سيحتاج الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله ما يزيد عن ليلتين عاشورائيتين لضبط اندفاع جمهوره الناسج حول “ظهور” الإمام المهدي- وفق المعتقد الشيعي- مروياتٍ متضاربة. لن يبدو كافياً شرحٌ تولاه بنفسه، مفاده أنّ “الظهور” قد يتأخّر، ولا ينبغي التسليم بتوقيتٍ دنا، يُرخي كسلاً في الهِمم أو رغبة في الاتكال على الإمام دون سواه للنجاة مما تواجهه المنطقة من وحشية. قدَّمَ العملَ (الجهاد بمعانية كافة) على الإذعان الأعمى لاجتهاداتٍ ليست على الأرجح دقيقةً كلياً، إذ يشوبها ربطٌ ما بين “الظهور” وعلاماتٍ منها المعركة على الأرض السورية و”صمود” النظام، وبأنّ نصرالله نفسه معجزةٌ، لعلّه اليماني أو الخراساني ممهِّد “ظهور” المُنتَظر. لافتٌ تداوُل جماهير بأقوالٍ تجزم بقُرب “الظهور”، مُلحَقةً بكمٍّ من اللامألوف في المنطق والعقل. يصبح متعمداً تكرار أننا في الأسفل الذي لا بدّ من بلوغه وإلا أطال الله غيبة الإمام. كأنّ بئس الحال تروق بعض الجمهور، إذ هي ضرورة لـ”ظهور” مَن يخلِّصهم من عدوّهم ويضمن لهم “عدالة” أرضية. أراد نصرالله طوال ليلتين عاشورائيتين أنّ ينبِّه الى خطورة أن تحوط الشائعات “ظهور” المخلَّص، داعياً الى التروّي والحدّ من الاندفاع. لعلّه تأخّر بعض الشيء في مصارحة جمهوره بواقع أنه ينجرف خلف توقٍ الى خلاصٍ قد لا يحلّ عاجلاً، وعادة قُصْر النظر أن يبعث في النفوس خيبة. بلغ المسُّ بالمصير مبلغاً باتت معه الحاجة ماسّة الى قائد متفوِّق، يطهِّر الأرض من أخطار تتربَّص.
فرضت الحرب السورية وضْعَ الحزب في مواجهة ميل الجماهير الى التمسُّك بقشَّة. قلما انتشرت في بيئة “حزب الله” هواجس من قبيل أنّ الإمام المهدي مؤازِر نصرالله في حربه، يده اليمنى مثلاُ أو مستشاره في شؤون الميدان، إلا بعدما أصبح الحزب طرفاً في المعركة الشرسة. أصبح من الصعوبة لجم كثافة التصديق بالمُعطَى غير المُدقَّق، المُفتقِر الى مرجعٍ يسنده. لن يناسب الحزب الآن زجّ جماهيره في الخانة المنادية بتصدير الأسطورة أو تكريسها نهجاً، من غير أن يسعى الى تصييرها شغلاً وهَمّاً والتجنُّد للحد من تبعاتها. لم تبلغ محاولاته مستوى مفروضاً، ولم تُوظَّف عناصرٌ تنشر بين البسطاء وعياً غيره القائم على الدمج المطلق ما بين الواقع والزعم. كاد أن يفوت الأوان أمام العودة الى السكة، ولعله فات. يتمدَّد نقاشٌ في أوساط الجماهير عن نوع الأسلحة التي سيُقاتِل بها الإمام فور ظهوره، أهي المتطورة أم السيف القاطع؟ وكما شارك المُنتَظر في حرب تموز 2006، ممتطياً جواداً أبيض، وفق مرويات شعبية، يشارك اليوم في الحرب السورية “ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً”، كأنه العون في تحمُّل أعبائها.
من هو المهدي وما هي علامات ظهوره؟
في المفهوم الديني، احتمالان: أن تؤمن أو لا، فإن أذعنتَ للأول، ستقبل أنّ المهدي إنسانٌ من طبيعتك التكوينية، مثلكَ من لحمٍ ودم، زمان ظهوره وفق بعض المراجع في يوم الجمعة الأخير من رمضان، ومكان الظهور مكة. عندها تبدأ معركةٌ يُجتثُّ في إثرها كلّ ظلمٍ يسود، تمهيداً لدولة العدل. نسأل الشيخ سعدالله خليل، من جمهور “حزب الله”، كما يعرف عن نفسه، هل القصد من الظهور يوم القيامة، وما يُحكى عن أرضٍ تزلزل زلزالها وتُخرِج أثقالها؟ ينفي ويصحح: “يحتاج الإمام الى 70 سنة لإعلان الدولة المهدوية العادلة، على أن تستمر مدّة 700 سنة، حينها يوم القيامة. والإمام حين يخرج من مكة، يعقد ما يشبه المؤتمر الصحافي، ليقسِّم العالم الى 313 ولاية، ويعيِّن على كلٍّ منها والياً [من هنا شعار “313 رافضي” المطبوع على سترةٍ أكثَرَ شبانٌ ارتداءها في عاشوراء]”.
نرجو فضيلته أن يقصّ علينا علامات الظهور، علّنا نتفهَّم الحاجة الى ربطها بالراهن. يعدِّد ما تيسَّر، شارحاً: “العلامات منها المباشر ومنها غير المباشر. تحديدها أمرٌ غير دقيق، فتبقى ضمن الواقع التقريبي. من العلامات، الصَيْحة، إذ يطلق الملاك جبرائيل صيحة من السماء بكل اللغات، منادياً بظهور المخلِّص، فيسمعها أهل الأرض أجمعين. ثانية العلامات ظهور السفياني [يبدأ الربط بمجريات الحرب القائمة]، حامل لواء الحرب على كل مَن ينطق بقضية أهل البيت [الشيعة]”. رجلٌ هو، أم نهج سياسي أم حقبةٌ من انحطاط وجَور؟ يجيب بأنه “إنسانٌ يخرج من الوادي اليابس في غور الأردن على رأس 50 ألفاً من المقاتلين. إنه قائد عسكري يستغلّ ضعف النظام العلوي في سوريا ويشنّ عليه حرباً”. فلندخل في الصُلب. إذاً، ثمة إقرار بكون الحرب السورية “مقدِّمة لظهور المُنتَظر”. يؤكد، ويتابع مستفيضاً في شرح الصلة: “من العلامات أيضاً، حدوث فتنتين: فتنة الشام الكبرى وفتنة تسبق ظهور الإمام. الفارق بين الفتنتين “حَمْل البعير” (أي 8 أشهر)، إذ يواجه النظام العلوي في سوريا [نسأله إن كان المقصود نظام الأسد، فيجيب بعدم الضرورة] فتنة الشام الكبرى، ويخرج منها أقوى مما كان، منتصراً، ثم يظهر السفياني مستغلاً الظرف، ويقاتل النظام العلوي، فتنقسم سوريا، مما يسمح بظهور الإمام، حينها يترك السفياني الشام”. يختزل ما وردَ: “لدينا اعتقاد بأنّ العلويين في سوريا سيحكمون حتى ظهور المهدي”.
الفتنة الكبرى تبدأ من سوريا، وفق خليل شبه الواثق بأننا “في آخر الزمان”. “لا نستطيع إلا أن نربط حال المنطقة بعلامات الظهور”، يقول، معرِّجاً على المزيد من “الدلائل”: “ستمهِّد الراية الخراسانية، وهي القوة الموجودة في بلاد فارس (الجمهورية الإسلامية)، عبر قائدها الخراساني، للظهور أيضاً، كما ستنشأ في اليمن دولة شيعية يرأسها قائد يماني، وقد تكون بدايتها حراك الحوثيين، والله أعلم”. يتابع بأنّ شروق الشمس من الغرب، إحدى علامات الظهور، مرفِقاً ذلك بـ”تقرير علمي” سمعه، يجزم بأنّ الشمس ستشرق “قريباً” من الغرب.
يا مولانا، أحقاً للأمر صلة ببقاء النظام في سوريا؟ كيف ذلك؟ “بقاء الأسد يعتبر معجزة وسط حروب المِلل والأجناس. هذا نوعٌ من التدخّل الإلهي. حصول غير المألوف يمهِّد للحدث غير المألوف: الظهور”.
دحض المغالاة في السلوك والربط
يُعقلِن السيد جعفر فضل الله، نجل المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله، إشكالية الظهور، مُبقياً على الإيمان بأنّ الإمام سيظهر لا محالة. يراه “النموذج الإلهي لقيادة الحياة”، القائم على تفعيل الطاقات البشرية على ضوء القيَم. يحيلنا على “وعدٍ إلهي” يقول إنّ “رجلاً من أهل البيت سيظهر في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلاً”. نناقش معه ماهية هذا الرجل، أهو مولودٌ في تاريخٍ محدد، وأطال الله عمره حتى ظهوره، أم أنّ ولادته لم تحدث بعد؟ يؤكد مكان عقيدة المهدي عند الشيعة الإثني عشرية، وبأنه “مولود من قبل، ومحفوظ من الموت، يواكب حركة المتغيّرات، وسيظهر عندما يأذن الله. ينبغي عدم الاستغراق في سرد العلامات. بعضها غير ثابت على نحو الحقيقة الدينية، وبعضها قد يكون مُخترَعاً. العلامات إخبارٌ عن الغيْب لا يمكن قبوله من أي رواية توظِّف علامات الظهور توظيفاً تاريخياً للترويج لأشخاص أو إضفاء شرعية لسلطات. إشكالية الظهور دقيقة للغاية تتطلّب دراسة. ما يجري تداوله عبر الانترنت ووسائل التواصل من إسقاطات لعلامات الظهور على الواقع يفتقر المعيار العلمي ويسيء الى القضية”. المطلوب، وفق فضل الله، تحمّل المسؤولية حيال الظرف الراهن، عوض الاستغراق في تعداد العلامات والتكهّن في دلالاتها. “هذه العلامات عامة. يجدر تصويب النظرة حيال الإمام الماثل في الأذهان بصورة عسكرية فحسب. لا. على العكس. هو مرتبط بمسار حضاري إنساني، ويواكب حركة صعود الحضارات وهبوطها، لتنطلق عملية تحقيقه المشروع الإلهي من خبرة وكفاءة واقعية وتسديد إلهي”.
ولكن سيِّدنا، لماذا الغيبة؟ وأين موطن الاختفاء؟ “هو ضمن مجال الكرة الأرضية. أما الغيبة فنعزوها الى ضرورة أن تمتلك دولة العدل مشروعية تاريخية متمثِّلةً – بحسب عقيدة المسلمين الشيعة – في أنّه ينتمي الى أهل البيت. انتماؤه الى ذلك الزمان ينفي الجدل حول مشروعيته. يريد الله من خلاله أن يؤكد أنّ قيادة الحياة نحو العدل ممكنة. سيستثمر المُنتظَر كل ما وصلت إليه البشرية من إنجازات. سيُعلن عن نفسه أيضاً عبر وسائل الاتّصال وأدوات العصر وربّما بطرق أخرى”. نخشى أنّ ظهوره يعني يوم القيامة وانقلاب البشرية رأساً على عقب، فيؤكد بالنفي، مشدداً مرة أخرى على اجتثاث اجتهادات تشوّه الدين، ورواياتٍ متناقلة من شأنها تكريس اللغط. نحاول، ثانية، علنا نقف منه على علاماتٍ للظهور المرتَقب. يكرر بأفضلية عدم الاستغراق في تفنيد العلامات وإسقاطها على ما يجري. نُسلِّم لرغبته في تفادي نقاشٍ من نوع عدِّد العلامات وتفضَّل بشرحها. نحمل إليه سؤالاً أخيراً عن كتاب الجفر. أنارَ الله دربك يا مولانا، أنِرنا. “يُقال إنه كان موجوداً لدى الإمام علي، وهو عصارة إخبارات الرسول محمد المتعلقة ببعض مستقبل العالم. لا دليل الى أنّ النسخ المتوافرة في الأسواق صائبة. الكتاب الأصل غير موجود، ولم يصل إلينا”. للشيخ خليل رؤية أخرى الى الجفر: “هو مجموعة وصايا للإمام علي، ينتقل من إمام إلى إمام، نعتقد بوجوده مع الإمام المهدي”. حسنٌ الإجماع على أنّ المُتداوَل منه في الأسواق زائف.