ناهد بدوية : الحوار المتمدن
اعتاد بعض الناشطين والناشطات المولودين والمولودات في أوساط علوية، اعتادوا على تكرار جملة: أنا لست من الأقلية، أنا من الأكثرية السورية، وذلك في محاولة مشروعة منهم لأن يعلنوا انتماءهم السوري رفضاً ورداً على الفعل المنظم بنذالة منقطعة النظير من قبل النظام لوضع الطائفة العلوية ككل في مواجهة بقية السوريين، (أو لوضع الجماعات غير المسلمة وغير السنية في مواجهة المسلمين السنة).
لا يبدو لي منطق هؤلاء الناشطين والناشطات متوافقا مع حقوق المواطنة ، لأن صفة المواطنة السورية الجامعة لاتنفي اختلافات المنشأ والثقافة والتربية، ولا يجوز أن تنفيها. المواطنة الجامعة السورية لاينبغي أن تغيب الفروق بين البشر. ذلك التغييب الذي أدى إلى مختلف أشكال الاستبداد الحديثة التي شهدناها في القرن العشرين والتي اعتمدت على تعريف واحد للانسان، بناء على معيار يضعه القوي والسائد. معتمدا على ثقوب في فكر ومفاهيم عصر الأنوار، منها مفهوم الإنسان المجرد والمواطن المجرد. وإذا كانت غالبية المعلنين عن ذلك هم من فئة المثقفين ولا يعتبرون أنفسهم علويين، فإن هناك آخرين قد يحتاجون إلى التعبير عن أنفسهم كسوريين علويين أو كسوريين سنة أو كسوريين أكراد أو كسوريين مسيحيين أو كسوريون علمانيين أو كسوريون يساريين…الخ أو كسوريات نساء أو كسوريين رجال، ويطالبون بحقوقهم إذا كانوا يشعرون بأي نوع من أنواع التمييز بناء على هذا الاختلاف.
لست مع هذا المنطق المتعالي لأن تبادل الأدوار بين أقلية وأكثرية قائم في كل لحظة، وهذا مفيد كي يتفهم كل منا احتياجات الآخرين المختلفين عنا أو الأضعف منا وسبل توفيرها لهم بعد إدراكنا لها. ففي سورية مثلا يمكن أن يكون المرء من أقلية طائفية وأكثرية قومية، كالعربي العلوي، ويمكن أن يكون من أقلية قومية وأكثرية طائفية، كالكردي السني مثلا..
الأقلوي، الضعيف، المهمش، كلهم أطراف أتت منها الأفكار التي غيرت التاريخ .. لأن سطوة المتن .. سطوة القوة .. تمنع من رؤية الجديد الناشىء .. والثورة السورية انطلقت من المناطق الأكثر تهميشا في البلاد، ولكنها عبرت عن حاجة البلاد الشديدة للتغيير، لذلك التحقنا بها جميعا. لم تنطلق في البداية من دمشق وحلب حيث سطوة المتن الاقتصادي، ولم تنطلق من مناطق مهمشة أخرى كان قد نسيها النظام ولكنه كذب عليها وأوحى لها أنها في المتن وفي السلطة.
الديمقراطية تعني حفظ حقوق كل الضعفاء ، لأنهم يحتاجون إلى قوة القانون في المواطنة المتساوية كي تحفظ حقوقهم من جهة، وكي تضمن تجدد المجتمع وازدهاره، من جهة أخرى.
من موقع الهامش يستطيع المرء أن يرى ما لايراه المتربع في المتن، لأن السلطة تعمي عن رؤية الحقيقة. وكذلك يستطيع المهمش أن يفهم معاناة المهمشين، ويستفيد من نضالاتهم وإنتاجهم الفكري في فهم معاناته الخاصة. ويمكن للفرد أن يتناوب الموقع بين المتن والهامش بحسب المشكلة المطروحة.
ومن موقعي كهامش جنساني باعتباري امرأة، ومن دراستي للسائد والمتن والهامش والضعيف، وكذلك لحالات التبادل في المواقع بين الهامش والمتن، سأورد في هذه المقالة نصين بمثابة شهادتين من الهامش الأسود وهامش الهامش، المرأة السوداء.
النص الأول لفرانز فانون الذي بدأ بحثه في الهوية السوداء في أثناء عمله في الطب النفسي وتأثره بعمق بكل من فرويد ولاكان. وهذه المرحلة من عمله يجسدها أحسن تجسيد كتابه “بشرة سوداء، أقنعة بيضاء” إذ يعتبر هذا الكتاب نموذجاً رائداً في استخدام نظرية التحليل النفسي أداة نقدية في كتابة النظرية السياسية. في هذا الكتاب يرى فانون أن الاستعمار، بإعلائه من شأن الجنس الأبيض على الشعوب غير البيضاء، قد خلق إحساساً بالانقسام والاغتراب في هوية الشعوب المستعمرة غير البيضاء، ففي ظروف الاستعمار، تم اعتبار تاريخ المستعمر الأبيض، وثقافته ولغته وتقاليده ومعتقداته، كونية ومعيارية ومتفوقة على ثقافة المستعمَر، وهذا يخلق إحساساً قوياً بالدونية داخل ذات هذا المستعمَر، ويقوده إلى تبني لغة المستعمِر وثقافته وتقاليده في محاولة منه لمواجهة هذا الشعور بالدونية.
يقول فانون: “ما أن أدرك أن الزنجي هو رمز الخطيئة، فإنني أضبط نفسي متلبساً بكراهية الزنجي. لكنني أدرك فيما بعد أنني زنجي. وهناك طريقان للخروج من هذا الصراع: إما أن أطلب من الآخرين ألا يعيروا انتباهاً لبشرتي، وإما أن أود لو التفتوا إليها، وهنا أحاول أن أجد قيمة لما هو سيئ، بما أنني مقتنع بأن الرجل الأسود هو لون الشر. ولكي أنتهي من هذا الموقف العصابي الذي أجد نفسي فيه مضطراً إلى اختيار حل غير صحي، حل صراع قائم على الوهم والعداء، وهو باختصار موقف غير إنساني، ليس هنا إلا حل واحد: أن أتعالى على هذه الدراما العبثية التي يلعبها الآخرون من حولي، أن أرفض المصطلحين معاً فهما غير مقبولين بالدرجة نفسها، وذلك للوصول إلى كائن إنساني كوني واحد.”
النص الثاني اقتبسته من دراسة للمفكرة النسوية السوداء بل هوكس بعنوان “المرأة السوداء وصياغة النظرية النسوية”، تقول فيه:
“حين انضممت إلى مجموعات نسوية اكتشفت أن المرأة البيضاء تتعامل بقدر من التنازل معي ومع غيري من النساء غير البيضاوات، إن التنازل الذي كانت هؤلاء النسوة تتعاملن به تجاهنا إنما كان يمثل إحدى الوسائل المستخدمة لتذكيرنا بأن الحركة النسائية هي حركة خاصة “بهن” وأن بمقدورنا أن ننضم إليهن لأنهن سمحن لنا بذلك وشجعننا على العمل معهن، فقد كان وجودنا ضرورياً لمنح العملية والحركة شرعيتها. فلم ينظرن إلينا نظرة المساواة، ولم يعاملننا معاملة المساواة.”
عانت المجتمعات الديمقراطية من تجريد عصر الأنوار، وما زالت تعاني، ولكنها عدلت من قوانينها كثيراً وما زالت تعدل، تحت ضربات النظريات النقدية المابعد كولونيالية و”النظريات النقدية” النسوية وكذلك تحت ضربات مشاكلها الاجتماعية الداخلية. ونحن لن نرضى في سورية إلا آخر طبعة من الديمقراطية التي تضمن حقوق الضعيف والمهمش.
ذلكم ما يقتضي تأكيد أن السوريين مختلفون ومتعددون، وأن طمس الهوية الخاصة لا يعني بلوغ الهوية العامة، والمساواة في المواطنة السورية الجامعة تكمن قيمتها وضرورتها في ضرورة الحرية والديمقراطية لكي نعبر عن ذواتنا وعن احترامنا لاختلافاتنا. وكذلك كي يتسنى لنا تبادل الفوائد من هذه الاختلافات باكتشاف ماينقصنا عند الآخرين. وكل ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا في مناخ الحرية لنا جميعا كسوريين.