في هذه الأيام تشهد المجتمعات العربية خاصة في العراق و الى حد ما مصر و حتى اكثر الأنماط المجتمعية المحافظة في الخليج و غيره اعادة انتاج لنوع من الصراعات القديمة اعتقد الباحثون لفترة ما ان التطور الاجتماعي – السياسي قد تجاوزها… نحن إذن ازاء تطور اجتماعي و سياسي و ثقافي يعيد بناء فقط الهيكليات و إنما ايضا الاسسس و المفاهيم الأولية … بالاتساق مع الطائفية الدينية و السياسية الطاغية هناك نمو ايضا لطائفية غير دينية ….. و هذا يعيد تشكيل الذهنية السياسية و الاجتماعية لان الطائفية تتعلق أساسا ببناء الحدود أكثر بكثير من الجوهر الذي يشكل البعد الاول في الخطاب التبريري و الإطار التنظيمي…
من بين اشياء كثيرة اخرى يعود الصراع المفاهيمي حول وجود الله من عدمه و الذي يفترض انقساما عموديا بين مجتمع المؤمنين و مجتمع الدهريين (مصطلح قديم يشير الى الرافضين للانتماء الديني عند العرب) … هذا الصراع كان من المفروض انه قد تم تجاوزه مع التعرف على الثقافات المختلفة و تطور مفاهيم الله و الخلق و الدين و الحياة و دور الفرد و المجتمع في ادارة شبكة العلاقات المختلفة و في خلق التصورات و مستوى الإيمان و تجسيده في التقاطعات اليومية لحياة الانسان ..
الله …في تصورات الانسان … قد انتقل من صورة القدرة المتحكمة و الآمرة و الناهية بشكل مباشر وفق سياقات العهد القديم الى الإيحاء من خلال القصص في العهد الجديد و من ثم خلال تفعيل العقل و منح الانسان القدرة على الاختيار في اطار الرسالة الاسلامية… ( نقتصر هنا في النقاش حول المفاهيم في الدينات الإبراهيمية و لا نود التحدث هنا عن ديانات الأقليات مثل الايزيدية و غيرها و لا عن الدينات الكبرى و البعيدة عن العالم العربي مثل البوذية)…
هذا الانتقال في تصورات الانسان و مفاهيمه عن القيم الإلهية كان يمكن ان يخلق نوعا من الإطار العام في الثقافة التوافقية بين البشر فيما يتعلق بالأسئلة الكبيرة حول الخلق و دور الانسان في الحياة و غيرها مع توفر فرصة الاحتفاظ بالخصوصيات و الهويات الاثنية و الوطنية … لان العلم اصبح ممكنا للجميع و المجتمعات بصورة عامة عبرت مع تطور العلم و التكنولوجيا مراحل الصيغ البدائية في جمع المعلومات و التعامل معها …. العلم اليوم يوفر للإنسان قدرات اكبر لتطوير تصوراته عن الله و علاقاته بالبشر …
لكن يبدو ان تراجعا حادا قد أعاد الانسان الى مرحلة البحث عن نفسه و عن الخلق و الخالق بمنهجية حياة الكهف و الكهنوتية التقليدية القديمة المعبرة عن عزلة الانسان قبل توسع المجتمعات البشرية و تمددها جغرافيا و تاريخيا و تخلق تراكما للخبرات و بالتالي توسيعاً لمدارك الانسان و امكانيات تفكره و تفكيره …
مما لاشك فيه ان ظروف القهر السياسي و الصراعات الدموية و الحروب و الدمار و الفقر اعادت الانسان الى بداياته الاولى يتلمس من جديد قيمة ذاته و يستكشف معنى وجوده و البحث عن اي “وتد” اخلاقي يبرر سلوكه وسط هذا التلاطم الشديد لمستوى الصراع الذي فقد فيه العقل مبرراته المنطقية و قدرته على التواصل مع الأحداث حوله…
هنا … تحول الله مرة اخرى الى “منقذ مباشر” عند البعض… و “عدو مباشر” عند البعض الاخر…. حتى السؤال التقليدي حول وجود الله من عدمه لم يعد ذو اهمية فكرية او قيمية… إنما تحول الله الى مجرد سلاح سياسي يستخدم بهذا الاتجاه او ذاك في الصراع اليومي دون عناء حقيقي في البحث عن اي تبرير اخلاقي يرتبط بشكل عميق و فلسفي مع مفاهيم دور الانسان في الحياة….
هناك منطق تبريري بدأ يهيمن على تفكير قطاع من الناس يقول: ما دام “أهل الدين” أصبحوا حزبا سياسيا يقاتل تحت شعار “الله” فلماذا لا يصطف معارضوهم في “اللا دين” يقاتل تحت شعار “لا الله” … او الإلحاد … اي اننا بشكل ما أصبحنا نشهد تغييرا نوعيا في مستوى الاحتجاج الاجتماعي و السياسي حيث حلت ” اللا أدرية” محل المنهج الأيديولوجي التقليدي الذي عادة ما يقدم تبريرات منطقية بشكل ما…
الإلحاد ليست ظاهرة جديدة في تاريخ التطور الاجتماعي للانسان…. الإلحاد هو رؤية ذاتية قائمة على قدرة العقل على الأخلاق و الإبداع و ادارة الحياة … بكلام اخر…. الإلحاد هو بقايا “إلانا الفردية” لدى الانسان في مرحلة ما قبل ظهور الأديان … و الباحثون ما زالوا يعتقدون بان الملحد هو اكثر ذكاء من المتدين … بل ان الطفل … كلما زاد مستوى ذكائه كلما زاد ابتعاده عن الارتباط بالدين… انظر المقالة المرفقة https://www.google.dk/amp/www.independent.co.uk/news/science/atheists-more-intelligent-than-religious-people-faith-instinct-cleverness-a7742766.html%3famp
لكن يبدو ان هذا المستوى العالي من التكور حول الذات يبعد الملحد من عن الإطار العام في علاقات الاجتماعية و بالتالي مستوى الارتباط بالقيم الاجتماعية و الالتزامات الاخلاق تجاه المآل اليومية لحياة الأفراد و الجماعات داخل المجتمع ….
في مقالة في جريدة الجارديان قبل ايام حول دراسة نشرت في مجلة
Nature Human Behavior
تقول ان الملحدين هم أنفسم يعتقدون إنهم غير أخلاقيين و يمكن ان يرتبط سلوكهم بالجرائم الاجتماعية اكثر من الأفراد المتدينين . ..
https://www.theguardian.com/world/2017/aug/07/anti-atheist-prejudice-secularity?CMP=fb_gu
هنا اعتقد اننا نتحدث عن قيمتين مختلفتين في مفهوم الإلحاد … القيمة الاولى هي ما ذكرناها آنفا و المتعلقة بهيمنة “إلانا العقلية” لدى الملحدين حيث يرتبط عدم التزامهم بالأعراف العامة محاولة للتمييز عن الآخرين و أكن ذاك لا يمثل بالضرورة اي استعداد سايكولوجي واقعي لارتكاب الجريمة لان غالبية الملحدين عادة يؤمنون بالحرية الشخصية و بنوع من المساواة بين الجميع …
القيمة الثانية في مفهوم الإلحاد تشير الى ظهور نواة لما يمكن ان نسميه “الإلحاد الاجتماعي”… و هذا يعني هوية سياسية- اجتماعية احتجاجية تعبر عن رفض التناقض بين القيم الدينية و الاخلاقية و السلوك المتجبر لدى الجماعات الدينية …. اي انه استحداث لمعايير قيمية معاكسة …احيانا بشكل عشوائي…فقط لإعطاء الذات هوية مختلفة تتميز بوضوح عن الغالبية المتدينة… و احيانا بغض النظر ما اذا كانت هذه الهوية الجديدة تقدم اية ضمانات منهجية عن قيم الشفافية و الحرية و عدم التناقض و الالتزام الاخلاقي قياسا مع قيم المجتمعات المجتمعات الدينية التقليدية التي تواجه تهم الانغلاق و التناقض و الرياء …
لكن حيث ان هذا التمييز العشوائي لا يمكن ان يشكل مشروعا مجتمعيا بديلا … تعمد الإلحادية الاجتماعية الى ادخال عناصر من التجربة العلمانية في مفاهيمها لإدارة المجتمع… و هذا يؤدي الى اختلاط الأوراق … السياسية و المفاهيمية… خاصة لدى الجماعات الدينية و التقليدية…
في المقالة التالية سنبحث في مفهوم العلمانية في اطار الاشكالية المطروحة….. حبي للجميع..