عرف لبنان في نهايات القرن الماضي محاولات للبحث في أصول الإسلام العقائديّة. وتصدّى لهذه المحاولات لاهوتيّون مسيحيّون، وعلماني مسلم شيعي، بلغة لا تخلو من تعصّب. وهكذا، برز إلى العلن مجموعة أعمال أهمها قس ونبي: القس هو ورقة بن نوفل، والنبي هو محمد.
كان جوهر تلك الأعمال هو مقولة أن الإسلام هو النصرانيّة أو الإبيونيّة بلغة عربيّة. وطبعاً لم يأت ذلك الطرح من فراغ: ثمة مسألتان هامتان يمكن أخذهما بعين الاعتبار – الأولى، هي أن التسمية مسيحيين لم ترد قط في النصوص الإسلاميّة المقدّسة، بل نصارى. ونصارى التي يستخدمها اليهود حتى اليوم، ليس دون مبرّر، كانت التسمية التي أطلقت على من اعتبر من اليهود أن يسوع ابن مريم هو المسيح المنتظر. وحين يقبل اليهود بالتسمية ” مسيحيين “، فهم بالتالي يقبلون بأن يسوع هو المسيح، وأتباعه مسيحيّون. وفي اعتقادنا أن اعتماد أتباع يسوع التسمية مسيحيين، كما ورد في سفر الأعمال، هو الخطوة الحاسمة التي ميّزت الانشقاق المسيحي المطلق، على يد بولس، عن اليهوديّة. الغريب أن الإسلام، رغم إيمانه بأن يسوع [ عيسى ] هو المسيح، يرفض ذلك ضمنيّاً حين يتبنى المصطلح اليهودي الذي ينكر على يسوع أنه المسيح. يبقى السؤال: من أين أخذ المسلمون الاسم ” نصارى “؟ وهل كان ثمة احتكاك مباشر بين الإسلام الأولي والنصرانيّة؟ من ناحية أخرى، فإن أخبار النصارى تختفي من القرن الخامس وما بعد، ونحن نعرف أن النصارى كانوا محاطين باليهود الأعداء من الغرب، وبالمسيحيين الرافضين لهم من الشمال والشرق – فهل أن اختفاءهم يعني أنهم انتقلوا، مع عقائدهم وأناجيلهم، إلى الجنوب، أي إلى جزيرة العرب؟
الحقيقة التي لا ريب فيها أن معرفتنا بالنصارى ومن ثم الإبيونيين هي معرفة غير مباشرة، جاءت كلها من أعدائهم. كذلك فهي معرفة محط شك لأنها متشظيّة، تفتقد أدنى أشكال التواصليّة. بالمقابل، فإن التاريخ الإسلامي يفتقد بالمطلق إلى أية إشارة إلى الإبيونيين، بما في ذلك التسمية. ونحن بالتالي لا نستطيع اعتبار أن ورقة بن نوفل كان قس الإبيونيين في مكّة؛ ونقيم على تلك الحبّة قبّة من أساطير. ولأننا قدّمنا قبل سنوات كتاباً كاملاً عن النصارى، لا بأس اليوم من اجتزاء بعض معلومات منه حول الإبيونيين، في محاولة جديدة للدخول إلى تلك الحلقات المفرغة من تاريخ الشرق الأوسط.
إبيوني: الاسم
” أبيوني ” أو ” أفيوني ” אביוני تعني بالعبريّة: ” فقير، محتاج، بائس، متسوّل، أو معدم ” ( קוגמאן٠מלון עברי־ערבי ). وهكذا، فإن معنى ” أبيونيين ” أو بالعبريّة ” أفيونيم אביונים “، الناس الفقراء. وقد قال أحد المراجع إن أصل التسمية ” سامي ” [ مع تحفظنا على التسمية ]، دون تحديد لأي فرع من فروع الساميّة ترجع أصول الكلمة.
كان أوّل من استعمل هذه الكلمة أسقف ليون المسيحي، إريناوس، الذي عاش في مدينة ليون، في بلاد الغال الفرنسيّة، وذلك في عمله الضخم،
” ضد الهرطقات I,xxxvI, 2 ”
، عام 185 تقريباً.
قد تكون التسمية ” إبيونيين ” لقباً تشريفيّاً أعطي لجماعة مسيحيّة أصيلة، من جذور يهوديّة؛ عاشت في القدس، وكانت بأمسّ الحاجة لمساعدة المسيحيين في كافة أرجاء الامبراطوريّة الرومانيّة ( راجع: روم 25:15؛ 2 كو 12:9 ).
ربما أن الأبيونيين، أو الفقراء، أخذوا اسمهم من بركات المسيح في الموعظة على الجبل: إشارة إلى اعتبارهم لأنفسهم من يمثّل حقّاًً تلك الموعظة. لكن للتسمية مضامين أخرى إضافيّة.
يقال أيضاً، إن بعض الكتّاب المسيحيين استخدم اللفظ، بشكل تهكّمي، لتعريف الجماعة؛ في إشارة منهم إلى ” فقر ” الفهم عند الابيونيين، الذين لم يكونوا يؤمنون أن المسيح إله ابن إله: ” تسمّوا هكذا من فقرهم مالاً أو معتقداً… لأنهم إذا اعتقدوا بالمسيح سفيراً لله ومعطى قوّة إلهيّة، تصوّروه إنساناً مولوداً حسب الطبيعة ابن يوسف ومريم. واعتقدوا أن ناموس موسى الطقسي واجب ليس على اليهود فقط بل على كل من يحب نوال الخلاص ولهذا ينظرون إلى ماري [ مار ] بولس مضاد الناموس العنيف بالكره، ولم يكتفوا بالطقوس التي عيّنها موسى بل حفظوا بذات الوقار طقوس سلفائهم الخرافيّة وعوائد الفريسيين التي أضيفت إلى الناموس ” ( يوحنا لورنس فان موسهيم، تاريخ الكنيسة المسيحيّة، 49 ). وهكذا، في حين اعتبر الابيونيّون اسمهم دليلاً على زهدهم ورهبانيتهم، استعمله أعداؤهم، بشكل سافر، للسخرية من فقر لاهوتهم وهزالته.
قال الكاتب المسيحي، هيبوليتوس الروماني، في عمله،
” دحض كلّ الهرطقات 23, VII
“، إنّ الابيونيين أخذوا اسمهم عن إبيون
Ebion،
مؤسّس حركتهم. لكن لا يوجد دليل يؤكّد هذا الزعم.
المسيح والبيئة اليهوديّة:
يعرف عموماً أن المسيح عاش في بيئة يهوديّة؛ وأن أهله وتلاميذه وكل من تبعه تقريباً كان ينتمي إلى تلك البيئة. لذلك، ليس من الغريب أن نجد طائفة يهوديّة-مسيحيّة في آن، خاصّة وأنه قد يصعب على اليهودي المتحول إلى المسيحيّة التخلّي عن معتقداته القديمة والالتزام بأخرى جديدة؛ أقلّه، بسبب هذا التناقض الصارخ بين التوحيد اليهودي المطلق والتثليث المسيحي. فيهودي عايش يسوع-المسيح، أو سمع بأفعاله أو أقواله تواتراً، قد يصعب عليه المحافظة على السلبيّة حيال تلك الظاهرة الأهم في التاريخ الفلسطيني، مثلما يصعب عليه بالمقابل التخلّي عن شريعة تربّى في أحضانها حتى صارت جزءاً منه. لذلك يلجأ إلى حل توفيقي، هو مزاوجة المسيحيّة باليهوديّة.
كان أصل الإبيونيين وتاريخهم وسماتهم المميزة وعقائدهم محط نقاش قوي في القرن الماضي. ويحتمل أنهم ظهروا مع بدايات المسيحيّة، حين كان معظم المسيحيين من أصل يهودي؛ وقد حافظ بعضهم على العمل بالشريعة الموسويّة. وهذه الجماعة ازدهرت مع بداية تأسيس الكنيسة المسيحيّة. لذلك يقول عنهم إيريناوس، إنهم طائفة يهوديّة – مسيحيّة [ بالتعبير الإسلامي: يهود متنصّرون ]. هنالك من يقول إنهم انفصلوا عن صفوف المسيحيين ذوي الأصل اليهودي، في القدس: ” تفرّعوا عن كنيسة أورشليم وتفرّقوا مبشّرين أن المخلّص هو ابن يوسف وأن بولس مرتد عن الدين القديم، متمسّكين بالانجيل إلى العبرانيين متمسّكين بالناموس، متخذين أورشليم قبلة لهم في صلاتهم ” ( أسد رستم، تاريخ كنيسة أنطاكية، 33 ).
إذن، كانت جماعتهم الأولى مكونة من يهود حافظوا على معظم التقاليد القديمة والأعراف اليهوديّة؛ مع إيمانهم بيسوع كمسّيا [ مسيح أو مخلّص ] للشعب اليهودي؛ لكن الأخير في نظرهم كان مجرّد كائن بشري؛ وكانت تلك الجماعة صغيرة للغاية.
يقال أيضاً إن أصل الإبيونيين، كطائفة، غامض جدّاً؛ لكن يمكن أن نؤرّخ لهم، على الأرجح، مع مرسوم هارديان
Hardian،
الذي مزّق كنيسة القدس القديمة، عام 135. في حين يرى آخرون أن ظهور حركة الإبيونيين كان بعد تدمير هيكل أورشليم في القدس، عام 70.
من كلّ ما سبق نرجّح أن الإبيونيين هم أوّل حركة مسيحيّة داخل اليهوديّة؛ لكنها حركة تمّ تجاوزها فيما بعد، حين تكيّفت المسيحيّة مع تدفّق تبدّلات غير يهوديّة الأصل.
صار الإبيونيّون، في نهاية لأمر، جماعة متميّزة. وفي حين كانت الفئات المسيحيّة ذات المنحى الخاص، خاصة مع انهيار وشائجها القديمة، مثل أرسطو الذي من بيلا [ الفحل الأردنيّة اليوم ] أو الهجسبونيين، تتمثّل الكنيسة الرسميّة تدريجيّاً؛ كانت تلك الفئات الأكثر محافظة – ومنهم الإبيونيّون – بالمقابل، تزداد عزلة وابتعاداً. من هنا، ومع بروز الكنيسة الرسميّة وترسخ جذورها، رُفض هؤلاء بوصفهم هراطقة، مثلما رُفضت جماعات أخرى، كالغنوصيين مثلاً. وهكذا نجد أنهم يدخلون ضمن تلك الجماعات التي يسميها التلمود أحياناً ” مينيم ” أو هراطقة.
بعد ابتعاد الإبيونيين عن التيار الرئيس في المسيحيّة، طوّروا نوعاً جديداً من الفريسيّة. وبدا واضحاً للعيان أنهم رفضوا لاهوت المسيح، عقائديّاً، أكثر من كونهم قبلوا به. فصاروا بالتالي الورثة الطبيعيين لليهود، الذين طالما أغضبوا بولس الرسول، في بداية المسيحيّة، وسببوا له متاعب جمّة، برفضهم لتحرره من الناموس الموسوي.
الإبيونيّون بين المسيح والناموس الموسوي:
رأينا أن الإبيونيين جماعة يهوديّة قبلت بيسوع الناصري كمسيّا، أو مسيح أو مخلّص. وقد حاولت تلك الجماعة تحسين علاقاتها مع اليهود والمسيحيين على حد سواء، لكن أحداً لم يقبل بها.
يقول إيريناوس إن الإبيونيين كانوا يؤمنون بإله واحد، خالق، علّمهم أن يسوع، الذي هو بنظرهم ابن مريم ويوسف النجّار، هو المسيح، الذي مُنح، برأيهم، قوى عجائبيّة. ويعترفون أنّ العالم صنعه الإله الحق، مقابل عالم الشيطان الغنوصي.
تمسّك الإبيونيّون بالشرع اليهودي، كالختان؛ وأحيوا الأعياد اليهوديّة، كيوم كيبور، إضافة إلى احتفالهم بالبيساح [ الفصح ] اليهودي مع اليهود؛ ويقال أيضاً إنهم كانوا نباتيين، لكن بعضهم يقول إنهم التزموا فقط بقوانين الطعام اليهوديّة، كالامتناع عن تناول لحم الخنزير. ويقال أيضاً إنهم كانوا يؤكّدون على الفقر والزهد والاغتسال الدائم بشكل طقوسي. لكنهم رفضوا بالمقابل القرابين اليهوديّة والهيكل اليهودي. كانوا يبرّرون التزامهم بالشرع اليهودي بأن يسوع ذاته لم يخالفه. فهم يؤمنون أن يسوع صار مسيحاً لأنه أطاع الشرع اليهودي. ويؤكّدون بالتالي أن كل من يلبّي متطلبات الشرع، بالطريقة ذاتها التي لبى بها يسوع تلك المتطلبات، سوف يصبح مسيحاً مثله تماماً. من هنا يتضح لنا عمق إيمانهم بمبدأ الخلاص اليهودي، الذي لا يكون بغير مراعاة قواعد الشرع. مع ذلك، كان الإبيونيّون يحذفون من التوراة ما يعتقدون أنها ” كلمات مدسوسة “، كي تتناسب مع تعاليمهم.
اعتبر الإبيونيّون يسوع نبيّاً، ورجلاً استثنائيّاً في سلسلة أنبياء اليهود، وذلك بحسب الوصف الوارد في تثنية الاشتراع ( 15:18 ). المسيح، بنظرهم، ليس ابن الله. ومع أنه ليس إلهاً، إلاّ أنه مكرّس كمسيح. وكما قلنا، فقد وصل يسوع إلى هذه المرتبة بإطاعته لشريعة موسى. والتكريس تمّ حين عمّده يوحنا المعمدان [ النبي يحيى ] في نهر الأردن. إذن، باختصار، يسوع عند الإبيونيّين، إنسان يشبه بقية الناس في كلّ شيء.
تقول المسيحيّة الأرثوذكسيّة إن المسيح يسوع، بوصفه إلهاً-لوغوساً-كلمة، كان ” في البدء “. وبالتالي فهي تعترف بوجود للمسيح سابق على حمل مريم به: وهذا ما ينكره الإبيونيّون بشدّة. فإنكارهم لألوهة يسوع أوصلهم إلى إنكار أي وجود له قبل حمل مريم به.
يقول أوريجانس في عمله،
” Contra Celsum, V,61 “
، إن الإبيونيين ينقسمون إلى جماعتين في نظرتهم إلى ولادة يسوع من عذراء: فكما أشرنا، هنالك فئة تعتقد أنه ابن يوسف ومريم، ولا تقرّ بالتالي أنه مولود من عذراء؛ ثم جاءت فئة بعدها أقرّت بولادته من عذراء. لكن أوسابيوس أشار إلى أنه حتى أولئك الذين قبلوا بولادته من عذراء، رفضوا أي وجود-سابق ليسوع كلوغوس أو صوفيا.
بولس وإنجيل الإبيونيين:
لبولس الرسول دور أساسي في تحديد وجهة سير المسيحيّة الأرثوذكسيّة. لكن الإبيونيين يتبرّأون منه بشدّة، لأنه، كما يقولون، شوّه سمعة الشرع اليهودي، الذي ارتد عنه. هذا يعني أنهم يرفضون القبول بوجهة نظر بولس القائلة إن الختان والالتزام بالشرع اليهودي غير ضروريين للمسيحي إذا اعتمد. وهم بالتالي لم يسيروا في هدي كنيسة القدس المسيحيّة. بالمناسبة، يمكن أن نذكر أن موقف الإبيونيين من الشرع اليهودي، يتناقض تماماً مع موقف الجماعة المرقيونيّة
Marcionites
التي رفضت أية علاقة مع اليهود، بما في ذلك العهد القديم.
للإبيونيين مجموعتهم الخاصّة من الكتابات المقدّسة؛ وقيل إن العهد القديم الذي استعملوه ليس من أصل عبراني ولا هو الترجمة اليونانيّة الشائعة بين المسيحيين، بل هو ترجمة سيماخوس
Symachus
اليونانيّة. وعن الأخير يقول المؤرّخ الكنسي أوسابيوس، إنه هو ذاته كان إبيونيّاً.
كان للإبيونيين إنجيلهم الخاص؛ لكن من المستحيل إعادة بنائه. ويذكر الكتّاب القدماء ثلاثة أناجيل يهوديّة-مسيحيّة؛ لكن بسبب الطبيعة المتشظّية لمعلوماتنا، يصعب أن نميّز بوضوح بين هذه الأناجيل. قد يكون إنجيل الإبيونيين، والتسمية هنا محدثة، شبيهاً بإنجيل متّى؛ لكنه لا يتضمّن حكاية الولادة من عذراء ولا طفولة يسوع.
يرى بعضهم أنه لم يكن لدى الإبيونيين أي من الأناجيل المعروفة؛ بل اعتمدوا النسخة ثقيلة اللغة من إنجيل متّى. ويرى آخرون أن الإبيونيين وجدوا بمرور الوقت أنه حتى إنجيل متى غير مرض، فقاموا بتطوير أدبهم الخاص، ويضم إنجيل الإبيونيين والنصارى. وكما نتوقع، يرفض الإبيونيّون رسائل بولس باعتبارها كتابات رجل مرتدّ.
يمكننا حلّ هذا التناقض بين المراجع في مسألة الإنجيل الذي اعتمده الأبيونيّون، عبر اعتبارنا أن التسميات العديدة تلك إنما تشير إلى كتاب واحد، هو إنجيل متى العبراني. وقد نُشرت منه نتف أكثر من مرّة [ راجع كتابنا: النصارى ] باللغة العربيّة. وكان إيريناوس قال، إنهم يتمسّكون بالنسخة الآراميّة من إنجيل متّى.
بقي أن نذكر أنّ أفكاراً ألفيّة [ اعتقاد بأنه في نهاية الألف عام، سيأتي زمن سعيد ] متطرّفة استحوذت على تفكير الإبيونيين، كانت فيها القدس مركزاً محوريّاً: إنها عاصمة المسيّا [ المخلّص ] الآتي. من هنا، فقد احتلت القدس عندهم مكانة رفيعة. وكانوا يعتبرونها الهيكل ذاته.
الأبيونيّون وجماعات أخرى:
حدّثنا أسقف قبرص، ابيفانيوس، عن جماعتين منفصلتين، هما الإبيونيّون والنصارى. لكن الاسمين، في الواقع، يشيران إلى الشعب ذاته: أي المسيحيّون السوريّون من أصل يهودي. التسمية نصارى ترجع إلى زمن الرسل: في حين أطلقت التسمية الإبيونيين على النصارى في الأدب الكهنوتي من القرنين الثاني والثالث. مع ذلك، ثمة ما يبرّر التقسيم النصراي الإبيوني، ألا وهو اختلاف الطرفين في درجات الفكر الخريستولوجي ( علم المسيح ). لكن قسماً معتبراً منهم بدّل عقيدته البسيطة، عند نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث، بمجموعة عقائد غريبة، هي مزيج من الأسينيّة والغنوصيّة والمسيحيّة.
يضيف أحد المصادر إلى الإبيونيين والنصارى جماعتين أخريين، هما السيماخوسيين والكسائيين؛ ويرى أنه من الصعب تمييز طائفة عن أخرى، هذا غير أن أيّاً من تلك التسميات لم يكن لها ثبات مبدأي. مع ذلك، وكما أشرنا من قبل، فقد اعتبر أوسابيوس أن سيماخوس إبيوني. الإبيونيّون هي أكثر تلك التسميات شيوعاً؛ وربما أنه مصطلح نقدي لأي شكل من أشكال اليهوديّة المتنصّرة، التي تضع نصب عينيها احترام الشريعة الموسويّة. ومع أن الكتابات المسيحيّة الأولى الموجهة ضد الهرطقات ربطت بين الإبيونيين وجماعات هرطقيّة أخرى، كالغنوص مثلاً، إلا أن الإبيونيين تميّزوا بوقفهم من الشرع الموسوي. وكما كشفت مخطوطات البحر الميت، فإن معظم سمات مذهبهم ظهرت عند جماعة قمران الأولى.
الإبيونيّون في المصادر التاريخيّة:
توحي المعلومات التي بين يدينا عن الإبيونيين، والتي جاءتنا من شذرات من كتب متنوعة عبر قرون ثلاثة، تبدأ بمنتصف القرن الثاني حتى منتصف القرن الخامس، أن للطائفة تاريخاً مستمرّاً، كجماعة متميّزة، منذ الفترة الأولى.
كان أوّل من ذكرهم، بشيء من التسامح، يوستينيوس الشهيد النابلسي، عام 160؛ مع أنه لم يذكرهم بالاسم. وبعد ذلك راح أكثر الكتّاب المسيحيين الأوائل يناقشون موضوعهم بحدّة متزايدة: من هؤلاء الكتّاب، نذكر: ترتوليانوس، إريناوس، هيبوليتوس، أوسابيوس وأغسطينوس. من مناقشة الإبيونيين عند هؤلاء الكتّاب يمكن لنا أن نستنتج أنهم لم يكونوا متفقين فيما بينهم؛ فقد كان من بينهم جماعة واضحة الغنوصيّة؛ كما أنهم اصطدموا، وإن عن بعد، بالكنيسة الأرثوذكسيّة، حتى القرن الرابع. وبعدها اختفوا عن الأنظار.
رغم الحديث عن تاريخ إبيوني متواصل، إلا أن ذلك عصيّ على التوثيق. لكن إصرار المؤرخين على وجود شعب يدعى بالإبيوني، هو الدليل الأوضح على وجود جماعات، ضمن المسيحيّة، كانت تعتقد أنه يمكن للمرء أن يكون مسيحيّاً، ويطبّق مع ذلك الشرع اليهودي، رغم الفجوة غير العاديّة بين اليهوديّة والمسيحيّة.
كانت قوة الإبيونيين الكبرى في مناطق إزدهار اليهوديّة، في سوريا الكبرى. وأهم بلداتهم بيلا، التي عاشت فيها جماعة منهم ادعت أنها تنحدر من فئة مسيحيّة أصيلة، اعتقد أنها فرّت من القدس، زمن الحرب مع الرومان، عام 70.
شهدت اليهوديّة المتنصّرة حركة انبعاث جديدة عند نهاية القرن الرابع. وقد شجع على ذلك الحس المسياني القوي عند اليهود، ومحاولة الامبراطور يوليانوس إعادة بناء الهيكل في القدس. راح اليهود يأملون بالعودة وإعادة بناء الهيكل وتجديد الأضاحي – رموز العصر المسياني. لكن شيئاً من هذا لم يحدث.
نبيل فياض