الشرق الاوسط
تطرح إذاعة الـ«بي بي سي»، التي هي مؤسسة بريطانية شبه رسمية، قضايا عربية لا تطرحها أي إذاعة وطنية أو محلية. هموم الناس لا هموم الدول أو الأحزاب. حياة العرب لا حياة «زعمائهم». يوميات أطفال الشوارع في مصر لا يوميات «الإخوان». بكلام آخر، الـ«بي بي سي» هي الإذاعة «الوطنية» الوحيدة في العالم العربي.
وتفتح أيضا باب النقاش السياسي، من جنوب السودان إلى جنوب اليمن، لكن الشتم ممنوع، والضرب ممنوع، وتبادل الاتهامات والتوصيفات ممنوع. ويعطى للمتناقشين وقت متوازن وحرية موزونة، وإذا كان لمقدم البرنامج رأي في الموضوع فعليه أن يبقيه لنفسه، لأنه مضيف لا مشارك.
كانت الـ«بي بي سي» العربية تجربة مرموقة في معظم مراحلها، ونموذجا تحاول الإذاعات تقليده. أدت للغة العربية مساهمات لم تؤدها إذاعة أخرى. وأدت للفنون والآداب العربية خدمات جليلة. وعندما لم يكن الترانزيستور قد شاع ولا آلات التسجيل، تعرف العرب من خلالها إلى بعض إبداع المقرئين.
بسبب التحول المرضي والمشين نحو السياسة في العالم العربي، اختصرت الـ«بي بي سي» الكثير من برامجها الأدبية والفنية الراقية. وسايرت العرب في فورانهم، لكن ليس في هياجهم. وامتنعت عن التحريض. ولم تفتح الباب أمام مشاركين مجهولين يقولون ما يشاؤون في من يشاؤون بلا أي مسؤولية أو حدود أو أصول.
كانت الـ«بي بي سي» مدرسة تخرج فيها معلمون كثيرون، طوروا بدورهم إذاعات كثيرة في لبنان والكويت والخليج. صف طويل من الفلسطينيين الذين جاءوا مع الإذاعة من مقرها الأول في حيفا: رشاد البيبي وكامل قسطندي وناهدة فضلي الدجاني وشريف العلمي وصبحي أبو لغد، وغيرهم من الرواد الذين تخونني ذاكرتي في أفضالهم.
كان العرب يهاجمون استعمارية الـ«بي بي سي» في العلن ويطلبون منها الخبر الصحيح في السر. تقول السيدة تحية عبد الناصر (زوجة جمال عبد الناصر) إنها عندما أرادت أن تعرف ما الوضع الصحي الحقيقي لزوجها، توجهت مع ابنتها إلى الراديو وأدارته على محطة «بي بي سي». كنا نسمعها دائما ونخاف من سماع خبر سيئ، لأنه سوف يكون صحيحا.
وكان غسان تويني يقول إنه تعلم من كامل مروة الإصغاء إلى أخبارها في الطريق إلى المكتب لكي يعرف أهم أخبار ذلك النهار. ومنه تعلمت أن أسمع برنامج «عالم الظهيرة» في الطريق إلى العمل. لكن أجمل ما تركته في ذاكرتنا «قول على قول» للغوي الكبير حسن الكرمي.