يقف الإنسان مشدوها أمام السيل الهائل من المقالات حول الإنقلاب العسكري الفاشل في تركيا سيما من قبل الكتاب العراقيين، ويمكن القول بأنهم جاءوا في المرتبة الثانية في الكتابة عن الإنقلاب بعد الكتاب الأتراك أصحاب الأزمة. مع أن معظم الكتابات ليس فيها الحد الأدنى من التعقل والتحليل العلمي والسياسي الذي يضع المشكلة تحت المجهر وينظر اليها من جميع الزوايا ومنها السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والأمنية، علاوة على المؤترات الخارجية سيما العملاقين الامريكي والروسي والإتحاد الاوربي علاوة على دول الجوار.
البعض من المقالات عندما تقرأها، تشعر كأنك تقرأ مقال لراعي غنم عن ثورة المعلومات والالكترونيات، محلل ليس له أي معرفة بالشأن الداخلي التركي والأزمات الداخلية والخارجية التي تعيشها تركيا شأنها شأن بقية العالم، وهي أزمات تكاد أن لا تقارن بأزمات العراق. والغريب أن عدد المقالات عن الإنقلاب التركي فائق ما كتب عن التفجير الإرهابي الذي حدث في الكرادة، بل ان الإنقلاب التركي طغى على التفجير اللغز، الذي قدم فيه داعش حدمة كبيرة للحكومة العراقية بتحميل نفسه مسؤولية العمل، مع انه التفجير أكبر من داعش نفسه، بكل مؤشراته ومسبباته ونتائجه. كما أن ضعف التحقيقات ورفض طلب لجنه من الأمم المتحدة او الدول الأوربية لكشف اللغز، كما حصل في تفجير بيروت الذي أغتيل فيه الحريري، علاوة على طمر الأدلة بسرعة تنظيف المكان لغاية في قلب يعقوب، قد زادت الطين بله وعقدت اللغز. لكن بدلا من الضغط الشعبي على الحكومة لكشف اللغز المحير إنصرف الكتاب الى الإنقلاب التركي، كأنهم لعب عرائس تحركهم خيوط خلف الستار.
يبدو ان الطائفية ما تزال تعشعش في بعض الرؤوس الخاوية، فقد وقف الكتاب الشيعة عموما مع مختار العصر ومستشارته السليطة اللسان حنان الفتلاوي مشبهين الإنقلاب بفرحة الزهراء، ووقف الكتاب من أهل السنة ضد الإنقلاب كأنما اردوغان كان نصيرهم خلال السنوات العجاف. قلما تجد تحليلا خرج عن هذا الإطار الطائفي. الحق ان تقرأ او لا تقرأ مقالات الكتاب العراقيين أمر سواء فهي بالمحصلة لا تقدم ولا تؤخر، ولا تخرج منها الا بنتيجة واحدة وهي التأسف على ميدان الكتابه والدخلاء. في اليوم الثاني للإنقلاب العسكري ما تزال الرؤية مشوشة وكان العالم يترقب وينتظر البيانات سواء من الحكومة التركية او الجهات المعارضة لها، او الجهات الدولية. الكل متريث، ويراقب عن كثب في إنتظار المعلومات الجديدة، ما عدا العراق وكتابه الجهابذة. لعل اللوم عليهم أقل من لوم الحكومة والكتل السياسية. كالعادة كان الموقف الرسمي ضمن إطار المحاصصة الطائفية، الأحزاب الشيعية باركت الإنقلاب جهرا او سرا، والحزب الأسلامي عارضه، وهناك جهات متعقلة لم تعبر عن رأيها وهذا هو الصواب. المثير في الأمر إنه في الوقت الذي كتم النظام الإيراني فرحته الكبرى بالإنقلاب فإلتزم الصمت، لكم أقزامه في العراق وسوريا لم يتمكنوا من كتم فرحتهم.
تركيا جارة اسلامية ومهمة وقوية، وأنها تؤثر وتتأثر بالأمن في العراق، ولها قوات عسكرية على مشارف الموصل، وموقف الرئيس التركي معروف من العراق، لكن لا أحد يمكن ان يتكهن بموقف الإنقلابيين من العراق، مما يستوجب عدم التسرع في إطلاق الأحكام المسبقة، لأن نتائجها تكون وخيمة على البلاد، والعراق يكفيه ما فيه من أزمات مستديمة. كما أن الرئيس التركي مثلما كشف أعدائه في القوات المسلحة، فأنه كشف أيضا من هم أعدائه ومن هم أصدقائه من دول الجوار وبقية دول العالم. ربما المواقف المتضاربة من قبل الأحزاب العراقية فيها منفعة لأنها عبرت عن وجهات نظر مختلفة من الإنقلاب، لذا من الصعب أن ينظر الى موقف العراق كموقف موحد من الإنقلاب.
لا يستغرب المرء من تضارب المقالات للكتاب العراقيين تأييدا أو رفضا للإنقلاب التركي فجيش المالكي الإعلامي والذي يقدر بالآلاف كان يتحشد في الصف الأول لتأييد الإنقلاب بإعتبارهم صحفيون مرتزقة. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالفضائيات الشيعية ومنها العراقية التي كانت موضوعا للسخرية والتهكم بسبب بلادة مقدمي برامجها ومذيعيها وتحليلاتهم التافهة التي تعبر عن ضحالة معلوماتهم الصحفية وإصطيادهم في المياه العكرة. فقد نشروا خبرا لا احد يعرف مصدره إلا العالمين بالغيب، وهو ان الإنقلابيين يبحثون عن جرحى داعش في المستشفيات التركية، والأغرب منه ان هذه الفضائية الضحلة أظهرت العلم التونسي محل العلم التركي الذي يشبهه لحد ما في تغطيتها للإنقلاب.
في الوقت الذي فشل فيه الإنقلاب، الذي لم يستمر سوى بضعة ساعات وإستقرت الأمور لصالح اوردغان، وقد أفشل الشعب وليس الحكومة الإنقلاب كما إتضح للعيان، بخروج الآلاف الى الشوارع ومواجهتم للدبابات بسياراتهم واجسامهم كما ظهر في مقاطع الفديو، فـأن بعض الكتاب المأجورين إعتبر الإنقلاب ناجحا وفق مقاييس مخيلتهم المضطربة، والبعض إعتبره البداية موعدا بالمزيد! كأنه احد المنظرين للإنقلاب، والبعض إعتبر الإنقلاب الفاشل نهاية أكيدة لأردوغان متجاهلا موقف الشعب التركي من رئيسه. وآخر كتب” دواعش اردوغان العراقيون”. والبعض إعتبر الإنقلاب فشل عسكريا ونجح سياسيا! ومنهم من اعتبره عودة الى العقل! وكاتبة مستجدة تعتبر تركيا دولة داعش وليس العراق! وآخر تنبأ بسقوط حكومة الأخوان في تركيا، وهناك مقالات غريبة بلغت من العجب شأوا كبيرا وصفها مثل” اردوغان يركل جحش صدام”. وآخر يعاتب” اردوغان لا تحمضها”. كأن اردوعان يصنع لبنة! وآخر كتب ” فشل الإنقلاب وسقط النظام” كيف يا رجل تجمع النقيضين؟ وآخر كتب” تفكير السلطان يهدم سلطنته”، ويبدو أن الكاتب قد إنتهى توا من مشاهدة مسلسل حريم السلطان! وهناك من عكس اتجاه البوصلة مدعيا بأن الانقلاب اختراع من قبل اروغان لتصفية خصومه… وهلم جرا!
الحكمة تقول للحكومة العراقية وزعمائها الأمعيين: تعلموا السياسة وفنونها مثل بقية الدولة المحترمة، ولا تتسرعوا في الحكم على الثورات والإنقلابات إلى أن تتوضح الرؤية الكاملة، على أقل تقدير معرفة الجهة التي قامت بالإنقلاب وتوجاهتها. وبدلا من فوضى التصريحات إتخاذ موقف رسمي واحد، وليست من المعقول كل يدلي بدلوه، لقد بلغت فضائحكم الزبى!
وتقول الحكمة للعقلاء وليس للكتاب المرتزقة وجنود المالكي، اتركوا تركيا بحالها وأنظروا الى حالكم البائس، أنتم اولى بالرثاء والخزي والعار من غيركم. لقد صنع الأتراك انقلابا سواء كان بحق أو باطل، فهل أنتم قادرون على القيام بمثله؟
أن زعماءكم يسموكم الذل والهوان والفقر والجوع ويسرقون أموالكم والبلد في الحضيض وفق كل المؤشرات المحلية والدولية منذ الغزو ولحد الآن، وكل ما قمتم به تظاهرات باهتة لا تتناسب، لا مع معاناتكم، ولا مع آمالكم كشعب محترم وواعي مثل بقية الشعوب.
أتركوا تركيا للأتراك ولا تجعلوا من الطائفية الحمقاء دليلكم للحكم على أزمات الآخرين. تركيا من الدول المتطورة في العالم وفق كل القياسات الدولية ومع هذا تعرض حاكمها لإنقلاب، والعراق من أفشل الدول في العالم، ولم يحصل فيه إنقلاب على العملاء والفاسدين واللصوص. والحليم تكفيه الإشارة!
علي الكاش