كامل النجار
الأديان وليدة مجتمعاتها، وبالتالي تأتي بصورة تعكس طبيعة تلك المجتمعات. عندما كانت المجتمعات تتكون من ما يسميه علماء الاجتماع hunter gatherer أي الإنسان الذي يصطاد الحيوانات ويجمع الثمار من الأشجار، كانت سرعة الحركة والتنقل من سمات تلك المجتمعات، ولذلك كان إلههم صنماً صغيراً يسهل حمله معهم أينما حلوا. وباكتشاف الزراعة واستقرار المجتمعات، بدأت فكرة الآلهة المتعددة والمتخصصة في شتى فروع الحياة الإنسانية، بخيرها وشرها. وكانت هذه الآلهة تسكن السماء. وكل الأديان الحديثة، سواء ما يُسمى منها سماوية أو فلسفيه، نتجت في مجتمعات زراعية مستقرة تعرف وتعتني بالزراعة والري، ولذلك سموا آلهتهم بأسماء تعكس هذه المتطلبات الدنيوية، مثل إله البحر، وإله السحاب وإله الخصب وما إلى ذلك.
الإسلام هو الدين الوحيد الذي بدأ في صحراء جرداء، عند قومٍ لم يعرفوا الاستقرار ولا السلطة المركزية، وتسيطر على طبيعتهم عوامل الصحراء القاسية، والتي تتطلب نصرة القبيلة لأن الفرد في صحراء الربع الخالي لا يختلف عن ذرات الرمال التي تحيط به، فلا بد له من عُصبة تحميه من الطبيعة ومن القبائل الأخرى. ولذلك قال محمد (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوما). فالانتماء للإسلام عند المسلم هو بمثابة القبيلة التي تحميه من القبائل الأخرى. ولما كانت القبيلة تعجز عن حماية الفرد من الموت والمرض والعوامل الطبيعية، احتاج إنسان الصحراء إلى قوى فوق الطبيعة وغير مرئية له لتساعده، فخلق منظومة الجن والسحر واعتقد أن الجن يستطيع أن ينصره ويضر بأعدائه، ويجلب له الخير إذا رضي عنه، أو الشر إذا غضب عليه.
ولما كان الجهل هو سيد الموقف في الصحراء، والقاعدة تقول إن فاقد الشيء لا يعطيه، جاء محمد بدين لا يفهم رائده عن الطبيعة أكثر مما يفهمه البدوي العادي، ولذلك تبنى محمد كل معتقدات قبائل الصحراء وجعلها جزءاً مهماً من دينه الجديد. ومن أوائل السور المكية في قرآنه الجديد، كانت سورتا المعوذتين (قل أعودذ برب الناس. إله الناس. من شر الوسواس الخناس. الذي يوسوس في صدور الناس. من الجِنةِ والناس). ثم (قل أعوذ برب الفلق. من شر ما خلق. ومن شر غاسق إذا وقب. ومن شر النفاثات في العقد. ومن شر حاسدٍ إذا حسد).
ولكي يثُبت لأتباعه من البدو أن الكُهان يستطيعون أن ينفثوا في الخيط ويعقدونه وتستمر تلك العقد في احتواء الشر والأذي للناس إلى أن يقرأ محمد عليها القرآن، فيبطل مفعولها، أتى بقصة مرضه الذي سببه له أحد اليهود عندما نفث في خيطٍ إحدى عشرة عقدةَ ودفنه في بئر. فمرض محمد وأوشك على الهلاك لولا مجيء جبريل بالرسالة السماوية التي كشفت لمحمد مكان النفاثات في العقد، فأخرجوا الخيط من البئر وقرأ محمد المعوذتين (ومجموع آياتهما إحدى عشرة آية) فشُفي محمد لتوه.
فبدل أن يحاول محمد محاربة السحر والدجل، كما فعلت اليهودية قبله، جارى ما وجد عليه آباءه. والمثل الإنكليزي يقول: if you can’t beat them, join them. وهاهو محمد قد شاركهم جهلهم وخرافاتهم لأنه لم يكن مؤهلاً علمياً لمحاربة الجهل والخرافة، وكما قلنا: فاقد الشيء لا يعطيه.
وزاد محمد من توطين الخرافة في مجتمعه بآيات عديدة من القرآن تؤكد وجود الجن والشياطين والسحر الذي أنزله الله من السماء وبعث به الملكين هاروت وماروت إلى بابل ليعلموا الناس السحر الذي يُفّرق بين الرجل وزوجته، فقال (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحدٍ إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) (البقرة 102).
فهاهو رب محمد يرسل الملكين ليتعلم منهما الناس ما يضرهم ولا ينفعهم. ولكن هذا الضرر الذي يحاول الساحر إنزاله بالمدعو عليه، لا يصيبه إلا بعد أن يأذن الله للسحر بالعمل. فالله شريكٌ في ضرر الناس مع السحرة. ولتوكيد مفهوم السحر والجن والشياطين، أتى محمد بسورة كاملة سماها سورة الجن، وبها ثمان وعشرون آية، أي تقل بعشر آيات فقط عن سورة محمد نفسه. وجعل محمد لهذا الجن مقدرات فائقه تجعله يسنطيع أن يغيّر حتى الوحي الإلهي، كما حدث في قصة الآيات الشيطانية (وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) (الحج 52). فكيف يستطيع البدوي مقاومة جن أو شيطان بهذه القوة والمقدرة، فليس أمامه إلا أن يقرأ عليه القرآن ليستعيذ به، وبالتالي يصبح القرآن هو المسيطر على حياته.
ثم تطور استفحال الجهل في الرسالة المحمدية لدرجة أن الإنسان العادي، وليس الكاهن فقط، يستطيع أن ينظر إلى إنسان آخر أو حيوان، فيصيبه بالعين الشريرة التي تقضي عليه بالمرض أو بفقدان ثروته أو بتطليق زوجته. وجاء محمد بآية قرآنية تؤكد هذا الخوف (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون) (القلم 51). فالذين كفروا كادت أعينهم أن تزلق محمد. يقول النيسابوري في سبب نزول هذه الآية: (نزلت حين أراد الكفار أن يعينوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصبوه بالعين فنظر إليه قوم من قريش فقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حججه ،وكانت العين في بني أسد حتى إن كانت الناقة السمينة والبقرة السمينة تمر بأحدهم فيعينها ثم يقول: يا جارية خذي المكتل والدرهم فأتينا بلحم من لحم هذه، فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر) (أسباب النزول للنيسابوري، سورة القلم، الآية 51). فلو كان فينا من بني أسد عددٌ كبير لما احتجنا لكل الجيوش العربية لحرب إسرائيل، فكان يكفي أن ينظر بنو أسد إلى الإسرائيلي فيقع ميتاً أو مريضاً.
ومن مفهوم هذه العين اللعينة ظهرت منظومة الحسد. وكالعادة جاء محمد بآيات تدعم هذا المفهوم: (أعوذ برب الفلق …. ومن شر حاسدٍ إذا حسد) (سورة الفلق). ثم أردف في سورة النساء في ذم اليهود (أم يحسدون الناسَ على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم مُلكاً عظيما) (الآية 54). مع ملاحظة أن اليهود هم نسل إبراهيم من ابنه إسحق (حسب التراث الإسلامي واليهودي)، فكيف يحسدون المُلك في أنفسهم؟
وبالطبع عشعش الحسد واستفحل في المجتمعات الإسلامية حتى أصبح المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يعلقون الخرز الأزرق على أطفالهم خوفاً من العين. وفي العراق وبعض البلدان الأخرى يعلقون على أبواب منازلهم كفاً من خشب أو غيره، به فتحة في منتصف الكف على هيئة العين، ليكف ذلك الكف عين المارة من أمام ذلك البيت فلا يحسدون ساكنيه، كأنما بيتهم قصر من قصور سليمان أو بلقيس.
ولباس الخرز، الأزرق منه والأحمر، عادات أتت إلينا من القبائل الإفريقية البدائية التي يحب أفرادها التزين بالألوان الصاخبة وبريش النعام أو ريش الطاؤوس الملون. وقد استغل عرب ما قبل الإسلام هذه القبائل البدائية وباعوهم الخرز مقابل العبيد والإماء والأحجار الكريمة. وجاء الإسلام فجعل الخرزة الزرقاء وقاءّ من العين. وقال محمد في أحد أحاديثه (إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) (الدر المنثور في التفسير بالمأثور، لجلال الدين السيوطي، ج2، سورة النساء، الآية 54). وأخرج البيهقي عن أبي هريرة أن محمداً قال (لا يجتمع في جوف عبدٍ الإيمانُ والحسد). ولذلك عندما يرى المسلم طفلاً جميلاً ويقول إنه جميل، ترتفع الأصوات ب (ما شاء الله). ولأن المسلم يردد كالببغاء دون أن يعي ما يقول، نجده يردد “ما شاء الله” دون أن يفكر فيما يقوله. فكيف يمكن لمقولة “ما شاء الله” أن ترد العين عن الصبي الجميل؟ فالقرآن يخبرنا أن السحرة الذين تعلموا من هاروت وماروت لا يضرون أحداً إلا بعد أن يأذن لهم الله. فلو كان الله قد قرر أن يصيب ذلك الطفل بالأذى من عين الحاسد، فسوف يصيبه الأذى لأن ما قدرّه الله لا يُرد. وكل شيء يحدث بمشيئته. فمقولة “ما شاء الله” فقط تؤكد أن الضرر يحدث بمشيئته، ونحن نعلم هذا مسبقاً. فلماذا تكرار هذه المقولة؟ وهذا التكرار الأعمى لا يختلف عن تهليلهم “الله أكبر”. فشبه الجملة هنا ناقص المعنى ولا يفيد السامع شيئاً. لو قالوا “الله كبير” لعرفنا قصدهم. أما أن يقولوا “الله أكبر” فلا نفهم منها شيئاً. فهو أكبر مِنْ مَنْ؟ هل هو أكبر من الشخص، أم من الصنم أم من العالم بأسره؟
وما هو هذا الحسد الذي جعل أصحاب البصات المهلهلة في المدن والقرى الإسلامية يكتبون بالخط العريض على بصاتهم (عين الحسود فيها عود)؟
(الحسد هو أن يتمنى الرجل زوال النعمة عن صاحبه سواء تمناها لنفسه أم لا، وهو حرام. والغبطة أن يتمنى لنفسه مثل ما لصاحبه وهو جائز. قال الكلبي لا يتمنى الرجل مال أخيه ولا امرأته ولا خادمه ولكن ليقل اللهم ارزقني مثله) (تفسير البغوي، ج1، سورة النساء، الآية 33). يقول الكلبي هذا وكان يجب عليه أن يستغفر الله له ولنا، لمنعه الرجل من أن يتمنى امرأة أخيه، وقد تمنى محمد امرأة ابنه بالتبني.
ويقول النسفي في تفسيره (الحسد هو الأسف على الخير عند الغير) (تفسير النسفي، ج1، سورة البقرة، الآية 83). بينما يقول الحافظ المنذري (تصعد الحفظة بعمل العبد حتى يجاوزوا به إلى السماء الخامسة كأنه العروس المزفوفة إلى بعلها فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه واحملوه على عاتقه ،أنا ملك الحسد. إنه كان يحسد الناس ممن يتعلم ويعمل بمثل عمله، وكل من كان يأخذ فضلا من العبادة يحسدهم ويقع فيهم. أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري) (الترغيب والترهيب للحافظ المنذري، ج1، افتتاح الكتاب في الإخلاص واتباع السنة). ويقول نفس المنذري (والمراد بالحسد هنا الغبطة وهو تمني مثل ما للمحسود لا تمني زوال تلك النعمة عنه فإن ذلك الحسد المذموم) (نفس المصدر، ج2، كتاب قراءة القرآن). ويقول القاموس المحيط (حَسَدَهُ الشيءَ، وعليه، يَحْسِدُه ويَحْسُدُه حَسَداً وحُسوداً وحَسادَةً، وحَسَّدَه: تَمَنَّى أن تَتَحَوَّلَ إليه نِعْمَتُه وفَضيلَتُه، أو يُسْلَبَهُما، وهو حاسِدٌ من حُسَّدٍ وحُسَّادٍ وحَسَدَةٍ، وحَسُودٌ من حُسُدٍ. وحَسَدَنِي اللهُ إن كنْتُ أحْسُدُكَ، أي: عاقَبَنِي على الحَسَدِ. وتَحاسَدوا: حَسَدَ بعضُهم بعضاً) (القاموس المحيط، للفيروزآبادي، باب الحاء).
فإذاً الحسد قد يكون تمني زوال نعمة الغير، أو تمني انتقال تلك النهمة للحاسد، أو حتى غبطة الحاسد وتمني أن تكون له نعمة كنعمة المحسود، دون زوال نعمة الأخير. ولا يختلف تعريف الحسد في القاموس الإنكليزي. فكلمة حسد envy، تعني في القاموس الإنكيزي:
Mortification or ill-will, or longing occasioned by others good fortune
وكلمة mortification تعني إماتة الجسد أو الشهوات. فالحاسد الغربي يحاول أن يقتل رغبته بما عندك، أو قد يتوق لأن يملك مثل ما تملك، وفي حالات أخرى قد يكن لك نوايا سيئة. ولكن في الغالب عندما يقول لك الشخص الغربي إنه يحسدك على عملك أو على رحلاتك فإنما يتمنى أن يكون مثلك. وفي بعض الأحيان عندما يكون عملك شاقاً، قد يقول لك أحدهم:
I do not envy you
فلا نجد هنا أحاديث عن يسوع أو موسى تهدد الحاسد بعقاب رادع، ولا وجود لملك الحسد الذي يمنع أعمال العبد من الصعود ‘لى السماء السادسة وما فوقها.
فالغيبيات اللا معقولة، مثل الجن الذي يسكن جسم الإنسان ويشاركه في معاشرة زوجته، ويستخرجه الشيخ بالضرب المبرح الذي قد يؤدي بحياة المصاب، والشياطين، وإبلبيس الذي نكيل له اللعنات صباح ومساء، والعين، والحسد، والشفاء الذي نطلبه في جرعةٍ من عسل أو كيةٍ من نار، وآيات القرآن التي نكتبها على اللوح ونمحوها بماء نشربه للعلاج، والتمرغ بأضرحة الأولياء ليخاطبوا الله نيابةً عنا حتى يمنحنا ما نطلب منه، رغم أنه يقول في القرآن (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) (لبيقرة 186)، كل هذه الخزعبلات لا نجدها إلا في الإسلام. فهل هناك أي أمل في أن تتقدم هذه الأمة لتلحق بركب الحضارة؟