اولا اعتذر من قرائي العزيزات و الأعزاء كوني انقطعت لفترة و السبب يعود الى ردود فعل البعض من الناس ازاء مقالاتي الاخيرة التي يبدو انها أزعجتهم بشكل ما فكان ان جاءتني رسائل إعجاب من نوع “اخر”… !!!..
في المقالة الاخيرة تحدثنا عن الاستعمار اللولبي… و ذكرنا فيها ان الاستعمار يعمل وفق آليات ديمومة… و في هذه المقالة نتحدث عن هذه الديمومة و كيف توظف الرأسمالية القيم الثقافية لإعادة انتاج ذاتها…
احدى اهم آليات ديمومة الرأسمالية انها حولت الكثير من القيم الثقافية في التاريخ الحضاري الإنساني الى لعبة… او تجارة مربحة… ثنائية الصراع بين الحق و الباطل و الاستبداد و العدالة و الظالم و المظلوم و الغني و الفقير و القوي و الضعيف …… و اخير الاستعمار و المقاومة … كلها تحولت الى نفاق و تجارة… هل تتذكرون لعبة القط و الفأر “توم اند جيري”… أهمية اللعبة انها لا تنتهي… كلما اقترب احد الطرفين من الفوز يتذكر قيمة الصفح عن الاخر… لكن هذا الصفح او السلام لا يستمر الا لحظات حتى تعود لعبة الصراع من جديد….
هناك ايضا الدراما التي لا تتعلق فقط بالمتعة كما نتصورها و إنما يتعلق الامر بديمومة الحركة او ديناميكيتها…. هل سمعتم يوما قصة او حكاية عن شخص ولد و عاش و مات دون ان يكون هناك ظلم او حرمان او بطولة تنتهي بقتل….؟؟… حكايات مثل “قيس و ليلى” و “روميو و جوليت” و “شيرين و فرهاد”….. و غيرها مما تجد في اغلب الثقافات القديمة مثيلاً لها…. هي الحكايا التي تنعش ذاكرتنا و تربطنا بوجودنا و تفعل دورنا في حياتنا… هذا بالضبط ما فهمته الرأسمالية… و لذلك فان كل ما فعلته هو انها حولت هذه القيم و الأفكار و الرغبات الى واقع “شرعي” بدل الادانة و الاستنكار و اتخاذ المواقف البطولية…
الراسمالية تتحدث حديث الأنبياء عن السلام … و لكنها تتعامل مع الحرب تعامل الفرسان …. فهي تدخل الحروب بعيدا عن الأهل و الدار…. فتدعم هذه الجهة و تلك و تقبض الثمن…. انها تجارة الحرب حيث لا ينفع السلام … بل ان الصراع هو الذي يديم دوران الحياة …. و لا ادري ان كان ماركس يدرك هذه الاشكالية …. او ان مفهومه للتطور على أساس انه هو نتاج صراع التناقضات…. كان اقراراً منه (من ماركس) و ربما بشكل مباشر بأهمية او “ضرورة” تفعيل الصراعات … رغم الخسائر البشرية و الانكسارات الاخلاقية… لان تفعيل الصراع هو الأساس الأكثر نجاحا في خلق ديناميكية التقدم والتغيير …. لكن بغض النظر عن حقيقية ما كان ماركس يفكر فيه فان الواقع يشير بوضوح بان هذا المفهوم هو الذي يؤسس الان “للمنافسة” في المجتمعات الغربية… و النظام الديمقراطي يشرعن هذه المنافسة … او “الصراع السلمي” في الديناميكية السياسية اي بين الحكومة و المعارضة و كذلك في المنظومات الاقتصادية و الاجتماعية و الفكرية و الثقافية ….
و رغم ان ” المنافسة السلمية ” تترك الكثير من الضحايا من أفراد و جماعات و شركات تجارية في المجتمعات الغربية او الرأسمالية عموما الا ان اهم الضحايا هم أولئك الذين يعيشون خارج المجتمعات الغربية…. فهؤلاء هم يقعون خارج “المدى السلمي” للصراع الرأسمالي… او فلنقل ان هؤلاء ” الآخرون” يعيشون عند خطوط مسار عجلات الطاحونة الرأسمالية… و هذا يعني ببساطة ان طحن هؤلاء يعتبر “ضرورة” لتوفير الغذاء و الرفاه للمجتمعات الغربية…
بكلام اخر … يبدو ان المعادلة التي توفر دينامكية الديمومة تتكون من طرفين متناقضين يمكن فهمها هكذا… عجلات طاحونة الرأسمالية تحتاج الى ” اخرين” كي يكونو وقوداً تتغذى عليها و لكنها ايضا في المقابل تحتاج الى “اخرين” قادرين على شراء ما تنتجه تلك الطاحونة… و هذا بالضبط يعني ان الغرب بحاجة الى “الفقراء العاجزين” و ” الأغنياء الاغبياء”… و ولذلك يدعم الغرب الطرفين المتناقضين …. “الظالم و المظلوم” و ” الديمقراطي و الدكتاتوري” و “السلطوي و المحب للسلام” و ” الضعيف و القوي” و… و… الخ حتى ” القاتل و المقتول” و طبعا يربح في كلا الاتجاهين…
هذه الأيام تنتعش تجارة الحرب بشكل فاضح و التسميات تتجاوز المعقول و اللا معقول حيث تختلط المفاهيم القديمة “الاستعمار و المقاومة”… فالجميع يطلق على نفسه “مقاومة” حتى الاستعمار الذي “عاد كالعرجون القديم” يسمي ايضا نفسه “مقاومة قوى الشر” التي صنعته يده …!!!.. مفاهيم “مقاومة الاٍرهاب” و “ارهاب المقاومة” تختلط … و الذين قضوا سنوات في مقاومة الاستعمار يتم وضعهم في خانة “أذرع الاستعمار الجديد”…. و الذين ساندوا الاستعمار بالمال و البنين على مدى عقود من الزمان يستولون اليوم على شعارات “المقاومة و التحرر”… و هكذا في النهاية تجد الجميع يقاتل الجميع بالرصاص و النار… و احيانا بالمماطلات و الاجتماعات العقيمة…. مؤتمرات تنتهي و مؤتمرات تبدأ و كلمات تضامن مع هذا و ذاك و استراتيجيات …. و لكن الشيء المؤكد ان عجلة الحروب هي وحدها التي تدور اكثر من غيرها و معها تتوسع خارطة البؤس و المجاعات و موجات اللاجئين… و تزداد الاحقاد و تتمدد مصالح الصناعات العسكرية لتصنع أمجادها في عقول الاغبياء و العقلاء على السواء حيث لا طريق اخر يبدو سالكا غير طريق الحرب و الدماء… شاء الأنبياء أم أبوا…
منطق الحرب هو الذي يديم التطور… هكذا كانت نظرية الخروج من الأزمات الكبرى …. نظرية كينز
Keynes
الاقتصادية حول اعادة النظر في “العرض و الطلب” اوحت بشكل غير مباشر الى ضرورة خلط الأوراق … كان ذلك إبان الأزمة الكبرى في الثلاثينيات من القرن الماضي… و الحل الذي استوحاه عباقرة النظام الرأسمالي كان يكمن في شن حروب فجاءت الحرب العالمية الثانية التي شاركت الولايات المتحدة و تلتها حروب كوريا و فيتنام و كمبوديا و غيرهها في شرق اسيا و كذلك حروب الشرق الاوسط حتى انتعشت الحياة الاقتصادية في السبعينات و الثمانيات…
الان و منذ بضع سنين فان الأزمة الاقتصادية اشتدت مرة اخرى بشكل كبير مما وضعت معوقات شديدة امام أليات العولمة التي وضعت أساسا لضمان التوسع الاستعماري على أساس نهج “سلمي” و “تطوعي” بدلا من “الحرب المباشرة” و الأساليب “القسرية”…. لكن حروب أمريكا في أفغانستان و العراق التي جرت استجابة لمتطلبات سياسية أمريكية خاصة أطاحت بالكثير من منجزات فترة الانتعاش في الاقتصاد العالمي… لهذا عاد خيار الحرب و التدخل الاستعماري المباشر مرة اخرى ليكون افضل البدائل لاعادة انتاج او استدامة تطور النظام الراسمالي …
و لابئس ان يفقد الناس أحبابهم … !!!!… لان احتفالات التأبين و إقامة النصب التذكارية لهم هي ايضا ألية مهمة في دورة حياة التطور الراسمالي … لان هذه النصب … كما هي الاثار القديمة … تتحول الى مناطق سياحية يزورها الملايين و هكذا تقام فيها الفنادق و المطاعم و حفلات الرقص و الغناء و ستدر أموال كثيرة و هذه ستوفر الوظائف للكثيرين… من العمال و المستثمرين … الخ… من كان يتصور ان منطقة تجارب نووية سوفيتية
“Kurchatov”
في شمال شرق كازاخستان حيث ازيلت الحياة نتيجة قيام السوفيت بأكثر من 456 تجربة نووية فيها و حيث و ما زال الأولاد يولدون بعاهات شديدة … تحولت في الفترة الاخيرة الى منطقة سياحية… نعم بطريقة او اخرى فان الراسمالية تخبرنا انها تنتج الحياة من داخل الموت نفسه… هل هناك استدامة اكثر من هذا…؟؟… حبي للجميع..