منذ أن اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثالثة مطلع شهر أكتوبر من العام الماضي، وأنا أتابع أحداثها، وأسجل تفاصيلها، وأتعقب أخبارها، وأعلق على وقائعها، وأكتب تفصيلاً عنها، وأغوص عميقاً فيما يكتب وينشر، وينسج حولها أو ينسب إليها، وأتناول جوانب مهمة منها، غير الوصف المادي المجرد لأحداثها، والسرد العادي ليومياتها، وإن كانت أحداثها عظيمة ومعاركها ملاحم بطولية، وأسلط الضوء على زوايا جانبية خفيةً منها، وأخرى يظنها البعض غير ذات قيمة، وإن كانت تفوق في قيمتها وقدرها العالي أكثر مما نظن، وترصع حياتنا أكثر مما نرجو ونأمل، وتغطي جوانب من مقاومتنا أكثر إشراقاً وأجمل صورةً، إذ ما خفي دوماً أجمل بكثير مما تراه العيون وتسمعه الآذان.
وكشفت في هذا السفر الذي آمل أن أنشره قريباً عن صفحاتٍ إسرائيلية كثيرة، مخزية ومشينة، ومعيبة ومهينة، وأمطت اللثام عن طبيعتهم المنحرفة، وفطرتهم العوجاء، ونفوسهم المريضة، وسلوكياتهم الشاذة، التي يرتكبها العامة والخاصة، والمسؤولون والمواطنون، والسياسيون والعسكريون، وبينت أنه لا فوارق بين الساسة والمتدينين، وبين المتطرفين والمعتدلين، وبين المستوطنين والعامة، إذ وجدتهم حالاً واحداً، ولساناً مشتركاً، يرموننا جميعاً عن قوسٍ واحدةٍ ولايبالون، وينوون قتلنا ولا يأسفون، ويعتدون علينا ولا يندمون، ويغضون الطرف عن مستوطنيهم وهم يقتلون، ويسكتون عنهم وهم يعتدون، ويشجعونهم إذ يأذنون لهم بالقتل ويصورون، ويطمئنونهم أنهم يلتزمون القانون، وأنهم في مأمنٍ من الملاحقة والمحاكمة فلا يخافون.
كما أمطت اللثام بأقلامٍ إسرائيليةٍ وشهاداتٍ يهودية، وبلسان مسؤولين وإعلاميين عن جبنهم وخوفهم، وعن الآثار السلبية التي لحقت بهم، وعن الخراب الذي حل في اقتصادهم، وعن ندم بعضهم عما حدث، وتحميلهم رئيس حكومتهم المسؤولية عما آلت إلى الأوضاع في المناطق نتيجة سياساتهم الرعناء، وتصرفاتهم الخرقاء، وجرائم مستوطنيهم العنصرية، وأفعالهم غير المسؤولة.
وقد بدأتُ منذ مطلع الانتفاضة إلى جانب ما ذكرت أعلاه في تدوين سفر الشهداء، ومتابعة أخبارهم، وملاحقة قصصهم، فقرأت عنهم الكثير، وما زلت أتابع وأبحث، وأستقصي وأسأل، وأدون الصغيرة قبل الكبيرة، وأحتفظ بالملاحظة والتعليق، وسأواصل البحث والاستقصاء، وسأضم ذلك كله بين دفتي كتابٍ مذهبٍ بأسمائهم، ومعطرٍ بسيرهم، ومحفوظٌ بتضحياتهم، ونديٌ بذكرهم، ذلك أنني أجد كل يومٍ في حياتهم جديداً، وأكتشف من خلال معارفهم وأهلهم ما يجعلنا نعتز بهم ونفخر بما قدموا، علماً أنني أجد متعةً في تقليب أوراقهم، ونبش ذكرياتهم، وفتح صفحات حياتهم، فعندهم ما يجعلهم قدوةً، ومثالاً نتأسى بهم ونحتذي، وقد وجدت أكثرهم في الحياة ناجحاً، وبين أقرانه مميزاً، وفي عمله موقفاً، وفي أسرته سعيداً، وفي محيطه اجتماعياً، ومع والديه باراً، ولأولاده وأهله محباً، ومن قبل لوطنه وفياً، ولشعبه مخلصاً.
كثيرةٌ هي التفاصيل التي وجدتها، والأخبار التي عرفتها، والأسماء التي حفظتها، والقصص والحكايات التي يرويها الأهل، ويحكيها السكان، وتتناقلها القرى والأيام التي لم يعد من السهل نسيانها، إذ تعمدت بالدماء، وتعلمت بالشهداء، وصارت من بين أيام الانتفاضة علماً، وهي أيامٌ كثيرةٌ، باتت كالشهب والنجوم، وعلاماتٍ في السماء بها يذكرون، يحفظها الفلسطينيون ويذكرونها، ويؤرخون بها وينسبون إليها، فهذا فجر الشهداء، وهذا صبح الشهادة، وذاك اشراقة الدم، ويوم النصر، وغير ذلك من الأيام التي علمت الانتفاضة وميزتها، حتى بات لكلِ يومٍ وصفٌ، ولكل نهارٍ اسمٌ.
أما الأهل، الأم والأب، والشقيق والشقيقة، والولد والبنت، فهم خير من يروي عن الشهداء، وأكثر من ينبئ عنهم، ويخبرنا عن أيامهم الأخيرة، وحياتهم اليومية، وكيف كانوا يعيشون وبم كانوا يفكرون، وإلام كانوا يطمحون ويتطلعون، فهم يعرفون عنهم كل جميل، ويذكرون من أيامهم كل حسن، وكذا رفاقهم وإخوانهم، وزملاؤهم في الدراسة وأصدقاؤهم في الحي، فإنهم يروون عنهم ما لا نعرف، ويقصون لنا عنهم خير ما نحب أن نسمع ونعلم، ودوماً عندهم جديدٌ يذكرونه، وقصةً يروونها.
ومن الشهداء من ترك خلفه وصيةً مكتوبةً، أودعها في بيته، أو أبقاها في جيبه، أو تركها أمانةً عند بعض من يثق فيهم ويحب، كتب فيها كلماتٍ بسيطةً في صياغتها، ومعدودةً في مفرداتها، إلا أنها تحمل معاني كبيرة، ووصايا عظيمة، ومن وصاياهم الشريفة عرفنا أن بعضهم قد خرج انتقاماً لشقيقه، أو ثأراً لأخته، أو غضباً من أجل دينه، أو غيرةً على المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية، وما منهم من أحدٍ كان خائفاً أو متردداً، أو جباناً مرتعداً، بل كانوا يقدمون على الموت كباراً، ويواجهون العدو عظاماً، ويقاتلونه فرساناً.
وقد غصت في أعماق بعض الشهداء فوجدتهم كالدرر العزيزة والجواهر والثمينة والماس النادر، وبعضهم مخبوءٌ بين جنبيه كاللؤلؤ الذي يسكن الصدف، فلا يعرف وقدره وقيمته إلا قلة من الناس، ممن يخبرون الناس ويميزونهم عن غيرهم، إذ لدى كل شهيدٍ قصة تجعل منه بطلاً، وتقدمه من بين الناس شهيداً، فيكون هو من بينهم الأفضل والأكثر خيريةً، وكأن الله سبحانه وتعالى قد انتقاه من بين عباده، مصداقاً لقوله تعالى “ويتخذ منكم شهداء”، فالله سبحانه وتعالى هو الذي ينتقيهم ويختارهم، ويصطفيهم ليكونوا مع الأنبياء والصديقين والشهداء، في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.
الحياة مع الشهداء والعيش معهم، والتنقل بين بساتينهم، واشتمام عبقهم الفواح، ورائحة شهادتهم المعطرة، والاستمتاع بسيرتهم الطيبة، وسماع أخبارهم السارة، فضلاً عن أنه يشعرنا بالفخر تجاههم، والاعتزاز بهم، ورفع الرأس عالياً مباهاةً أنهم منا وأننا إليهم ننتمي، فإنهم في الوقت نفسه يفضحون سرائرنا، ويكشفون عن خبايا نفوسنا، ويعروننا أمام أنفسنا وبعضنا البعض، ويسخرون من حبنا للحياة، ويستخفون من تمسكنا بالعيش الذليل والحياة المهينة، في ظل احتلالٍ يغتصب، وعدوٍ يذل ويهين، وكيف أنهم استطاعوا أن يكسروا أسورة الذل، وأن يثورا على إطار الهوان، وأن يثبتوا للعدو أن الحياة وقفة عزٍ، وأن الخلود والعزة في قتاله والصمود أمامه.
ما أجمل أن نعيش مع الشهداء، ونحيا مع الأبطال الذين صنعوا لما المجد، ورسموا لنا بدمائهم وعملياتهم الجسورة آياتٍ من العز والفخار، فالحياة مع الشهداء ولو من مكانٍ بعيدٍ ممتعةٌ وشيقةٌ، وفيها إيحاءاتٌ لا يمكن إدراكها بسهولة، ولا التعرف عليها ببساطة، إذ يلزمها مواكبة الشهداء، وملازمة الأبطال، والتعرف عليهم عن قربٍ والعيش معهم عن كثبٍ، فهم معينٌ من العطاء لا ينضب، ونورٌ مع الزمان لا يبهت، وضياءٌ مع الأيام لا يعتم.
بيروت في 4/1/2016