الاحوال الشخصية في الدستور البابلي

bablبقلم ; عضيد جواد الخميسي
تعددت الأسباب التي دفعت الإنسان إلى تدوين قانونه. فهناك سبب جغرافي هو اتساع رقعة الدولة وازدياد عدد السكان على نحو يتعذر معه انفراد شخص واحد بمهمة القضاء. وإذا تعدد القضاة فلا بد من تطبيقهم لقانون موحد. وأيسر سبل التوحيد هي التدوين. ولعل
شريعة حمورابي خير شاهد على سلامة هذا الطرح. فقد أصدر حمورابي مدونته لتوحيد القانون الواجب التطبيق بعد اندماج دويلات ما بين النهرين في دولة واحدة هي دولة بابل.

إن مرحلة التدوين هذه لا شأن لها بالتطور الذي مرت به القاعدة القانونية منذ نشأتها البدائية في عصر القوة إلى اكتمال خصائصها في عصر التقاليد الدينية، ثم إلى قيامها المستقل في مرحلة التقاليد العرفية. كل ما في الأمر إن الشعوب التي اهتدت إلى الكتابة قد سارعت بتدوين أوجه نشاطاتها الحضارية المختلفة ومن بينها القانون. واكتشاف الكتابة وإن كان حدثا هاما في حياة البشرية نقلها من عصر ما قبل التاريخ إلى العصور التاريخية إلا أن ظروف المجتمع الاقتصادية والاجتماعية لم يجد فيها جديد يغير من طبيعة وخصائص القاعدة القانونية. فالظروف التي سادت قبل التدوين هي بعينها التي استمرت قائمة أثناء التدوين وبعده .
وإذا كان تدوين القانون ظاهرة لم تقتصر على شعب دون آخر سواء في الشرق أو الغرب، فإن الملاحظ مع ذلك أن اكتشاف الكتابة قد اقترن بدرجة النمو الحضاري لكل شعب. وبعض الشعوب وصلت إلى هذه الدرجة من الحضارة في الوقت الذي استقرت فيها قوانينها بصورة تقاليد دينية، ومن ثم عبرت مدوناتها القانونية عن هذا الواقع فكانت تقنينا لتقاليدها الدينية . أما الشعوب التي اكتشفت الكتابة بعد أن توصلت إلى مرحلة التقاليد العرفية، فقد جاءت مدوناتها القانونية معبرة عن الأعراف السائدة في مجتمعاتها. وهذا هو شأن المدونات القانونية الأولى التي صدرت في روما وبابل وآشور. وأيا كان الأمر فان الملاحظ إن بعض الشعوب التي دونت قوانينها قد أصدرتها في صورة تشريعات.
أما شعوب أخرى فقد دونت قوانينها في سجلات كتبها الأفراد المهتمين بالقانون دون أن تصدر بها تشريعات من السلطة الحاكمة وهذه هي السجلات العرفية التي عرفها الآشوريين والحيثيين. وهي سجلات غير رسمية أطلق عليها الباحثون مع ذلك تعبير مدونة وإن وصفوها بالعرفية تمييزا لها عن المدونات الرسمية.

سعى الملك حمورابي ( وتقرأ في البابلية ,, آمّو رابي ,, أي ــ السيد العظيم او رئيس العائلة ــ1793ــ1750ق.م) من ان يجعل لشعبه ودولته نظاما تشريعيا موحدا ، كان خلاصة الشرائع التي سبقته حتى اضحى معينا لشعوب وملوك عديدين ، كالاشوريين ، والعبرانيين ، والحيثيين .
ان شريعة حمورابي كما يبدو من موادها هي عبارة عن نصوص معدّلة لمواد الشرائع التي سبقتها ومنها( شريعة اور ــ نمو ، وشريعة لبت ــ عشتار ، وشريعة ايش ــ نونا ، وشريعة اور ــ كاجينا )، اذ ان حمورابي قد حذف مواد من هذه الشرائع والتي لاتتناسب وعصره ، واضاف الى شريعته تلك، مواد قانونية ملزمة اقتضتها مصلحة الدولة آنذاك ، ولاسيما القوانين الصارمة الخاصة بعقوبة الموت والقصاص بالمثل ، لان القوانين السومرية اصلا كانت تتجنب مبدأ تنفيذ عقوبة الموت بحق مرتبكي الجريمة او المخالفة ، اما القصاص (العين بالعين ، والسن بالسن) كانت القوانيين فيها تتجه الى مبدأ التعويض والغرامة المادية في الفصل بين المتخاصمين .
وقد اكتشفت شريعة حمورابي عام 1902 خلال التنقيبات في مدينة “سوسة”، عاصمة عيلام، على يد بعثة أثرية برئاسة عالم الأثريات الفرنسي “جاك دي مورجان” ، وقد وجدت منقوشة على حجر أسود اللون يبلغ ارتفاعه مترين وربع متر وتبلغ قاعدته مترين تقريبا. وفي أعلى الحجر نقش بصور الملك حمورابي وهو يتلقى هذا القانون من آلهة الشمس,,شمش,, .
وما تزال هذه المسلة موجودة بمتحف اللوفر في باريس، فرنسا . وقد عثر حديثا على نسخة أخرى منها صدرت في تاريخ لاحق وفي عهد الملك حمورابي أيضا، وهي صادرة بعد النسخة الأولى بحوالي خمس سنوات. ووجود هذه النسخة الثانية يدل على أن الملك حمورابي قد أصدر أكثر من نسخة لنشرها في بلاد ما بين النهرين.
ومن الجدير ذكره، أن شريعة حمورابي ليست أول مدونة صدرت في بلاد بابل. وإنما صدرت قبلها عدة مدونات أخرى. كل ما في الأمر أن مدونة حمورابي ظلت أهمها وأشهرها جميعا. بل هي تعد أشهر شرائع العالم كله . وقد كان من الطبيعي أن يستكمل حمورابي الوحدة السياسية بوحدة قانونية بين كل أجزاء بلاد ما بين النهرين فكتب شريعته تلك باللغة الأكدية(بالخط المسماري) كونها اللغة الرسمية. وقد تعمد حمورابي أن يضع في مدونته أحكاما صريحة بخصوص بعض المسائل التي كان العرف غامضا بشأنها أو كانت أحكامها محل خلاف المفسرين.
قسم الأب “شيل” شريعة حمورابي بعد ترجمتها إلى 282 مادة تسبقها ديباجة وتليها خاتمة. وقد استهلت الشريعة بكلام إله الشمس,,شمش,, الذي أملى على حمورابي دستوره حيث يقول [ أنا حمورابي ملك القانون، وإياي وهبني إله الشمس القوانين ]. وقد وضعت الشريعة في أسلوب أقرب إلى القوانين ومختلفة تماما عن الشرائع السابقة والتي كانت تكتب بأسلوب نثري قريب إلى الشعر منه إلى القوانين، وإن اتسمت صياغتها بالإيجاز الشديد.

قبل الخوض في تفاصيل ماتحوي هذه الشريعة من قوانين تخص الاحوال الشخصية للانسان البابلي ، علينا ان نعرف التركيبة الاساسية لمكونات المجتمع البابلي وطبيعة العلاقة بين طبقاته وحقوق كل منها ..

نشأت بلاد ما بين النهرين في شكل دويلات متعددة تتكون كل منها من مدينة معينة وما يحيط بها من أراضي. وهكذا قامت دول المدن كما أسماها المؤرخون. وعلى هذا النحو كانت المدينة هي الخلية الأساسية في التنظيم السياسي. وكان تأسيس المدينة عملا إلهيا يتم بناءها على أوامر الآلهة بوصفها مركزا للعبادة. أما الملك فكان الوسيط بين الآلهة والبشر، أو نقطة التلاقي بين السماء والأرض. فلم يكن وضع ملوك بلاد ما بين النهرين مماثل لفراعنة مصر مثلا، حيث كان الملك نفسه هو الإله وليس مجرد وسيط بين الآلهة والناس.
ولما كان الملك هو الوسيط بين الآلهة والبشر، فهو إذن الذي يتلقى القوانين من الآلهة ليحكم بمقتضاها بين الناس. فهو القاضي الأعلى، وهو من تجب طاعته على الجميع. ومن جهة أخرى فقد كان الملك هو الكاهن الأكبر، وهو الذي يدير أموال الآلهة. ولقد كان للملك أمواله الخاصة، فهو لم يدع في يوم من الأيام أنه المالك الوحيد لأراضي البلاد جميعها كما أدعى الفراعنة في مصر. واعتبار الملك وسيطا بين الآلهة والبشر قد جعل مسؤوليته مباشرة أمام الآلهة إذا لم يحقق الخير للشعب ولم يكفل العدالة بين الناس .
وكانت الملكة، زوجة الملك، هي التي تساعده في إدارة البلاد، ويساعدها “النوباندا” أي المشرف العام، وهو أمين خزانة الملك والمشرف على المشاريع والشؤون الزراعية، وحاجب القصر ومسجل العقود.
تشير الوثائق إلى وجود عدد من “النوباندا” يختص كل منهم بالإشراف على قطاع أو عمل معين. ويتبع كل منهم عدد من الموظفين.
ولعبت المعابد دورا هاما في الحياة الاقتصادية للبلاد، حيث كان للآلهة أملاكهم الخاصة ومخازن غلالهم وعبيدهم، وهي أملاك تتبع المعابد التي تتصرف في ريعها. وقد تكونت هذه الأملاك مما كان يقطعه كبار الملاك للمعابد أو ما يقدمونه إليها من أملاك طلبا لرضاء الآلهة وتجنبا لغضبهم . كان من المحظور التصرف في أموال المعابد على أي نحو ما عدا إيجار الأراضي الذي سمح به على أن تستعمل الأجرة لصالح المعبد. ورغبة في حماية أموال المعابد، فقد كان أي اعتداء على هذه الأموال بالسرقة، أو غيرها يعرض مرتكبه لعقوبة الإعدام.

تلك هي الصورة السياسية والتي كانت المهيمنة على المشهد البابلي آنذاك، اما الوضع الاجتماعي ،، تميز مجتمع بلاد بابل بكونه مجتمعا طبقيا، فقد انقسم هذا المجتمع إلى ثلاث طبقات: طبقة (الأحرار)، وطبقة متوسطة تسمى طبقة (الموشكينو) أو طبقة المتواضعين، وطبقة (العبيد) في أسفل السلم. على أن هذا التقسيم للمجتمع لا شأن له بطبقة الملوك ورجال الدين. فهؤلاء هم الطبقة الحاكمة التي تحتل القمة ولا تدخل في التدرج الطبقي . وقد مضت الإشارة إلى أن مجموعة شرائع حمورابي هي التي أشارت إلى وجود هذا التدرج الطبقي في بلاد بابل .

طبقة الأحرار -;- وهي الطبقة المتميزة بعد الطبقة الحاكمة، تتكون من الملاك الزراعيين والتجار وأصحاب الحرف، وكان أفراد هذه الطبقة يشتركون في المجالس البلدية للبلاد، وهي المجالس التي تنبعث منها كافة التنظيمات الإدارية والقضائية للدولة.

طبقة الموشكينو -;- والتي تحتل مكانا متوسطا بين طبقة الأحرار وطبقة العبيد، فقد أختلف المؤرخون في شأنها . فمنهم من ركز على الأصل اللغوي لكلمة موشكينو التي تقابلها في العربية “المساكين” مما يفيد أن أفراد هذه الطبقة كانوا من المتواضعين. واخرون من فضل عدم التورط في البحث اللغوي لأصل الكلمة مفضلا الأخذ ببساطة بالمعنى الوارد للكلمة بمدونة حمورابي وكذلك القوانين السابقة واللاحقة عليه. فهي طبقة تتكون من أنصاف الأحرار من أرقاء الأرض والعتقاء والفقراء والمساكين وصغار الجنود. ويرى البعض أن طبقة الموشكينو هي طبقة “العامة”، أي الأرقاء القدماء أو الأحرار الذين أُبعدوا عن طبقتهم الاجتماعية باعتبارهم من الأجانب . وأيا كان الأمر فقد اتفق الجميع على أن طبقة الموشكينو كانت في وضع أدنى من طبقة الأحرار، إلا أن أفرادها يتمتعون بالشخصية القانونية أسوة بغيرهم من غير الأرقاء. وبهذه المثابة يستطيع كل فرد من أفراد هذه الطبقة أن يتعاقد ويتملك الأموال بكافة أنواعها بما في ذلك العبيد. كما كان له أن يتزوج مكونا أسرة شرعية.
وقد حرصت شريعة حمورابي على وضع النصوص التي توفر الحماية القانونية المتطلبة لأموال الموشكينو. ويرى البعض أن “نصوص الحماية هذه لا تعني أن القانون قد تدخل بقصد حماية الموشكينو ولكنها تعني أن وضع الموشكينو الأدنى يحتاج إلى تدخل تشريعي لتحديد هذا المركز بمقارنته بحالة الأحرار التي تكون الحالة الطبيعية للأوضاع الاجتماعية والقانونية في صلب التشريع . وقد أعطانا قانون حمورابي عدة أمثلة توضح المركز المتوسط لطبقة الموشكينو فيما بين كل من طبقتي الأحرار من ناحية والعبيد من ناحية أخرى. فبينما لم يكن للعبد حق تطليق زوجته، فقد كان يحق للموشكينو على العكس أن يطلقها أسوة بالأحرار. على أنه بينما كان القانون يفرض على الزوج من الأحرار أن يدفع للزوجة في هذه الحالة مبلغا من النقود,, مينا ,, (وحدة قياس للوزن) كاملة من الفضة ، فان الزوج من طبقة الموشكينو لم يكن ملزما إلا بأداء ثلث هذا المبلغ. . كذلك فإذا فقأ احد عين واحد من العبيد أو كسر عضوا من أعضائه فعليه أن يدفع تعويضا هو نصف مينا فضية، بينما يجب على المعتدي أن يؤدي ضعف هذا القدر فيما لو تم الاعتداء على أحد الموشكينو. أما لو كان الاعتداء قد تم على أحد الأحرار فإن المعتدي يعامل طبقا لقانون القصاص بعقوبة (العين بالعين والسن بالسن) .

طبقة العبيد -;- توجد طبقة العبيد أو طبقة الأرقاء. وهي طبقة تمتعت بأهمية خاصة في بلاد بابل ، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن هذه الطبقة كانت تتكون من سكان بابل الاصليين، بالإضافة إلى القليل من الأجانب. والجدير بالذكر إن الرقيق في بلاد بابل كان يتبع أمه دون أبيه. فابن الحرة حر ولو كان أبوه رقيقا، وابن الرقيقة يكون رقيقا ولو كان أبوه حرا. وقد أشار قانون حمورابي إلى أن الأطفال الذين يولدون من جارية السيد يعتقون بقوة القانون هم وأمهم بعد وفاة أبيهم. أما الأطفال الذين يولدون من أبوين رقيقين فيصبحون مثلهم.
هذا عن الرق بالولادة، أما عن الرق لأسباب لاحقة على الولادة فإن قانون بلاد بابل، قد اعتبر الحرب أهم هذه الأسباب أسوة بغالبية الشرائع القديمة. فالأسير يصبح عبدا لمن أسره من الجيش المنتصر، بل أن الأباء كثيرا ما كانوا يبيعون أولادهم في سوق الرقيق نتيجة للفقر وحاجتهم للمال. كذلك فقد كانت الأحكام الجنائية سببا في وقوع المحكوم عليهم رقيقا. ومن جهة أخرى فقد أشارت وثائق الأشوريين إلى أن عدم الوفاء بالدين يعد سببا من أسباب الرق. فإذا حل موعد استحقاق الدَيْن ولم يقم المدين بالسداد يصبح عبدا لدائنه. بل وكان في قدر الدائن أن يبيع زوجة المدين وأولاده كعبيد لمدة معلومة حددها قانون حمورابي بثلاث سنوات .
وأيا ما كان الأمر فقد أُختلف المركز القانوني للعبد في بلاد بابل عنه في الشرائع القديمة الأخرى، حتى أن العبد كان يعتبر في البداية على انه من السلع الباهضة الثمن أو من فصيلة الحيوانات، إذ كان يعد في حكم الأشياء النفيسة، إلا أن تطور النظام القانوني لبلاد بابل قد سمح للعبد بممارسة بعض الحقوق التي تجعل من مركزه القانوني بوضع يختلف عن وضع العبيد في القانون الروماني في مرحلة تاريخية لاحقة.
فقد خوّل القانون للعبد أن يعترض على ثمن بيعه أمام القضاء. كما كان بائع العبد ملتزما أمام المشتري بضمان العيوب الخفية بالنسبة للعبد. وقد حدد حمورابي مدة الضمان بشهر واحد.
ومن جهة أخرى فقد حرص القانون على حماية السيد بتوقيع عقوبة الإعدام على كل من يأوي عبدا هاربا من سيده.
أن المركز الأدنى للعبد لم يصل إلى حد إلغاء كافة مظاهر شخصيته القانونية. فقد كان في إمكان العبد في القانون البابلي أن يكوّن أسرة، وبالتالي أن يعقد زواجا شرعيا. وكان يمكن له أن يتزوج من حرة ويكون أولاده في هذه الحالة من الأحرار. بل وكان يجوز للعبد أن يتملك الأموال التي تمثل بالنسبة له حوزة مالية خاصة، وهو ما سُمح له بالتقاضي أمام المحاكم. كذلك فقد كان للعبد أن يمارس الحرف التي تتفق مع قدراته وأن يضم إليه عددا من العبيد يعملون لحسابه.
حرص القانون البابلي على إضفاء حماية خاصة على الرقيقة التي تنجب من سيدها، فحرم بيعها وإن كان قد سمح برهنها أسوة بالزوجة الشرعية. ومثل هذه الرقيقة كانت تعتق بقوة القانون فور وفاة سيدها.
ويشير قانون حمورابي إلى حالة خاصة تتعلق بالجندي الذي يقع أسيرا في خارج البلاد، ومن ثم يصبح عبدا لسيد أجنبي. فإذا عاد هذا الجندي إلى وطنه بعد أن أفتداه أحد التجار، فإنه يعود حرا بشرط أن يقدم فدية إلى من افتداه. فإن لم يتمكن من أداء الفدية جاز للقصر أو للمعبد أداء الفدية المتطلبة.
أما بالنسبة لحالات عتق العبد، فقد كان يجوز للسيد بإرادته أن يعتق عبده وذلك بموجب عقد خاص أو أمام القضاء. ويشير قانون حمورابي إلى أن مراسم دينية خاصة كانت تقام لإعلان عتق العبد حيث يقرر السيد أنه لم يعد له أو لأولاده من بعده أي حق على العبد، ويشير البعض مع ذلك إلى أن المعتق يظل مرتبطا ببعض الالتزامات صوب سيده القديم أثناء حياته.
ومن جهة أخرى فقد كان يجوز للعبد أن يشتري حريته بماله، ما دمنا قد رأينا إن كان يتملك الأموال، كما كان يمكن له أن يستدين من الغير لشراء حريته، على أن يسدد دينه لدائنه بعد ذلك.
فقد كان العتق يتم أيضا كمنحة من المشرع، وذلك في الحالات الآتية:
1 – الأطفال يولدون من علاقة رجل حر بإحدى رفيقاته. إذ يعتق هؤلاء بقوة القانون فور وفاة الأب.
2 – زوجة المدين وأولاده الذين يباعون أو يرهنون. إذ يعتق هؤلاء تلقائيا بعد ثلاث سنوات.
3 – المواطن الذي يقع في الرق في بلد أجنبي ثم يتم افتداؤه بواسطة شخص آخر ويعوج إلى أرض بابل. إذ يصبح حرا بمجرد عودته.

ان شريعة او دستور حمورابي ،خصصت للاحوال الشخصية من احكام المادة 94 الى احكام المادة 127 ، والتي تخص جريمة القذف والتشهير، جريمة الزنا، أحكام الزواج والطلاق، اتخاذ خليلة الرقيق، الإبقاء على الزوجة المريضة، هدايا الزواج، مسؤولية الزوج عن الديون، قتل الزوج، الاتصال الجنسي بالمحارم، الوعد بالزواج، مصير هدايا الزواج بعد وفاة الزوجة، هبة الأب إلى ولده في حالة ميراث الأبناء، الحرمان من الإرث، الإقرار بالبنوة والتبني، أموال الأرملة وزواجها، نساء العبيد، التبني والرضاع. وفيما يلي اهم ماجاء في هذه المواد والذي تختص في نظام الاسرة من زواج والكيفية لابرامه ، والطلاق ، التبني ، الميراث، ومايتعلق من الامور التنظيمية الاخرى للاسرة ..

(( الزواج ))
لم يكن النظام القانوني لبلاد بابل، يسمح للرجل إلا بزوجة شرعية واحدة، وإن كان له أن يتخذ أكثر من جارية إذا أراد. بل وكان يمكن للجارية أن ترقى إلى مرتبة الزوجة الشرعية إذا أعلن ذلك الزوج أمام شهود وفي وثيقة رسمية. من جهة أخرى فقد انتشرت في ذلك الوقت فكرة الزوجة من الدرجة الثانية (الشقتوم). ويكون من حق الزوج أن يتخذ لنفسه زوجة ثانية على هذا النحو إذا أصاب زوجته مرضا جسيما دون أن يكون من حقه طلاق زوجته الأولى.
وتشير المادة القانونية إلى المركز الأدنى للزوجة الثانية التي يتعين عليها احترام الزوجة الرئيسة وغسل قدميها. ويرى البعض أنه كان من حق الزوج أيضا أن يتخذ زوجة ثانية في حال عدم إنجابه من زوجته الأولى أو من إحدى جارياته. ومع ذلك فلم يكن من حق الزوج الزواج ثانية في هذه الحالة إذا قدمت له زوجته الأولى امرأة حاضنة قادرة على الإنجاب.
وقد حرص القانون البابلي على حث الأزواج على عدم الزواج بزوجة ثانية وذلك لصعوبة إقامة العدل بين الزوجات. وهكذا فإن الأصل في القانون البابلي هو الزواج الفردي. أما تعدد الزوجات فهو وضع استثنائي في بلاد الرافدين.
وقد أكد قانون حمورابي على حظر زواج الأب بابنته، أو بين الابن وأمه ،أو زوجة أبيه الثانية. على أن القانون الآشوري قد أجاز للرجل الزواج من أخت زوجته التي عقد عليها وذلك إذا ماتت قبل أن يدخل بها .
وأخيرا فلم يكن الاختلاف في المركز الاجتماعي أو في الطبقة الاجتماعية حائلا يمنع الزواج بين أفراد ينتمون إلى مراكز اجتماعية مختلفة كما قدمنا ذلك، وذلك خلافا لما كان عليه الحال في مصر الفرعونية مثلا حيث كان الزواج محرما بين الطبقات المختلفة.
(كيفية إبرام الزواج)
كان دستور بلاد بابل يشترط لصحة الزواج، رضاء والدي العروسين. ويستشف ذلك مما جرت عليه العادة في ذلك الوقت من أن يقوم الأب والأم بتقديم الزوجة إلى زوجها. وليس معنى ما تقدّم أن الزوج لم يكن له حق اختيار زوجة، وإنما كان رضاء الوالدين يؤخذ في الاعتبار.
كما اجاز دستور بابل، إلى أن المرأة المطلقة أو الأرملة كانت تختار زوجها بمحض إرادتها.
وتسبق الزواج عادة الخطبة. وكانت خطبة الزوجة تتم سواء من جانب الزوج أو أقاربه. ويتم ذلك باتفاق ذوي الشأن، حيث يقدم الخطيب الهدايا إلى عروسه ثم يعقب ذلك بأداء ما كان يسمى ب “التيرهاتو”، وهو مبلغ من المال يدفعه زوج المستقبل، ولم يكن أداء هذا المبلغ إجباريا، وإن جرت العادة على أدائه (يرى البعض أن هذا المبلغ هو ثمن شراء الزوج لزوجته، بينما يؤكد البعض الآخر أن الزواج لم يكن يتم في بابل بصورة بيع المرأة). وبجانب “التيرهاتو” فقد كان الزوج يقوم بدفع “النودوتو” لزوجته، وهو عبارة عن بعض الأغراض المنزلية أو بعض العقارات لتأمين حياة الزوجة وأولادها عند وفاة الزوج. ولم يكن للزوجة حق ملكية على “النودوتو”، والذي كان يثبت عادة في عقد مكتوب، وإنما كانت ملكيته للأولاد أصحاب المصلحة الحقيقية. أما الزوجة فلم تكن لها عليه إلا حق الانتفاع . وبالإضافة إلى ما تقدم فقد كان يشترط لصحة الزواج أن يتم في وثيقة مكتوبة يوقعها الزوج حتى يلتزم بكافة الالتزامات المنصوص عليها في العقد وأن يؤدي لزوجته حقوقها في حالة الطلاق. وكان يشترط على الزوجة عدم الخيانة ويحدد العقد العقوبات التي توقع عليها إذا أقدمت على خيانة زوجها.

(حقوق المرأة في دستور بابل)
كانت المرأة تتمتع بالشخصية القانونية الكاملة، فكانت لها أموالها الخاصة، كما كانت تتمتع بحق الشهادة الكاملة كالرجل تماما، كما كان يحق لها أن تتصرف في أموالها كيفما تشاء. وقد ترتب على ذلك أنها كانت تتمتع بحق التقاضي، بل وكان يجوز لها أيضا أن تعمل بالتجارة وتمارس الوظائف الإدارية المختلفة. وبالرغم من ان بعض هذه الايجابيات الملموسة في الدستور وهي بمثابة مكسبا عظيما للمرأة في تلك الحقبة الزمنية ، والتي هي بمثابة طفرة نوعية متطورة في مجال حقوق المرأة ، الاّ ان هناك اخفاقات القانون في هضم حقوقها ، وفي كثير من فقرات المواد الدستورية نجد المتناقضات ، لنجد في معنى نصّا في القانون مثلا ، فقد كان للزوج بمقتضى سلطته الزوجية أن يرهن زوجته لدى دائنه حتى سداد الدين. ويشترط في هذه الحالة ألا تتجاوز فترة رهنها ثلاث سنوات. بل كان يجوز للزوج أن يبيع زوجته على سبيل العقاب في حالة خيانتها له.

( الطلاق )
فرق القانون البابلي بين الزوج والزوجة بالنسبة للحق في الطلاق. فبالنسبة للزوج، فقد كان القانون البابلي يسمح له بطلاق زوجته بناء على أسباب متعددة أهمها:
1 – عند ارتكاب الزوجة خطأ جسيما، حيث يحق للزوج طلاقها دون أن يكون من حقها الحصول على أي تعويض، كما كان بحق الزوج في هذه الحالة أن يستبقي زوجته عنده كعبدة.
2 – في حالة ما إذا كانت الزوجة عاقر، حيث يحق لزوجها طلاقها على أن يمنحها مبلغ من المال لمواجهة حياتها الجديدة.
3 – عند مرض الزوجة بمرض خطير، فقد كان من حق الزوج أن يتزوج أخرى مع إبقاء زوجته الأولى التي تتمتع بامتياز خاص. أما إذا هجرت الزوجة المريضة منزل الزوجية وعادت إلى بيت أهلها بموافقة الزوج، اعتبر ذلك بمثابة إعلان لنيته في تطليقها بسبب المرض، ووجب على الزوج أن يرد للزوجة أموالها وأن يتولى الإنفاق عليها.

أما بالنسبة للزوجة فقد كان من حقها الالتجاء إلى القضاء لتطالب بتطليق زوجها إذا ما ارتكب أخطاء جسيمة في حقها مثل الخيانة الزوجية.
أما إذا رغبت في ترك زوجها دون سبب مقبول فهي تعاقب بالموت، لان إقدامها على ذلك يعد بمثابة إثم لا يغتفر في القانون البابلي.

واخيرا فقد أشارت النصوص إلى حالة خاصة ،هي حالة الزوج الذي أسره الأعداء. فإذا كان الأسير قد ترك لزوجته ما يكفي من الأموال لإعالتها، فلا يحق لها أن تعاشر سواه وإلا اعتبرت زانية. أما إذا لم يترك لها ما يكفي لإعالتها فيكون من حقها الزواج في غيابه. ومتى عاد إليها تعود إليه تاركة زوجها الثاني وكذلك أولادها منه.

( التبني)
عرف دستور بابل التبني. وكان الهدف الأساسي من التبني هو معالجة انعدام الذرية. ومع ذلك فقد لجأت بعض الأسر إلى التبني رغم وجود الأطفال.
يتم التبني قانونا، بمقتضى عقد مكتوب بين الأهل الجدد (الأب أو الأم) وبين ذوي الشأن بالنسبة للمتبني، أي أهله الأصليين، وهم عادة أب الطفل أو سيده إذا كان عبدا. بل كان من المتصور أن يتم عقد التبني مع المتبنى نفسه إذا لم يكن له أسرة ينتمي إليها. وتشير القوانين إلى أن عقد التبني كان يتم في الشكل المألوف لغيره من العقود حيث يشترط الرضاء وعدم الإكراه. ويترتب على العقد أن يصبح المتبنى ابنا شرعيا للمتبني الذي تنتقل إليه السلطة الأبوية. كما يكون للابن المتبنى حق الإرث من والده المتبني، وهو ما يفيد انتهاء حقوقه الارثية صوب أسرته القديمة.
وقد رتب القانون ضمانا للمتبنى في حال تخلت عنه أسرته الجديدة. فقد نصت المادة 191من القانون على منح المتبنى إذا أُستبعد من أسرته الجديدة ثلث نصيب الولد الحقيقي من مال الأب، أي كما لو كان قد ظل موجودا في أسرة متبنية.
ومن جهة أخرى فإذا تنكر الولد المتبنى إلى أهله الجدد أو كان عاقا، فقد كان عقابه أن يوثق بالأغلال ويباع كالعبيد، ويقطع لسانه، أو تفقأ عينه إذا كان أهله الأصليون ممن يمارسون الدعارة .
وأيا ما كان الأمر فقد كان يلجأ أحيانا إلى التبني في بابل ، لعتق الرقيق أو الإقرار ببنوة الأبناء غير الشرعيين.

(الميراث)
اتسمت القواعد الخاصة بالإرث في بابل، بالدقة والعدل إلى حد ما ، فالقاعدة الأساسية التي أشار إليها القانون، هي أن أموال المتوفي تؤول إلى أولاده الذكور بالتساوي دون أن يكون هناك أي امتياز للابن الأكبر في هذا الصدد وخلافا للكثير من الشرائع القديمة. أما السبب في أيلاء التركة إلى الأولاد الذكور دون الإناث، فهو أن هؤلاء الذكور يعتبرون امتدادا لشخصية والدهم المتوفي، وهم الذين يقيمون الشعائر الدينية في إطار عبادة الأسلاف . ولم يكن من حق الأب أن يجرد أولاده خلال حياته من حقهم في الميراث. وإنما كان له ذلك فقط فيما لو ارتكبوا أخطاء جسيمة ،وبشترط خضوع هذه المسألة لرقابة القضاء الذي له وحده الرأي النهائي.
ومن جهة أخرى فلم يكن الابن بحاجة إلى إعلان قبول التركة بعد وفاة والده. وإنما كان للابن فقط أن يتقدم برغبته عند تزاحم الورثة من الأخوة وبهدف تحديد نصيب كل منهم.
كما لم يرد في الدستور البابلي اية حقوق ارثية للاناث من الاب المتوفي ، مما يفيد استبعادهن من الميراث لكون الأولاد من الذكور هم وحدهم لهم نصيب من التركة ، بتعليل أن المهر الذي يدفع للبنت أثناء زواجها كان يعوضها عن حرمانها من الميراث من أموال أبيها، خاصة وان الزوجة تظل محتفظة بملكية المهر والأموال الأخرى التي كانت تقدم لها بمناسبة الزواج.
ليس معنى ما تقدم حرمان البنت كلية من الميراث ، وفي جميع الأحوال إذ تشير الوثائق إلى أن البنت كانت ترث عند عدم وجود أبناء ذكور للمتوفي. وإن لم توجد أي ذرية للمتوفي انتقلت التركة إلى أخوته ثم لأقربائه المقربين من بعدهم.
ومن جهة أخرى لم يكن للأرملة نصيب في تركة زوجها المتوفي، إذ أن حقها يتمثل في البقاء في منزل الزوجية وتعيش بما تدره أموال المهر والنودوتو عليها من فوائد، إذ أن أموال الزوجة لم تكن قابلة إلى الانتقال بل تبقى ملكا خالصا للزوجة على نحو ما رأينا من قبل ، وإذا رأينا أن الأصل هو تقسيم التركة بين أولاد المتوفي من الذكور بالتساوي، فإن الدستور البابلي لم يفرق في هذا الصدد بين الأبناء ولو انتسبوا إلى زوجات شرعيات متعددات. ومع ذلك فان المساواة لا تنعقد بين أبناء العبيد والأبناء الذين ولدوا من زوجة شرعية، اللهم إلا إذا قام الأب أثناء حياته بتبني الأولاد غير الشرعيين. ونشير أخيرا إلى أن الأحفاد الذكور كانوا يرثون من تركة جدهم بدلا من أبائهم عن طريق الإنابة وذلك في حال وفاة الآباء قبل أبنائهم. إذ تنتقل هنا حصة الابن المتوفي قبل أبيه لأولاده.
وبنود المواد السالفة تطبق أيضا بالنسبة لتركة الزوجة المتوفاة إذا كان لها أولاد، أما إذا لم يكن لها أولاد فتعود ثروتها إلى أهلها بعد أن يقوم الزوج بخصم “التيرهاتو” الذي سبق أن أداه عند الزواج.

هذا فيما يخص بعض ماجاء في الاحوال الشخصية في الدستور البابلي ، كما تتضمن شريعة حمورابي بعض القوانين التي بلغت درجة من التقدم قلما تتوافر في كثير من التشريعات الحديثة. مثال على ذلك المادة 23 التي تقول: “إذا لم يضبط السارق فإن صاحب المتاع المسروق يقدم تفاصيل المسروقات في حضرة الإله، وعندئذ تعوضه المدينة وحاكمها التي وقعت السرقة في ناحيتها عن متاعه المسروق”. وإذا أدت السرقة إلى خسارة في الأرواح دفعت المدينة وحاكمها إلى ورثة القتيل “مينا” من الفضة كتعويض (المادة 24). هل ثمة في هذه الأيام مدينة أو دولة بلغ صلاح الحكم فيها درجة تجرؤ معها على أن تعرض على من تقع عليه جريمة بسبب إهمالها حكم التعويض؟!!!! ….

المصادر
ــــــــــــــــــــــــــــــ
شريعة حمورابي ، الاب سهيل قاشا ، لندن ،2007
شرائع حمورابي، الأب شيل، 1943
هورست كلينكل، حمورابي البابلي وعصره، 1990
ول ديورانت، تاريخ القانون، ج 2 من المجلد الأول، لندن، 1991
ابراهام . م . ليفنون ، الشعوب القديمة والقانون ،لندن، 1992

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.