ليس من الأمر الهين أن نقلب صفحات التاريخ الإسلامي بكل طمأنينة، واضح منذ البداية، أن التاريخ الإسلامي المنقول الذي وصلنا اليوم، هو تاريخ كتبه المنتصرون من وجهة نظر واحدة ممارسين كل أنواع التمويه المشروعة والغير مشروعة لتمرير قناعاتهم الإيديولوجية والسياسية. بل لم يسلم هذا التاريخ الإسلامي نفسه من صراعات داخلية طيلة تعاقب مساره، حيث تعرض للتحريفات والتشويه والمسخ. ولعل إحراق آلاف الكتب أو بترها ضوء حاد سيبقى بقعة عار على سواد الرؤية الأحادية، ولو أنه وصلتنا تلك المخطوطات التي بقيت فقط كعناوين في ذاكرة الموروث الكتابي أو وصلتنا تلك المؤلفات التي لم يعد منها إلا بعض المقاطع والشذرات التي أوردها هذا المؤلف أو ذاك من أجل الردّ عليها أو الإستدلال بها لكنا الآن أمام إحتمالات مختلفة تماما لطبيعة قراءتنا لمرحلة النبي والعقود التي تلته. وها هي في مقدمة سيرة ابن هشام التي تعتبر من أقدم النصوص التي تتطرق لسيرة النبي محمد والتي استندت على سيرة ابن اسحاق، يعترف ابن هشام أنه حذف من سيرة ابن اسحاق الكثير مما لا يتناسب وصورة النبي المثالية والأخلاقية، وهنا نطرح السؤال : كيف تمكن ابن اسحاق من تدوين تلك الأمور السلبية عن النبي في سيرته دونما أن يتعرض لهجومات الفقهاء وأبناء الصحابة خاصة أنه جاء في وقت ليس ببعيد جدا عن موت النبي ؟؟ وكيف لم يتعرض لفتك رقابة السلطة السياسية الإسلامية أنذاك؟ إن الجواب الأقرب للمنطق هو : أن المناخ العام للثقافة السائدة كانت ترى تلك الأمور “التي اعتبرها ابن هشام غير عادية ولا تليق بشخصية النبي ” طبيعية وعادية، لذلك سمحت بمرورها السلطة الإسلامية في الكتاب، وهكذا ظهرت تلك الأحداث التي رواها ابن اسحاق أمرا عاديا بالمقارنة مع الأسرار التي كان الخلفاء والصحابة شديدو الحرص على كتمها ” ولا يتعلق الأمر فقط بإحراق نسخ قرآنية مغايرة لما تم اعتماده رسميا كمسألة مفصلية في توجيه التاريخ بل طال الموضوع أيضا الأشعار التي ترددت في عهد النبي بين طرفي الصراع في إطار الهجاء أو ما شابهه، حيث تم منع ترديد تلك الأشعار بشكل كلي كمثال ” . أما السؤال الثاني : من الذي أعطى الحق لابن هشام أن يبثر مخطوطة ابن اسحاق؟ ونحن نعلم الطريقة التي تمكن بها ابن هشام من السطو على المخطوطة ؟؟؟
كي لا نضيع في سراديب المأزق التاريخي الشبيه تماما بمتاهة اللاعودة. كان هذا فقط تذكير بأن كل هذا الكم من الوثائق والمخطوطات يحتاج إلى قراءة نقدية متأنية، ترتكز على اللامهادنة والحذر من أجل الوصول إلى احتمالات تقترب من الصورة الحقيقية ..
من بين الخرافات التي يحاول فقهاء الإسلام السياسي تكريسها هي أمية النبي وجهله بالقراءة والكتابة، وهذه من بين الاكاذيب الكثيرة التي تعتبر من دعامات الإسلام السياسي، وهنا سنحاول معرفة ما مدة صحة هذه الأسطورة :
أولا : ينتمي النبي إلى أسرة لها مقامها العالي في قريش، وكان عبد المطلب جد النبي يقرأ ويكتب، وكان كل أولاده عارفين بالقراءة والكتابة “يعني أن كل أعمام النبي ووالده عبد الله ليسوا جاهلين بالقراءة “، بدليل الرواية التي جاءت في كل كتب السيرة عندما طلب عبد المطلب من أبناءه أن يكتبوا أسماءهم على الأقداح وكان يخرج قدح عبد الله في كل مرة. بل إن حتى علي ابن أبي طالب الذي تربى في بيت النبي منذ بدايات طفولته كان يقرأ ويكتب، ” وعمر وعثمان وأبو بكر كانوا يقرؤون ويكتبون “. فكيف يمكن أن يكون النبي الشخص الوحيد الذي لا يقرأ ولا يكتب في أسرته الأرستقراطية ذات الجاه والنفوذ في قريش؟ وفي بيت عمه أبي طالب الذي كان يحبه كثيرا، ألا يبدو الأمر متناقضا ؟
ثانيا : من البديهي أن تحتاج التجارة الدولية لقريش إلى معرفة بالتقييدات والحساب. وأن تختار خديجة بنت خويلد النبي محمد على رأس تجارتها، وهي التي كانت تملك أكبر قافلة تجارية في قريش، يطرح سؤالا عريضا. إذ لا تكفي الأمانة والثقة بين خديجة ومحمد لتسلمه إدارة ثروتها، بل يتعلق الأمر بكفاءة ومؤهلات وقدرات النبي، سواء ما يتعلق بالتقييدات والحساب، أو ما يتعلق بالتواصل اللغوي وهو ما سنبينه لاحقا في معرفة النبي بلغات أخرى غير العربية .
ثالثا : الغريب أنه لم تطرح مسألة جهل النبي بالقراءة والكتابة في حياة النبي. وإلا لكانت واضحة في سيرته. والذين دفعوا بهذه الأسطورة قاموا بها في وقت متأخر مستدلين بآية من القرآن: الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل . لكن ما معنى الأميّ لغويا ؟ فهذه الكلمة لا وجود لها في معجم العرب قبل الإسلام ولا جذر لها أو اشتقاق. وهكذا تكون مشتقة من لفظ أمم كما ذهب إلى ذلك عبد الرحمان بدوي والجابري وغيرهم من المعاصرين. وتورط اللغويون القدامى في هذه الكلمة الدخيلة وحاولوا كالعادة أن يجدوا لها مخرجا وسطا بما أن القرآن أصبح هو مقياس اللغة، وليست اللغة مقياسا للقرآن. ولفظ الأممي كان شائعا في المنطقة آنذاك كوصف لمن هم لا رسالة سماوية لهم. وهو ما تؤكده كل الآيات التي يحاول شيوخ الإسلام القفز عليها وهي :
وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا . آل عمران . أليس هذا دليل على أن الأميين لا علاقة لهم بمسألة القراءة والكتابة وأنها تعني هؤلاء الذين لا كتاب لهم ؟؟ وإلا فما معنى إقحام من لا يقرأ ولا يكتب في هذه الآية .
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ . آل عمران، أليس هنا أيضا تأكيد على ما قلنا أن الأميين لفظ لا علاقة له بالقراءة والكتابة ؟
هوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِين . الجمعة . أليس تأكيدا أن لفظ الأميين هنا دال دليلا قاطعا على المعنى الحقيقي للاميين الذين هم قريش بشكل خاص والأمم التي لا رسالة سماوية لها بشكل عام. وإلا سنكون أمام حقيقة قرآنية تقول أن النبي بعث في هؤلاء الذين لا يعرفون القراءة والكتابة. وهذا تناقض سافر مع المعطيات التاريخية التي تؤكد استعمال الكتابة والقراءة في تلك الفترة .
فإذا اعتمدنا شرح الشيوخ لظهرت كلمة الأميين شاذة عن المعنى في الآيات، ولأفرغت الآيات من محتواها، بل حتى أنها تجعل من متنها كلاما متناقضا غريبا ومفككا.
رابعا : هنا بعض نماذج لتفاسير القرآن للفظ الأمي :
أورد الطبري فيما أورد في قوله : ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل. يقال له : ما بالك لا تؤدي أمانتك؟ فيقول: ليس علينا حرج في أموال العربي قد أحلها الله لنا…
أورد القرطبي فيما أورد عن ابن العباس : الْأُمِّيُّونَ الْعَرَب كُلّهمْ، مَنْ كَتَبَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يَكْتُب لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا أَهْل كِتَاب .
ورد في تفسير البيضاوي : وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين الذين لا كتاب لهم كمشركي العرب..
كما أورد الشهرستاني : أهل الكتاب كانوا ينصرون دين الأسباط، والأميون كانوا ينصرون دين القبائل..
هذه فقط نماذج من عشرات الوقائع التي تؤكد أن لا علاقة للأميين الواردة في القرآن بالجهل بالقراءة والكتابة .
خامسا : مقتطفات من السيرة تؤكد أن النبي كان يقرأ ويكتب :
جاء في سنن ابن ماجة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر فقلت يا جبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة قال لأن السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة، فكيف استطاع محمد أن يقرأ ما هو مكتوب إن كان لا يقرأ ولا يكتب .
جاء في صحيح البخاري أن النبي كتب عمرة القضاء بيده.
اعتمر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ، حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَتَبُوا الْكِتَابَ كَتَبُوا هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالُوا لاَ نُقِرُّ بِهَا، فَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا مَنَعْنَاكَ، لَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ ” أَنَا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ”. ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ ” امْحُ رَسُولُ اللَّهِ ”. قَالَ لاَ، وَاللَّهِ لاَ أَمْحُوكَ أَبَدًا، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكِتَابَ، فَكَتَبَ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، لاَ يَدْخُلُ مَكَّةَ سِلاَحٌ إِلاَّ فِي الْقِرَابِ، وَأَنْ لاَ يَخْرُجَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ، إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّبِعَهُ، وَأَنْ لاَ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا. فَلَمَّا دَخَلَهَا، وَمَضَى الأَجَلُ أَتَوْا عَلِيًّا، فَقَالُوا قُلْ لِصَاحِبِكَ اخْرُجْ عَنَّا فَقَدْ مَضَى الأَجَلُ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه…
وها هو الرسول قبل وفاته يطلب من أصحابه أن يكتب لهم كتابا : جاء في صحيح البخاري وغيره : عن ابن عباس قال : لما حضر رسول الله وفي البيت رجال فقال النبي هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده فقال بعضهم إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ومنهم من يقول غير ذلك فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله قوموا. قال عبيد الله فكان يقول ابن عباس إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم.
وكما ورد في السيرة عن زيد بن ثابث قال : قال الرسول : إذا كتبتم باسم الله الرحمان الرحيم، فبين السين فيه .
وقال النبي لمعاوية كما أوردته كتب سيرة كثيرة : ألق الدواة وحرف القلم، وأقم الباء وفرق السين، ولا تعور الميم، وحسن الله، ومد الرحمان وجود الرحيم.
سادسا : إن النبي لم يكن عارفا بالقراءة والكتابة فقط ، بل كان عارفا بلغات أخرى غير العربية كاليونانية والسوريانية والعبرية، إذ أنه بحكم الدور الرئيسي لقريش في التجارة العالمية خاصة في الربط بين اليمن والروم، وبحكم ضرورة التواصل اللغوي التي تتطلبها التجارة العالمية كان من الضروري إثقان لغات أخرى من طرف المشرفين على هذه التجارة ومساعديهم. هذا وإن أضفنا إلى ما سبق، الشغف بالمعرفة والبحث الذي كان يميز شخصية النبي، سواء عندما كان يكون في مكة عبر الدراسات العميقة في غار حراء وحيدا أو مع زواره. أو في ارتباطه العائلي والحميمي مع ورقة بن نوفل والدائرة المحيطة، الذي كان يتكلم العبرية، أو في محادثاته اليومية مع العبيد الذين قدموا من مناطق ناطقة بلغات أخرى. أو سواء عندما يتعلق الأمر برحلاته التجارية حيث تنتشر مراكز حضارية وثقافية مهمة كالحيرة التي كات لها بصمات مهمة على المنظومة الإسلامية .
وكما هو مشهور في السيرة أن النبي كثيرًا ما كان يجلس عند المروة إلى سبيعة – غلام نصراني يقال له جبر
وكما روي عن عبيد الله بن مسلم: أن غلامًا كان لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه، اسمه عاش أو يعيش، وكان صاحب كتيب، وقيل هما اثنان جبر ويسار كانا يصنعان السيوف في مكة ويقرآن التوراة والإنجيل بالعبرية واليونانية والسريانية، فكان رسول الله إذا مر عليهما وقف يسمع ما يقرآن.
وعن ابن العباس أن النبي كان يزور وهو في مكة رجلاً أعجميًا يقال له بلعام كان المشركون يرونه يدخل عليه ويخرج من عنده
ولعل وجود عشرات الكلمات من اللغات الاخرى في القرآن لدليل إضافي على معرفة النبي بتلك اللغات، بل واستعماله لها في الحياة اليومية كما في الحديث :أخبرنا الحسن بن سفيان حدثنا أمية بن بسطام حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم عن بن عجلان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن امرأتين أتتا داود وكل واحدة تختصم في ابنها فقضى للكبرى فلما خرجتا قال سليمان كيف قضى بينكما فأخبرتاه فقال ائتوني بالسكين وأول من سمعته يقول السكين رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كنا نسميها المدية.
عموما إن عدم معرفة النبي بالقراءة والكتابة لا أساس له من الصحة، ولم نجد لها سندا بقدر ما تحيل كل الإشارات والآيات القرانية والسيرة على دراية النبي وعلمه قراءة وكتابة بالعربية ولغات أخرى أما طلب النبي من زيد بن ثابث أن يتعلم السريانية والعبرانية لكونه ترده مخطوطات خطيرة لا يريد أن يطلع عليها الآخرين، فهي لها احتمالات كثيرة، ولا تنفي مطلقا أن النبي لا يتكلم تلك اللغات .