إن أهم ما يميز هبة القدس التي نأمل أن تكون بوابةً لانتفاضةٍ شعبيةٍ ثالثة، تغير الواقع، وتبدل الحال، وتحقق الأماني، وتسير بالأمة نحو فجرٍ جديدٍ وغدٍ أفضل، وتصوب المسار، وتعدل المسيرة، وتتجاوز الصعاب والعقبات، وتقفز عن العيوب والمشاكل والهنات، ويلتقي عندها الشعب وتلتف حولها الأمة، أن أغلب أبطال هذه الهبة المباركة هم من جيل الشباب، من الجنسين معاً، ممن لا تزيد أعمارهم عن الثلاثين عاماً، وكثيرٌ منهم قد ولد بعد اتفاقية أوسلو، وغيرهم كان طفلاً رضيعاً أو صبياً صغيراً عندما تم التوقيع على الاتفاقية، فنشأوا في ظلها، ولكنهم عندما كبروا ووعوا رفضوها واستنكروها، ورأوا أنها تحط من كرامة الشعب، وتتنازل عن حقوقه، وتفرط في أملاكه ومقدساته، وتعترف للعدو بما احتل، وتتنازل له عما اغتصب، فكانت استجابتهم للهبة قوية، ومشاركتهم فاعلة، وحضورهم طاغياً.
أما الميزة الثانية التي تميزت بها هذه الهبة المباركة، وإن كانت تتشابه نسبياً مع الانتفاضتين السابقتين، فهي الحضور اللافت للمرأة، والثورة الغاضبة للنساء، الشابات والمسنات، والعازبات والمتزوجات، والأمهات والزوجات الجديدات، فكن مرابطاتٍ في المسجد الأقصى، يدافعن عنه ويبتن فيه، ويصدن بما أمكنهن محاولات المس بالمسجد وباحاته، ولا يبالين بما يلقين من أذى وإساءة، وضربٍ مهانةٍ، ودفعٍ وركلٍ وجرٍ على الأرض، واعتقالٍ ومحاكمة أو قتلٍ وإصابة.
ومع ذلك فقد كن في الأحداث أكثرية، ينافسن الرجال ويسبقنهم، ويخرجن للمواجهة قبلهم وبدون إذن أزواجهن أو آبائهن، ويجتزن المعابر ونقاط التفتيش بقوةٍ ورباطة جأش، لا يهتز لهن جفنٌ ولا تضطرب جوارحهن، يتصدين إلى الجنود، ويحاورونهم بجرأة وشجاعة، ويصرخن في وجوههم، ويهددن وجودهم، ويتوعدن الاحتلال ومستوطنيه بمصيرٍ أسودٍ وخاتمةٍ أليمة، ومنهن من تخصورت بخنجرٍ، وأخرى تحمل سكيناً، وغيرهن يحملن ما يؤذي ويجرح، دفاعاً عن أنفسهن وعن قدسهن.
كأن الاحتلال الإسرائيلي وجد ضالته في الشباب الفلسطيني الغض، وفي الشابة الفلسطينية اليافعة، فأمعن في الإثنين معاً قتلاً وجرحاً واعتقالاً، فكان أوائل الشهداء مهند حلبي (19 عاماً)، وفادي علوان ( 19 عاماً)، وأمجد الجندي (17 عاماً)، وثائر أبو غزالة (19 عاماً)، وحذيفة سلمان (18 عاماً)، ووسام جمال (20 عاماً)، ومحمد الجعبري (19 عاماً)، واسحق بدران (16 عاماً)، ومحمد سعيد علي (19 عاماً)، وأحمد جمال صلاح (19 عاماً)، وإبراهيم عوض (28 عاماً)، وجهاد العبيد (22 عاماً)، والطفل مروان بريخ (13 عاماً)، وخليل عثمان (16 عاماً)، وشادي دولة، وأحمد الهرباوي، وعبد الوحيدي، ومحمد الرقب، وزياد نبيل شرف، وجهاد العبيد، وأحمد شراكة، وتتراوح أعمارهم جميعاً بين 11-22 سنة، والأم الحامل نور رسمي حسان وطفلتها الرضيعة رهف حسان.
رغم صغر سنهم وحداثة أعمارهم، إلا أن العدو لم تأخذه بهم رأفة ولا رحمة، بل إنه زاد في جرعة القسوة والشدة، وبالغ في تسديد الإصابات وتحقيق القتل، وتنقل في جرائمه بين القدس ومدن الضفة الغربية وقطاع غزة الذي تعددت فيه وسائل القتل، بين القصف وإطلاق الأعيرة النارية وهدم البيوت على ساكنيها، فقتل أماً شابةً وهي حامل في الشهر الخامس وطفلتها التي لم تتجاوز الثانية من عمرها، ولم يستثن من جرائمه التي يرتكبها جنوده بخبثٍ ومكرٍ، أهلنا في الأرض المحتلة عام 48، الذين نالهم من الاحتلال سوء، ولحق بهم أذى كبيراً، وتنوع القاتل الإسرائيلي فكان جندياً بالبزة العسكرية ومستوطناً حاضراً، ومواطناً عابراً ورجل أمنٍ متخفي في ثيابه المدنية.
وفي كثيرٍ من الأحيان كان الاحتلال يقتل بدمٍ باردٍ، دون أن يكون هناك أي خطرٍ يتهدد حياة مستوطنيه أو أمن جنوده، ومع ذلك فإن جنوده كانوا يبادرون بإطلاق النار على الفلسطينيين العابرين والمتظاهرين، ويسددون طلقاتهم على الجزء العلوي من الجسد أو على الرأس مباشرةً، ولا يكتفون بقاتلٍ مجرمٍ يصوب بندقيته أو مسدسه تجاه الضحية، بل يتكاثرون على الفلسطيني كالكلاب الجائعة، ويحومون حوله كلٌ يريد أن ينشب أنيابه في جسده، وينهش من لحمه، وكذلك كانوا مع أغلب الشهداء الذين نجحوا في طعن إسرائيليين أو حاولوا، ومع أولئك الذين اشتبهوا بهم وشكوا في وجودهم أو هيأتهم، فأطلقوا عليهم النار بدمٍ باردٍ، وقد سجلت عدسات التصوير جرائمهم ووثقتها بالصوت والصورة، ومن أكثر من زاويةٍ ومكان.
لعل دراسة بسيطة للشرائح الاجتماعية والعمرية الفلسطينية التي تشارك بقوةٍ في هذه الهبة الجماهيرية المباركة، فإنه سيجد أن السواد الأعظم من المشاركين من الجنسين، هم من الشباب القوي الواعد الحالم في المستقبل، الذي لا يعرف العجز ولا يسكن قلبه اليأس، ويتطلع بأملٍ إلى الحرية والتحرير، والكرامة والعزة، ولا تعنيه حياته كثيراً أمام الهدف والغاية، التي يراها ساميةً ونبيلة، وعزيزةً وغالية.
ولهذا فإن هذه الهبة التي قد يمد الله في عمرها، ويبارك لنا في أثرها فتكون انتفاضة، ستكون مختلفة ومغايرة عن سابقتيها، لوعي أبنائها، وتضحيات رجالها، وعطاءات نسائها، ولعل العدو يدرك تماماً أنه لا يواجه جيلاً يائساً، ولا شباباً محبطاً، ولا شعباً كسيحاً، ولا قادةً مخصيين، إنما يواجه جيلاً يعرف ماذا يريد، ويدرك الغاية والسبيل، والطريق والوسيلة.
بيروت في 12/10/2015