بات الإكثار من عدد الشهداء دليلاً على أصالة هذا الحزب أو تلك الجماعة، فحسب مختصين بعلم النفس: عندما يُقال حزبياً: «الشَّهيد السَّعيد»، و«عرس الشهيد»، فالمقصود ليس الشهيد، وإنما لاستخدام دمه في الكسب الحزبي، بتجميل وتبجيل العمل الجهادي، وثمرته «الشهادة».
يُعبر دعاؤهم «اللهم أُرزقه الشهادة» عن التزهيد بالحياة، مع أنها في الدين مقدسة. اشتهر على ألسنة الناس: «لهدم الكعبة حجراً حجراً أهون من قتل مسلم» (العجلوني، كشف الخفاء ومزيل الألباس). يستشهد لأجل أن يُرزق مُجنِّدوه ترف الدنيا، ونتائج ما حدث بالعراق تؤكد ذلك. تجد خطباء تجنيد الشهداء «أفصح من سَحبان»، وسَحبان هذا كان إذا خطب يسيل عرقاً، ولا يتوقف حتى يقعد (الميداني، مجمع الأمثال). لم نجد خطيباً مُجنِّداً لقوافل الشباب قد استشهد، أو استشهد ولدٌ له.
أعطت المعارضة العراقية الإسلامية السابقة -السلطة اليوم- برهاناً على أن الشهيد وسيلة لتعظيم مكانة الحزب، لهذا سارعت إلى تسجيل ما قدرت عليه، لصالحها، مِمَن قُتل أو توفي في السجون شهيداً، ولا يمت بصلة لها. فحصل أن ضُمت أسماء المعدومين من الحزب الشيوعي العراقي (17 مايو/أيار 1978) الخمسة والثلاثين إلى الحركة الإسلامية، بينما كان يوم إعدامهم مشهوداً.
من تلك الأسماء لاعب كرة القدم ومفوض الشرطة بشار، والضابط أحمد العلي، وإسماعيل عبد الحسن طاهر، وأحمد قادر خارلية، وساميدا خاذم، وعامر سلطان الهيتي وآخرون، ثَبتَ ذلك عضو «حزب الدعوة» رجل الدِّين حسين بركة الشامي في كتاب «المرجعية الدينية من الذات إلى المؤسسة» (الصادر عن مؤسسة دار الإسلام- لندن 1999)، ضُمت الأسماء تحت عنوان: «قائمة بأسماء شهداء الحركة الإسلامية في العراق»، وكتب المؤلف في حاشية القائمة الآتي: «اعتمدنا في هذا الملحق على ملف من شهداء الدعوة الإسلامية في العراق الصادر عن المركز الإعلامي لحزب الدعوة الإسلامية بتاريخ ربيع الثاني 1401هـ». بمعنى أنهم حسبوا شهداء لحزب الدعوة، مثلما عُلقت صور لمعدومين بنواحي العراق على أنهم من أعضاء هذا الحزب، وهم ليسوا كذلك. لم يصحح حزب الدعوة ولا المؤلف تلك المعلومات على الرغم من التنبيه إليها، وقبل سقوط النظام السابق.
فُسر هذا الضَّم، في أيام المعارضة، بدعم العمل الجهادي، كلما زاد عدد الشهداء علت مكانة الحزب، لكن بعد السلطة وتأسيس مؤسسة الشهداء صاحبة الأموال، أخذ الأمر معنى آخر، أو هكذا يُخيل لمن يستعظم حجم الفساد الحاصل في المجالات كافة، وكيف استخدمت أسماء الشهداء في التنافس الانتخابي. فبعد التجربة، هل يؤخذ ذلك السلوك بحسن النية، أم أن القوم كانوا يعدون العدة، ليصل الأمر إلى تحريم فضل الشهادة على غيرهم؟
تحولت مساحات واسعة، بقوة «الشهادة» وكرامتها، لبناء أضرحة فخمة تنافس ضريح علي بن أبي طالب نفسه، وبحظوة الشهداء أُهديت عقارات وأراضٍ، وسُجلت رواتب لمجهولين، فمَن قُتل وهو يُقاتل الجيش العراقي أصبح شهيداً، له حق الراتب وبقية الامتيازات، بينما خَفت وهج شهداء الجيش العراقي، وكانوا في الزمن الماضي يعيشون في الأذهان تحت راية «الشهداء أكرم منا جميعاً»! وماذا عن قتلى الأكاديميين والأطباء وضباط الجيش والطيارين، إلى تفجيرات الأسواق والمقاهي الرهيبة، وضحايا أجهزة كشف التفجيرات الفاسدة؟ من القاتل وما صفة القتيل؟!
كم شهيداً في زمن صار مجرماً في زمن آخر، فلكل زمن عراقي شهداؤه ومجرموه، إنه تبادل المواقع، وإزاحة المقدس للمدنس وبالعكس، كانوا مجرمين في عهد فصار يحتفل بهم شهداءَ في عهد آخر، لكن ما قبل (2003) كان يُكتفى بالمعنويات مِن دون المبالغة بالماديات، فلا تشييد أضرحة، ولا لذويهم وتنظيماتهم عقارات وهبات، ربما تُستثنى بدايات الحرب مع إيران، فما زالت هناك بقية فصل بين المال العام والخاص، تلك التي انهارت تماماً خلال (14) عاماً الأخيرة.
لقد ملّ العراقيون من سماع عبارة «أعطينا الشهداء»، أو «ثمن دم الشهداء»، حتى صارت لفظة «الشهيد» تعبر عن الاستحواذ والهيمنة، مع أن ثمن «الشهادة» لا يخص القتلى بشيء، إنه إرث للأحياء، فالمحتفلون بـ «الشهيد السعيد» عيونهم على شهادة آخرين، من الذين جندهم الخطباء للقتال خارج العراق، ليعودوا في توابيت، يجري تشييعهم بسعادة من قِبل خطباء الموت.
هكذا تستخدم «الشهادة» لجذب آخرين، في حفل «زفة الشهيد»، فمن يُقتل جزاؤه، من غير الجنة، مهرجان عرس لائق ثمناً لدمه. ليس أكثر من تغني شعراء العراق، الفصحاء والشعبيين، بالشهداء، تُنشد عادة في مهرجانات الموت، ويوهمنا الجواهري (ت 1997) أمراً عندما قال: «خلفتُ خاشية الخنوع ورائي/ وأتيتُ أقبس جمرة الشُّهداء» (دمشق، عدنان المالكي 1956)، نقصد ما يقتبسه مشايخ الجماعات المسلحة مِن مغانٍ وأطيانٍ.
* نقلا عن “الاتحاد”