يوماً بعد آخر تتضح حقيقة يُتمِ الانتفاضة، فقد أظهرت الأيامُ التي قطعتها يتمها، وأنه لا أب لها، ولا من يحنو عليها، ولا من يهتم بها ويحرص عليها، ولا من يرعى شؤونها ويعني بفعالياتها ويتابع احتياجاتها، فغدت وحدها بلا أبٍ يدافع عنها، ولا كفيلٍ يعنى بها، وليس أشد على الإنسان من اليتم في مجتمعٍ لا يرحم، وعالمٍ قاسي لا يعرف الحنو ولا العطف، وليس فيه أمانة ولا صدق، ولا خير ولا بركة، بل تسوده قيم الشر ومفاهيم الكراهية، وتسيطر عليه شريعة الغاب ومنطق السوق والتجار، فيغدو فيه البشر كالحيوانات يتغولون على بعضهم، ويعتدون على الضعيف فيهم، ويستولون على حق المسكين بينهم، ويحتالون على أصحاب الحقوق ويخدعونهم، ويلتفون عليهم وينهبون أموالهم، ويتسلطون عليهم ويحرمونهم مما هو لهم.
كذا هو حال الانتفاضة والشعب الفلسطيني اليوم، فقد غدا الشعب يشعر بأنه وحيد ولا ناصر له غير الله، ولا يوجد من يلتف حوله، ولا من يؤيد حقه، ولا من يناصره في قضاياه، ولا من يقف في وجه العدو ويتحداه، وينتقد سياسته ويرفض مواقفه، ويستنكر أفعاله وجرائمه، بل العكس من ذلك فإن قوىً ودولاً تقف إلى جانب العدو وتناصره، وتؤيده في سياسته وتقف معه في جرائمه، وتتفهم ما يتعرض له من خطر، وتجيز له ما يتخذ من مواقف وما يمارس من سياساتٍ، بجحة أنه يصد بعملياته إرهاب الفلسطينيين، ويمنعهم من إلحاق الضرر بأمنه وبحياة مواطنيه وسلامة مصالحه ومرافقه.
الفلسطيني اليوم يتيمٌ بحقٍ، ومسكينٌ بلا شك، وهو واقعٌ بين براثنِ عدوٍ مفترسٍ، ماكرٍ خبيثٍ لعينٍ، يتربص به ويتآمر عليه، ويتحالف ضده ويتعاون مع غيره عليه، حتى صدق المثل فيه أنه كاليتيم على موائد اللئام، فهو اليوم كذلك ولا أشد لؤماً عليه من الصهاينة، وكل من حوله لئامٌ يتآمرون عليه ويتربصون به، ويحاولون خداعه والتضليل به، وحرمانه مما هو له، وسلب ما بقي بين يديه، ويتفننون في وضع الحيل ورسم الخطط ليخدعوا هذا الشعب ويخضعوه إلى ما يريدون، فتارةً يصارحونه بما يريدون دون حياءٍ ولا خجل، وتارةً يلتفون حوله ويحاولون خداعه، وأحياناً يزينون له أفعالهم ويزخرفون مقترحاتهم، ويغلفونها بما يظهرها صادقة وبريئة، وهي عكس ذلك تماماً، إذ أن فيها السم ولو كانت دسمةً، ولا تحقق الخير للفلسطينيين وإن بدا أصحابها ناصحون، صادقون ومخلصون.
هذا هو الواقع الذي لا نستطيع أن ننكره ولا أن نتجاوزه، فالفلسطينيون اليوم وحدهم، فلا حكوماتٍ عربية تناصرهم وتقف معهم، ولا أنظمة عالمية تتفهم قضيتهم وتؤيد نضالهم ولا تعارض مقاومتهم، رغم أن البعض يبدي حسن نيته ويقدم عذره، بأن بلاده مشغولة بهمومها، وقلقة على أوضاعها، وأن أمنها غير مستتب، وظروفها غير مستقرة، وأعداؤها في الداخل والخارج على السواء، بما يجعلهم غير قادرين على الالتفات إلى غيرهم، ومساعدة سواهم، والانشغال بهمومهم الخاصة عن العامة، وهذا أمرٌ طبيعي لا يعترض عليه أحد، ولا ينتقده عاقلٌ، إذ قبل أن تهب لمساعدة الآخرين حاول أن تطفئ النيران التي تشتعل في بيتك.
لكن الشعب الفلسطيني عصاميٌ في أصله، وعنيدٌ في طبعه، ومؤمنٌ في عقيدته، وصادقٌ في مقاومته، فلا يقلق كثيراً إذا بدا وحيداً وتخلى عنه الآخرون، ولا يفت في عضده انفضاض العالم من حوله، والتفافهم حول الظالم المعتدي، المحتل الإسرائيلي الغاشم، فهم لا يعتدون كثيراً بالمجتمع الدولي الذي صنع يتمهم، وكان السبب في كسر ظهرهم، ونكبة شعبهم، وضياع أرضهم وشتات أهلهم، فالمجتمع الدولي هو الذي يتحمل كامل المسؤولية عن جريمة القرن العشرين ونكبة الأمة فيه.
إلا أن الصورة ليست شديدة القتامة، والأرض ليست محلاً وقحطاً، بل يوجد من حينٍ إلى آخر من ينتصر إلى الشعب الفلسطيني ويثور من أجله، وينتفض تأييداً لحقوقه، ويرفع الصوت عالياً في وجه ظالميه والمعتدين عليه والمحتلين لأرضه، وهذا ما بدا واضحاً من خلال تصريحات وزيرة الخارجية السويدية، التي استنكرت عمليات القتل والإعدام التي تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، والتي أعطت الحق لمستوطنيها بقتل الفلسطينيين وإطلاق النار عليهم، دون خوفٍ من ملاحقةٍ قانونيةٍ أو إدانةٍ ومحاكمةٍ قضائيةٍ، وبذا تكون قد وسعت إطار الجريمة، وزادت من عمليات القتل العشوائي والإعدام الميداني.
رغم أن الغضبة السويدية كانت محقة، وكانت واضحة وصريحة، وكانت ضد عمليات القتل البشع الذي تمارسه سلطات الاحتلال، إلا أن حكومة الكيان الصهيوني انتفضت وغضبت، واستفزت واستنكرت، ولم تعجبها الغضبة السويدية، ولم ترضَ عن موقف وزيرة الخارجية، واعتبرت موقفها انحيازاً مع الإرهاب ضدها، وانتصاراً للظلم عليها، ودعا رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي رئيس الحكومة السودية ستيفان لوفين، إلى التراجع عن هذه التصريحات، وبل والاعتذار عنها، ذلك أنها منافية للالتزامات الأوروبية تجاه كيانهم، كما أنها تخالف الحقيقة والواقع، إذ يرى رئيس الحكومة الإسرائيلية أن وزيرة الخارجية السويدية قد عكست الواقع، فأيدت الفلسطينيين الذين يمارسون القتل والإرهاب ضد الإسرائيليين وهم الضحية الذين يقتلون ويطعنون، وكان حرياً بها أن تقف معهم وتحزن على ما أصابهم ولحق بهم، إلا أن رئيس الحكومة السويدية رفض اعتراضات نتنياهو، ورد عليه قائلاً “إن القانون الدولي لا يعتبر الهجمات التي ينفذها الشبان الفلسطينيون بالسكاكين إرهاباً”.
ما أجمل أن يستيقظ الفلسطينيون ذات صباح فيجدون أن لهم أباً حياً، حراً عزيزاً أبياً قوياً، مهيباً ومهاباً، فارساً شجاعاً، صنديداً مقاتلاً، صاحب كلمةٍ وأنفة، وعنده عزة وكرامة والكثير من الشهامة، يقف إلى جانبهم ويساندهم، ويصد ويدافع عنهم، ويرد الصاع صاعين على من ظلمهم، ولا يقبل أن يستفرد بهم ويعتدي عليهم، ولا أن يتركهم ويغيب عنهم، بل يكون معهم وإلى جانبهم، سيفاً به يقاتلون، وترساً به يصدون، وقلعةً به يحتمون، وسوراً به يمتنعون.
بيروت في 9/12/2015