يبدو أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي قد بدأت بعد دخول الانتفاضة الفلسطينية شهرها الثالث تصحو من سكرتها، وتستفيق من غفلتها، وتستعيد وعيها الذي غيبته، ففتحت عيونها بعد طول تغميض، وبدأت تعترف بالوقائع على الأرض، وتسمي الأشياء بمسمياتها، بعد أن طالت فترة غيبوبتها الإرادية التي أنكرت فيها الواقع، وتبجحت في وصف الأحداث كيفما تريد، وحاولت تزييف الحقائق، وتبديل المعطيات، وتغيير المفاهيم، لتجبر العالم على الاعتراف بما تريد، والإقرار بما ترى، ولو أنها كانت عمياء لا ترى، أو لا تريد أن ترى الحقيقة كما هي، رغم أنها كانت واضحة، وآثارها على الأرض وفي كلِ مكانٍ بينةً وصريحةً.
رفض الإسرائيليون طويلاً الاعتراف بالانتفاضة، والإقرار بالوقائع على الأرض، ومعهم جمعٌ كبير من الخصوم والأعداء، وبعض العرب والفلسطينيين للأسف، الذين رأوا ما رأى الاحتلال، وقبلوا بوصفه للأحداث، ومنهم من تبنى وصفه، واستخدم مفرداته، وردد نفس كلماته، دون أدنى إحساسٍ بالخزي أو الخجل، فقد رفضوا جميعاً الاعتراف بأن ما تشهده فلسطين إنما هي انتفاضةٌ حقيقية، وثورةٌ متكاملة الأركان، وجامعة لكل الصفات، وفيها كل الجوانب التي تتطلبها الانتفاضة وتحتاج إليها الثورة، وأن الأحداث ليست هبة مارة ولا موجة عابرة، كما أنها ليست تنفيساً عن غضب، أو تعبيراً عن احتقان، أو محاولاً للتخفيف عن النفس مما أصابها من يأسٍ وقنوطٍ، بل هي إرادة شعبٍ واعٍ، ومقاومة أمةٍ تريد الانعتاق وتسعى نحو الحرية.
بعد مضي أكثر من شهرين، وسقوط أكثر من مائة شهيد وقرابة خمسة عشر ألف جريحٍ فلسطيني، وأكثر من ثلاثين قتيلاً إسرائيلياً، وصف التلفزيون الرسمي الإسرائيلي الأحداث الجارية في المناطق الفلسطينية بأنها “انتفاضة الأفراد”، وتخلى عن وصفها بالإرهاب، وهو ما اعتاد على استخدامه ووصفه دائماً في وسائل إعلامه المختلفة، لكنه تراجع مرغماً عن أقواله، وبدل بالإكراه كلماته، وها هو اليوم يقول بكل وضوحٍ وصراحةٍ إنها “انتفاضة الأفراد”، ولعلها بالنسبة له بداية مرحلة الاعتراف الذي لا يأتي دائماً دفعةً واحدةً، وإنما يأتي تدريجياً وعلى دفعاتٍ، تبعاً للحالة النفسية، والانهيار الذي يصيبه نتيجة توالي الأحداث، التي بدت وكأنها ضرباتٌ حادةٌ متواليةٌ تطرق رأسه، وتصدع دماغه.
اليوم يعترف الإسرائيليون بأن ما يقوم به الفلسطينيون إنما هي انتفاضةٌ حقيقيةٌ، ولو أنه وصفها بأنها انتفاضة أفراد، ولعل أهم ما يميز الانتفاضة الديمومة والاستمرار، وأنها لن تتوقف فجأة دون مقدماتٍ، ولن تنتهي دون إنجازاتٍ، ولن يغادرها الفلسطينيون إلا إلى أداةٍ نضاليةٍ جديدةٍ، ووسيلة مقاومةٍ أخرى، قد تشبهها أو قد تكون مختلفةً عنها وأكثر تطوراً منها، ولكنها أبداً لن تكون عبثية ودون ثمن، أو شكلاً من أشكال الفوضى دون نتائج إيجابية يرضى عنها الشعب، وهو الأمر الذي بات العدو يدركه يقيناً.
الاعتراف الإسرائيلي بما يدور في فلسطين من أحداث بأنها انتفاضة سيرتب على الاعتراف بها مقتضاه، فهذه هي القاعدة البدهية والمنطقية، فالاعتراف يقدم لما بعده، وما بعده بالضرورة مختلف ومغايرٌ عما كان وقت الإنكار والرفض، واعتراف العدو الصريح والواضح بالانتفاضة يعني أنه سيهيئ نفسه لاستحقاقاتها، وبما ستمليه على من شروط، وما ستحققه من أهدافٍ، وكما بدأ العدو الاعتراف وإن متأخراً، فإن الشعب قد قطع مبكراً أشواطاً في الصمود والثبات، وهو السلاح الذي يملكه في وجه العدو وبه يواجهه.
أما أنه وصفه الانتفاضة بأنها “انتفاضة أفراد” فهذا وصفٌ يخيفه أكثر، ويرعب مستوطنيه ويقلق أجهزته الأمنية، ذلك أنه يعاني كأشد ما تكون المعاناة من عمليات المقاومة الفلسطينية الفردية، التي أطلقت عليها مخابراته اسم “الذئب المفترس”، والتي يعجز فيها عن إلقاء القبض على النشطاء، ولا يقوى على معرفة المشتبه بهم، فهم جميعاً فرادى منبتين عن التنظيمات والفصائل، ولا يرتبطون بهم بمجموعاتٍ ولا بروابط، ولا يتلقون منها الأوامر والتعليمات، ولا يحصلون منها على المال والسلاح، وإنما ينفذون ما يريدون ويرغبون، في الوقت الذي يختارون ويقررون.
كما عانى الإسرائيليون كثيراً من عمليات “الذئب المنفرد” وما زالوا يعانون ويتخبطون، فإنهم سيعانون أكثر مما وصفوها بــ”انتفاضة الأفراد”، لأنهم أكثر من يعرف أنه لا قيادة لها، ولا رأس يحركها، ولا مسؤول يوجهها، ولا يوجد من يتحدث باسمها أو يعبر عنها، إنما هي إرادة شبابٍ وحركة جيل، وهذا يعني أنه لن يستطيع أن يفاوضها أو يساومها، إذ من يفاوض ومن يساوم، فمن أمامه ليسوا إلا أشباحاً يتجددون، ويولدون بعد الاستشهاد من جديد، وكلٌ منهم بذاته ونفسه رأسٌ وقائدٌ، يقرر ما يريد، وينفذ ما عزم على تنفيذه بنفسه.
لهذا فإن الوصف الإسرائيلي الجديد للانتفاضة قد وضعه في مأزقٍ خطيرٍ، وسلمه إلى مرحلةٍ صعبةٍ، سيجد نفسه حائراً تائهاً في البحث عن رأسٍ يفاوضه، وعن قيادةٍ يتحدث معها، وسيندم على زمانٍ كان ينكر فيه وجود قيادةٍ فلسطينية، ويرفض الاعتراف بوجود شريكٍ فلسطيني يفاوضه أو يتحدث معه، أما اليوم فقد أصبح في مواجهةٍ مع الفراغ، وفي مقابل اللا أحد فلا عيون أمامه يراها، ولا وجوه يتفرس فيها ويتحاور معها، علماً أنه لم يكن مختاراً في وصفه، ولا متفضلاً في اعترافه، ولا متصدقاً في ذكره، بل إن الواقع كان أقوى منه، والظروف هي التي أجبرته ودفعته، ولو أنه أراد غير ذلك لحكم على نفسه بالعيش في غير زمانه، وبالاحتكام إلى الوهم والخيال.
لا شئ كالمقاومة يستطيع أن يرغم العدو ويجبره، ويذله ويهينه، ويأتي به صاغراً خانعاً، فهو لا يعترف بغير القوة، ولا يقر بغير القهر، وما يقوم به الفلسطينيون اليوم في انتفاضتهم المجيدة، يرفع رأسهم، ويحفر بين الأمم اسمهم، ويجعلهم في المقدمة دوماً، يحترمون ويقدرون، ويتلقون من الجميع التحية، ويسمعون منهم “هنيئاً لشعبٍ يقهر عدوه ولا يستسلم، ويقاتله ولا يضعف، وينال منه ولا يسقط”.
بيروت في 11/12/2015