مقالتي السابقة … المفاهيم أفيون المثقفين… أحدثت بعض السجالات المهمة و قد وعدت بعض الأصدقاء و منهم الأستاذ العزيز صادق كبلو أن اكتب مقالة تكميلية حول الموضوع و هانذا افعل و اشكر جميع الذي علقوا و كتبوا لي بشكل مباشر و اود عن اعبر عن شكري و امتناني مقدما لأي نقد او تعليق او ما شابه…
برزت إشكاليات متعددة من خلال تلك التعليقات و حيث اني رديت على بعضها خاصة تعليق الدكتور حلمي حول ثورة 30 يونيو و الازدواجية الأخلاقية في الإعلام الغربي… أحاول هنا تكملة مناقشة بعض النقاط التي بدأتها في المقالة السابقة … لعل واحدة من اهمها اشكالية العلاقة بين المفاهيم و الواقع … و هنا ورد تعليق مهم من الأستاذ صادق يقول فيها ( حتى بالنسبة للبلد التي لا يعرف بعض سكانها الصابون ولكن يعرفون النظافة بمفاهيم تخص تطور مجتمعاتهم)… لا شك ان نقطة الناس التي لا تعرف الصابون تعرف النظافة … هي غاية في الأهمية… نحن لا نتحدث هناعن قيم جامدة في ثقافات الشعوب و لكننا نتحدث عن قيم تفاعلية تخلق ميكانيزمات الإدارة و التطور الذاتي و بالاستفادة من ثقافات الشعوب الأخرى و تجاربها… الإشكالية في موضوع المفاهيم الغربية هي أنها تحاول الإحلال محل لإمكانات و القيم الذاتية فتفقدها قدرتها و لكنها لا تستطيع تعويضها لانها لا تتناسب مع الواقع الحياتي لهذه الشعوب… و هذا هو الأساس في مثال الصابون و البوست مودرنيزم
Post-Modernism …
لا شك أن المجتمع الغربي او على الاقل طبقات منه عبرت فعلا مرحلة الحداثة لكن باتجاهات
مختلفة … بينما الشعوب الأخرى تعيش في ظروف و أنماط تطورية مختلفة و لذلك لا يمكن قياسها مع النمط الغربي للتطور… هذا ما اعتقده و على الأساس اختلف مع المثقفين الذين يعتبرون الأنماط الحياتية للشعوب الأخرى و كاًنها مراحل متخلفة عن التطوري الحضاري… هكذا و كاًن الحضارة متوقفة على مسار واحد فقط لا غير و أن النمط الحضاري الغربي يمثل قمة التطور بمفهومه القطعي و ان الشعوب الاخرى ما تزال تلهث للحاق بالركب الغربي… هذا هو مفهوم الالتحاق بالقطار او
catch up
الذي انتقده دوما.. و رغم حقيقة ان العالم يصبح اصغر و اصغر و مصير اجزائه مترابطة ببعضها في القضايا الكبرى مثل البيئة و قلة الموارد و غيرها من العوامل إلا أني اعتقد في هذا المجال أيضاً أن احد اهم الأسس المعرفية لمفهوم العولمة هو تمرير هذه الفكرة الى الشعوب الأخرى لمنعها من بناء نفسها ذاتيا و وفق ظروف واقعها الخاص و بدلا من دفعها للركض وراء وهم لا يمكن تحقيقه أبدا و هو التحول و الوصول الى نمط و درجة التطور في الغرب…
لكن حتى نكون دقيقين يجب مبداًيا أن نبتعد عن التعميم ….يجب أن نعترف انه لا الغرب هو كتلة متجانسة ذو فكر نمطي معادي للشرق او ساعيا الى الهيمنة عليه كما يتصور البعض…. و لا كل المفاهيم تهدف بكل وعيوي الى خلق آليات التبعية… لابد أن نكون واضحين في منهجيتنا في دراسة العلاقة بين المفاهيم التي تصدر عن المثقفين و القوى السياسية المختلفة في الغرب و تأثير تلك المفاهيم على مسار التطور في المجتمعات الفقيرة او المجتمعات غير الغربية بصورة عامة… أولا… لان اغلب تلك المفاهيم هي مفاهيم علمية و غير مرتبطة بكل مباشر بأهداف القوى الحاكمة الاقتصادية و السياسية في المجتمعات الغربية…. بينما هناك مفاهيم سياسية ترتبط بشكل مباشر باهداف القوى السياسية التي تطلقها و اعتقد في هذا المضمار ان مفهوم العولمة هو احد تلك المفاهيم بالاضافة الى مفاهيم اخرى مثل صراع الحضارات و نهاية التاريخ …ثانيا… أن هناك قوى سياسية و اجتماعية…. يسارية او إنسانية او غيرها… ترغب فعلا في مساعدة الدول الفقيرة … لكن في هذا الإطار نجد ان هناك قوى تستنبط مفاهيمها من تجارب مجتمعات غربية و تعتقد بإخلاص أنها ستكون القاطرة التي تخرج المجتمعات الفقيرة من التبعية الغربية و الفقر و التخلف … الخ من الأوصاف…. بينما هناك قوى سياسية و ثقافية أخرى تهدف الى النتيجة نفسها لكنها تعمل بوعي أكثر بالاختلافات الثقافية و تحاول بناء على ذلك استنباط مفاهيم تنطلق من تجارب المجتمعات الفقيرة ذاتها…
و ازاء هذه الاختلافات في منهج فهم الاخر تظهر هنا إشكاليات كثير منها… هل أن المثقفين في المجتمعات الفقيرة عاجزون تماماً عن استنباط مفاهيم واقعية من تجارب مجتمعاتهم … أم أن المثقفين الغربيين يمارسون دورا أبويا… او أن الله قد أوعز الى المثقفين الغربيين بخدمة المجتمعات الفقيرة على نفس الأساس الذي يعتمده بعض الأغنياء العرب بالاعتقاد بان الغرب يخدم العرب عن طريق توفير الصناعات و الخدمات و بالتالي لا يحتاج العرب أن يقوموا بأنفسهم بشيء من ذلك ..
.. أنا اتفق كليا بان (المفاهيم و المقولات هي الخلايا الحية للتفكير النظري و العملي يبدأ بالتجريد و ينتهي بالملموس)… لكن هذا يصح فقط عندما تنبع المفاهيم من الواقع المحلي… او أن طروحات المفهوم غير المحلي … مثلا المفاهيم النابعة من الغرب…و علاجاتها تتفق مع مشكلات المجتمع المحلي… أما التغني بمفاهيم تنبع من واقع مختلف و تهدف الى حل إشكالات في مجتمعات مختلفة عن المجتمع المحلي… فهذا يشبه المزامير التي ذكرتها في مقالتي السابقة..
و اعتقد أن مهمة الثوري او المثقف الملتزم بواقع مجتمعه … او العضوي… كما يسميها جرامتشي… فان عليه البحث عن أسس ثقافية يستطيع الإنسان العادي في مجتمعه أن يفهمه و يتفاعل معه …. مهمة هذا المثقف أن يحفز أبناء بلده للتطور و التغير و ليس فرض مفاهيم غريبة عليهم لان ذلك سيزيد من مستوى الإحباط عند الناس و بالتالي فان هذه المفاهيم تصبح أدوات للإعاقة و ليس للاستنهاض …
لو أخذنا مفهوم العولمة كمثال… نجد أن المفهوم لا يرتبط بواقع العولمة … كيف ..؟؟.. واقع العولمة هو واقع تاريخي يعود الى بدايات التواصل بين المجموعات البشرية و المجتمعات الصغيرة سواء كان التواصل سلميا أم حربيا… كانت هناك دوما علاقات تجارية و تزاوج كما كانت مغامرات و بحث عن أوطان جديدة و مراعي و واحات … الأسباب كانت مختلفة لكن الآليات و النتائج كانت متشابهة و تطورية اهمها هو الخروج من نطاق المجتمع المحلي و توسيع الرقعة الجغرافية و الديموغرافية للسيطرة و الهيمنة و تحقيق الطموحات و المصالح… الزمن الحديث لا يختلف عن ذلك و كل ما قدمه لنا مفهوم العولمة بشكل علمي هو تطور تلك الاليات التاريخية … مفهوم أعاد التأكيد على دور قوى السوق و شبكات المصالح العابرة للمحليات الوطنية … ما هو الجديد في هذا..؟؟… منذ عقود عديدة ظهرت نظريات التبعية و النظام العالمي و التي تؤشر وجود الكمبرودوريات و المؤسسات الدولية و المنظمات بين-الحكومية و العابرة و دور القوى الاقتصادية في التوسع الاستعماري … كذلك المنظمات غير الحكومية و شبكات التوسع الثقافي الساند للتوسع الاقتصادي و السياسي… إذن ما الجديد في نظرية العولمة…؟؟… الجديد هو إقناع الشعوب الفقيرة بان السبب في فقرها و تخلفها هو الحكومات و مؤسسات الدولة الحديثة و سياسات الحماية و الالتزام بالمفاهيم الوطنية … رغم ان الدولة لم تقم بالفعل بهذه الاجراءات بشكل يؤسس لتنمية وطنية….. بل ان الاسواق كانت مفتوحة دوما للبضائع الاجنبية و ان الموارد المحلية من نفط م معادن و غيرها تذهب الى المصانع الاجنبية و التجار كانوا دوما يديرون بشكل او غير مباشر هذه الصفقات و ان اسعار الخبز و الخضروات و اللحوم يحددها التجار و الدولة في احسن الاحوال كانت تدعم بعض هذه الاسعار و تخسر في ذلك اموالا تذهب الى جيوب التجار و اصحاب المصالح المحليين منهم و القوى العالمية … بكلام اخر… ان كل ما تتحدث عنه نظرية العولمة كانت قائمة و جارية فعلا….. اذن يمكن القول بان النتيجة النهائية لما تريده قوى العولمة عن طريق مفهومها هي العودة الى حالة اللا دولة… او الدولة التي تقوم بدور الشرطي في حماية السوق و قواها بشكل حصري بعد أن كانت تمارسها الدولة بشكل عام…
من سخرية القدر أن مثقفي العالم الفقير بعد أن درسوا مفهوم العولمة و أقاموا المؤتمرات العلمية لتدارس الياته دعوا الى مقاومة العولمة… كيف ..؟؟. لا احد يعرف..!!… و ما هو البديل…؟؟… لا احد يعرف…. لكن لماذا لا احد يعرف…؟؟… ربما لسبب بسيط هو أن ديمومة الحياة في هذه المجتمعات كانت و ما تزال تعتمد بشكل شبه كلي على شبكة عمل التجار و قوى السوق و القوى السياسية و الحكومات المرتبطة بالغرب…!!..
أما مصطلحات صراعات الحضارات و نهاية التاريخ فكانا أيضاً ذو مغزى سياسي أكثر منه محتوى علمي … صراع الحضارات يستند آلى أسس و هيكليات اجتماعية و سياسية تعود الى ما قبل الزمن الحديث… و الإشكاليات حولها هي كثيرة منها… كيف يمكن ان نتحدث عن آليات ثقافية مجتمعية تجاوزها وجود الدولة بمؤسساتها الاوتونيمية أي غير المنتمية الى أسس عرقية او طائفية…؟؟.. ثم ما هي الاستفادة من آليات تفريقية للمجتمع غير تشظي المجتمعات الفقيرة و زرع الفوضى فيها… كما يحصل الآن في أفغانستان و العراق التي حكمها الأمريكان بشكل مباشر… و كذلك في مجتمعات الربيع العربي حيث يلعب الأمريكيون على جميع الخطوط…؟؟؟….
و الآن لو عدنا الى الإشكالية الرئيسية و هي حول دور المثقفيين المصريين في التطورات الكبيرة التي حصلت خلال السنتين… اعتقد أن التحدي الأهم أمام هؤلاء المثقفين هى ليس مناقشة مفهومي الانقلاب و الثورة بقدر ما هو تقييم لدور المثقفين الفعلي في هذه التطورات المتلاحقة من بداية عام 2011 و لحد الآن و التي ستستمر حتى سنوات طويلة قادمة…. تلك التطورات التي قادها شباب ليس فقط في قيادة الجماهير في الميادين و إنما أيضاً في طرح مختلف الحلول و المشاريع السياسية و غيرها بينما تراجع دور المثقفين بشكل رئيسي و الأسوأ أن بعض هؤلاء المثقفين انخرط في الدعوة الى الانتقام مما كان يعني عمليا استخدام العنف و التشظي الاجتماعي السياسي … بينما توقف الآخرون عند حدود دعم طروحات هذه المجموعة او تلك من القوى المتصارعة…
و لكي لا نتوقف عند حدود المفاهيم الغربية السياسية المرتبطة بمشاريع الهيمنة دعنا نذكر مفاهيم اطلقها مثقف مهم في المدرسة الماركسية و اعني به جرامتشي الذي شكل ايضا الهاما للكثير من مثقفي العالم العربي و عقدت مؤتمرات لدراسة افكاره…. لكن النتيجة كانت أن هؤلاء المثقفين او بعضهم اكتفى بإعلان انفسهم انهم مثقفون عضويون دون ان يقدموا شيئا ملموسا لمجتمعاتهم ….. ربما نستطيع ان نشبههم في ذلك باؤلائك الذين يقرؤون كتابا دينيا و يحفظون بعضا من اياته او مزاميره و يعتقدون بناء على ذلك انهم مؤمنون و انهم في كل ما يفعلون … او لا يفعلون… فهم على صواب و انهم ادوا الامانة … هكذا…
إذن… هنا لابد ان نطرح تساؤلا بسيطا عن دور (المثقف العضوي)….. لماذا لم نسمع عن مشروع ثقافي سياسي متجانس و مؤثر يطرحه المثقفون ليعبروا بذلك عن الواقع المصري بكل تناقضاته و صراعاته الداخلية و الخارجية و يساهم بشكل فعال في إيجاد أرضية تجميعية و مقبولة لمكونات المجتمع المصري..؟؟.. بل لماذا ادى الكثيرين منهم دورا معاكسا.؟؟..!!.. ( بالمناسبة أدعو القراء للعودة الى مقالتي … عرقنة مصر و طغيان ديمقراطية القصاص http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=293706
و التي ذكرنا فيها ثلاث نقاط مهمة هي استمرار الجيش في قيادة البلد و رئيس ضعيف و دعوات اللانتقام التي شارك فيها المثقفون و غيرهم و دور ذلك في خلق ارضية للتشظي الاجتماعي السياسي و انتشار العنف.. المقالة كانت منشورة في 2/2/2012 أي قبل إجراء الانتخابات الرئاسية التي جاءت بالرئيس مرسي الذي كان يلقبه الكثيرون بانه ضعيف و عاجز..)..
عموما فان نقدي لدور المثقفين لا يتوقف عند الحالة المصرية بل يمتد الى المجتمعات العربية الداخلة منها في الربيع العربي و المنتظرة دورها…. لكن فيما يخص مصر بالذات و لانها تشكل القاطرة الثقافية في العالم العربي فان التركيز على دور مثقفيها ليس انتقاصا بقدر ما يعبر عن اًلم و وجع… عموما حتى نحسن الظن فلنتصور انه ربما يدخل الصراع المفاهيمي ضمن هذا المشروع الذي سيأتي في مرحلة قادمة… نتمنى ذلك و أكرر ما ذكرته سابقا أن التحول الذي حصل في يونيو و يوليو الماضي ربما يشكل انعطافه كبيرة في تاريخ الشرق الأوسط و اعتقد أن هذا التحول يوفر فرصة تاريخية لإعادة تقييم دور المثقفين… و آخر تمنياتنا أن يتم توظيف هذه الفرصة التاريخية في خلق باراديم
Paradigm
جديد للعلاقات و التطور….
سأتوقف هنا… لكن ارجو ان لا يتوقف النقاش … و ساكون حاضرا مع الاخرين…. محبتي و حبي للجميع…