في شهر مارس الماضي (2013) انعقد بالقاهرة المؤتمر الدولي الثاني لمنتدي الشرق الأوسط للحريات الذي يترأسه الصديق الكاتب والباحث مجدي خليل، حول موضوع (الأقباط تحت حكم الإخوان المسلمين)، ومثلما كان المؤتمر الأول للمنتدي في نوفمبر (2007) أشبه بالنبوءة التي تحققت في 25 يناير 2011 حيث طرح هذا السؤال : مصر تتجه إلي أين؟ .. كان المؤتمر الثاني أسرع وأسبق وهو يستشرف وضع الأقباط المأساوي في مدينة الخصوص والاعتداء علي الكاتدرائية في العباسية وهي سابقة خطيرة لم تحدث منذ 1400 سنة!
ربما كان السبب المباشر في نجاح المؤتمر ليس فقط النخبة المتميزة التي شاركت سواء بالكلمات أو المداخلات أو الأوراق البحثية، وإنما أيضا لأن المحاور الرئيسية للمؤتمر كانت تتابع ولادة الأفكار الجديدة وانفجار قوتها، في قلب الأحداث نفسها وفي الصراعات التي تنشب من أجلها، ضدها أو معها، وليس في بطون الكتب أو في سجلات الماضي، كما كان يقول الفيلسوف ” ميشيل فوكو “.
أقباط مصر يتعرضون، منذ أحداث أخميم عام 1970 وحتي جرائم الخصوص والكاتدرائية عام 2013، ” للتطهير الديني الشرير ” وهي عبارة وردت في تقرير للأمم المتحدة عام 1999، جاء فيه: ” ان التدخل العسكري يمكن أن يصبح ضروريا لمنع عمليات إبادة جماعية أو (تطهير عرقي – ديني) واسع النطاق أو طرد قسري أو ترويع واسع المدي أو اغتصاب مدنيين. “. كما أسقطت تماما الفقرة الأولي من المادة 53 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص علي: ” عدم القيام بأي فعل اكراهي سواء تحت ترتيبات اقليمية أو منظمات اقليمية دون موافقة مجلس الأمن “، فقد تدخل حلف الناتو في كوسوفو عام 1999، وتدخلت بريطانيا في سيراليون عام 2000 دون موافقة مجلس الأمن، والشئ نفسه تم في ليبيا القذافي عام 2011، ليبدأ عهدا جديدا يؤكد علي أن (المشروعية) تعلو علي (الشرعية) في التدخل الخارجي في القرن الحادي والعشرين.
في ضوء ذلك يجب أن نمتلك الشجاعة اللازمة للاعتراف بأن وضع الأقباط ومستقبلهم في مصر ” كارثي “، وأن الأمانة العقلية (والأخلاقية) تحتم علينا (كمصريين) عدم طرح نفس الأسئلة القديمة عن الدولة المدنية التي أكلت قرنين من الزمان، فضلا عن تكرار واجترار نفس المفاهيم القبلية والأفكار المسبقة عن ” المواطنة ” و” النسيج الواحد ” و” الدين لله والوطن للجميع “، ليس لأنها تعوق رؤية الواقع الجديد في مصر فحسب وإنما لأنها تمنعنا من البحث عن حلول عملية ومخارج حقيقية للأزمة غير المسبوقة في بر مصر.
التساؤل الجوهري حول طبيعة الدولة في مصر وماهيتها حسم – حتي الآن – لصالح الدولة ” الدينية “، وهو ما يفسخ ” العقد الإجتماعي ” الممتد لأكثر من قرنين بين المصريين ويمزقه، لأن الدولة الدينية في أفضل حالاتها قد تستطيع تنظيم ” التجاور ” بين كيانات منفصلة ومنعزلة علي أرض مصر، تنتمي ثقافيا واجتماعيا إلي عصور شديدة التباين والاختلاف ينتمي بعضها إلي العصر الجاهلي والبعض الآخر إلي العصور الوسطي والبعض الثالث إلي عصر الحداثة المشوهة، وهكذا، وهذه ” الفوضي القدرية ” لا تؤسس أبدا للدولة بالمفهوم الحديث، وإنما هي احدي تجليات ” الدولة الفاشلة ” حيث غياب الأمن والأمان وسيادة شريعة الغاب وصولا للحرب الأهلية التي لن تبقي ولا تذر.
أولا : علينا أن نعترف بأن شعار ثورة 1919 “عاش الهلال مع الصليب” في العصر الليبرالي (النصف الأول من القرن العشرين) كان تأسيساً ناقصا ومؤقتاً لفكرة ” المواطنة الديمقراطية “، وأن تلك الصيغة لم تتحول يوماً في الواقع العملي سواء في الدساتير المصرية أو في الممارسة المجتمعية إلي : “الدين لله والوطن للجميع”. كما علينا أن نقر – بكل أسف وأسي – بأن وطنية الأقباط وحبهم لمصر لا قيمة لهما في حسابات وإيديولوجية من بيده مقاليد الحكم الآن، لأن رفع الغبن عن الأقباط وتحسين أوضاعهم القانونية والحقوقية، ووضع حد للعنف الطائفي الذي يستهدفهم يتعارض، تماما مع استراتيجية جماعة الإخوان المسلمين وأهدافها في ” خطة التمكين ” أو أحلامها في الخلافة الإسلامية.
المشكلة ليست في الاضطهاد فقط وإنما الهدف هو تركيع الأقباط وإذلالهم لارغامهم على قبول المشروع الإسلامي، كما أشار الأستاذ مجدي خليل في مقاله القيم المعنون : ” الاقباط بين الاندماج الوطنى والتذويب الدينى ” : فالأقباط هم رعايا وذميون، حسبما جرت العادة على تسمية المواطنين من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي باسم “أهل الذمة” أو “الذميين”، والذمة لغة هي العهد والأمان والضمان. وأهل الذمة هم (المستوطنون) في بلاد الإسلام من غير المسلمين. وهناك التزامات إضافية علي أهل الذمة (بعد دفع الجزية) الغرض منها كما يقول معظم الفقهاء تمييز أهل الذمة من المسلمين, كما انها وضعت دلالة على أنهم صاغرون (أذلاء) . ولهم إن يسلموا (أي يغيروا دينهم إلي الإسلام) ان أرادوا العزة في الدنيا والآخرة، كما يقول ” ابن تيمية “.
ثانيا : الأقباط تحت حكم الإخوان (قضية سياسية دولية بامتياز)، لها بعد ديني وآخر إنساني (عالمي)، ليس فقط باعتبارهم أكبر أقلية دينية في الشرق الأوسط عانت – وما تزال – من التغييرات الإقليمية وتوازنات القوي في العالم، ومن مساومات سياسية وتفاهمات مشبوهة بين جماعات الإسلام السياسي والنظم المختلفة في الداخل منذ يوليو 1952، وإنما لأن مصائرهم أصبحت بيد تنظيم دولي (سري) متمدد في عدة دول خارج حدود مصر، يعرف ” بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين “.
وبالتالي من يحكم مصر الآن ليست ” سلطة محلية ” يمكن محاسبتها أو مقاضاتها، وإنما هو ” أخطبوط متعدد الأذرع لا يعرف – المصريون جميعا ومنهم الأقباط – له رأس “، ورغم أن هناك مرشد معلن في مصر فإن هناك مرشد أعلي منه ” سري ” متجاوز للحدود ولا يمكن معرفته أو حتي معرفة محل إقامته وفقا لبرتوكولات التنظيم الدولي للإخوان المسلمين.
الأهم من ذلك أن أدبيات الإخوان وسياساتهم في مصر الآن لا تنتمي فكريا أو إيديولوجيا إلي المؤسس الشيخ حسن البنا – كما هو شائع – وإنما هي تطبيق حرفي ” لفقه العنف ” الذي أرساه سيد قطب الذي يري في الآخر ” كافرا ” يجب قتله!
وتعتبر مؤلفات سيد قطب مثل ” معالم في الطريق ” و” في ظلال القرآن ” مرجعا لكل الجماعات الإسلامية المتطرفة، وخطورة ما يحمله الفكر الإخواني القطبي : أن مسألة إقامة الدولة الإسلامية (الخلافة) من مسائل العقيدة وليس من مسائل التنظيم، وهذا معناه أن المسلم نفسه الذي لا يؤمن بهذه الفكرة هو كافر وخارج عن الملة لذا يجب قتله، فما بالك بالقبطي أو البهائي أو اليهودي أو اللاديني.
المصدر إيلاف