن يقفوا مع الشعب الفلسطيني، وأن يساندوه في نضاله المشروع، وألا يقفوا متفرجين على ما يمارسه الإسرائيليون بحقهم، فقد رفضت اعتماد داني دايان رئيس مجلس المستوطنات الصهيونية السابق، سفيراً لدولة الاحتلال لديها، ووصفه بعض كتابها الأحرار أنه كان يرأس مجلساً غير شرعي، ويقود فريقاً من المعتدين، الذين تسلطوا على حقوق الفلسطينيين وممتلكاتهم، فسرقوها وطردوهم من أرضهم، وبنوا مكانها بغير وجه حقٍ مستوطناتٍ كبيرة، وجلبوا إليها مهاجرين من أماكن كثيرة وبعيدة ليستوطنوا أرض الفلسطينيين، وينعموا بخيراتها وحدهم.
اعترض على تسمية السفير الإسرائيلي داني ديان في البرازيل الكثير من النواب والكتاب والصحفيون، وعلت أصوات رجال الأعمال والمؤسسات والجمعيات الحقوقية والإنسانية، وهي التي طالبت قبل أكثر من عامين بسحب السفير البرازيلي من الكيان الصهيوني، استنكاراً للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014، وأعلنت هذه الشخصيات أنها لن تقبل بوجود ممثلٍ على أرضها لدولةٍ تمارس القتل اليومي ضد الشعب الفلسطيني، الذي يناضل من أجل حقوقه، ويقاتل لاستعادة أرضه.
ليست البرازيل وحدها هي التي تؤيد القضية الفلسطينية، بل إن أغلب دول أمريكا الجنوبية، الذين عاشوا حقباً استعمارية طويلة، وخضعوا لحكم دولٍ وممالك أوروبية، نهبت خيراتهم، وألحقت اقتصادها باقتصادهم، وتسببت في تخلف بلدانهم، يؤيدون القضية الفلسطينية، وينتصرون لها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي عندما تكون لدولهم العضوية المؤقتة فيه، ولا يتأخرون عن استغلال كل المنابر لتسليط الضوء على معاناة الشعب الفلسطيني، وهذا ليس حال اليسار في دول أمريكا الجنوبية، بل هو حال الشعوب كلها عموماً، وحال حكوماتها تقريباً، وإن كانت تتفاوت في مواقفها فيما بينها.
وكان الرئيس البوليفي إيفو موراليس قد أعلن أن دولة “إسرائيل” دولةٌ إرهابية، وألغى تأشيرة السفر معها، بعد أن أعلن قطع العلاقات الدبلوماسية معها، وذلك مع بداية انطلاق الانتفاضة الفلسطينية، حيث قام بطرد السفير الإسرائيلي من بلاده، في خطوةٍ تضامنية مع الشعب الفلسطيني، تضاف إلى الوقفات البولوفية التضامنية الكثيرة التي سبق أن اتخذتها بوليفيا تضامناً مع نضال الشعب الفلسطيني، ونصرةً لقضاياه العادلة وحقوقه المشروعة في أن تكون له دولة ووطن، وأن يعود أبناؤه اللاجئون المهجرون إليه.
لعل المواقف البرازيلية والبولوفية تتوافق تماماً مع مواقف دول أمريكا اللاتينية التي عودتنا دائماً على مناصرة القضية الفلسطينية وتأييد شعبها، وقد تحملت هذه الدول تبعات مواقفها ونتائج سياستها، إذ أن علاقات أغلبها مع الولايات الأمريكية سيئة أو متضررة بسبب مواقفها من دولة الكيان الصهيوني، فبعض هذه الدول قد قطعت علاقاتها بها، وبعضها قد وضعت حداً لعلاقاتها معها، في الوقت الذي تبني فيه علاقاتٍ حسنة مع السلطة الفلسطينية والفصائل الفلسطينية عموماً، الأمر الذي يدعونا في ظل هذه الانتفاضة المباركة، التي تعيد صياغة عقد الأصدقاء والحلفاء، لأن نستثمر هذه المتغيرات، وأن نستفيد من هذه المنعطفات السياسية، التي وإن كانت لا تملك قوة الدول العظمى، فإنها تملك قوة حق الشعوب، وإرادة الإنسان الحر.
بيروت في 26/1/2016