لأن سقوط ورقة نظام بشار الأسد قد اقترب، فإن الأهم من هذا السقوط والأكثر ضرورة منه هو ألا يحصل في سورية ما حصل في ليبيا، وهو ألا يتقسَّم هذا البلد الذي ستدفع ثمن تشظيه هذه المنطقة كلها، فإنه لابد من أن يكون البديل جاهزاً، وعلى المعارضة السورية (المعتدلة) أن تسارع إلى لملمة صفوفها، وأن تتوحد وفقاً لتصورات سياسية واضحة تشكل القاسم المشترك بين التطلعات المستقبلية لمكونات الشعب السوري كلها المذهبية والطائفية والعرقية، ولتشعر كل هذه المكونات بأن هذا البلد هو بلدها، وأنه بلد الجميع، وأنه من الآن فصاعداً لا مكان لحكم الحزب الواحد والطائفة الواحدة، وأنه لا عائلية ولا مذهبية، وأن الدين لله والوطن للجميع.
كان بالإمكان أن تكون قرارات “جنيف1″، التي أسقطتها روسيا بإفشال “جنيف2″، بإصرارها على أن تكون الأولوية لـ”مواجهة الإرهاب”، وهي تقصد المعارضة السورية “المعتدلة”، هي المرحلة الانتقالية المطلوبة التي من المفترض أن تؤدي إلى انتقال السلطة سلمياً، لينشأ نظام ديمقراطي منتخب قائم على التعددية والتداول على السلطة يكون البديل لهذا النظام الاستبدادي، قدوته التجربة التي أرساها نيلسون مانديلا العظيم في جنوب إفريقيا التي عنوانها التسامح والابتعاد عن عمليات الثأر والبدء بمسيرة مقطوعة الصِّلة ونهائياً مع المرحلة السابقة المريضة.
إن المفترض أن يكون لدى المعارضة السورية البديل الجاهز الذي بالإمكان التعاون معه ومن قلب هذا النظام نفسه، ومن بين غير الملوثة أياديهم لا بدماء السوريين ولا بدماء اللبنانيين والفلسطينيين من ضباط القوات المسلحة، فالعزل يجب أن يكون مرفوضاً، وهنا يجب أخذ العبرة من تجربة ما بعد إسقاط نظام صدام حسين، حيث أدى الانتقام من البعثيين وحيث أدت معادلة: “المنتصر والمهزوم” إلى هذه المأساة التي حلَّت ببلاد الرافدين، والتي شكلت بيئة حاضنة لـ”داعش” التي استقطبت العديد من الذين استُهدفوا في كراماتهم وأعراضهم وأرزاقهم على أيدي من اعتبروا أنفسهم المنتصرين، وأن عليهم تسديد الحسابات القديمة مع من أصبحوا مهزومين، وعليهم أن يدفعوا ثمن الجرائم التي ارتكبها النظام السابق على أساس أنه كان نظامهم.
منذ الآن يجب فتح الأبواب على مصاريعها لكل من أصبح مقتنعاً بضرورة القفز من سفينة هذا النظام، وخصوصا من أبناء الطائفة العلوية، ومنذ الآن يجب إعلان أن سورية المستقبل تتسع لكل أبنائها، بما في ذلك الذين استطاع نظام بشار الأسد ونظام والده قبله أن يربطهم بنفسه، وأن يقنعهم أنه هو الطائفة العلوية وأن الطائفة العلوية هو، وأنه إذا زال فإن هذه الطائفة ستتعرض للانتقام والمذابح، وأنها بالنتيجة ستزول.
وحقيقة أنه، أي هذا النظام، قد نجح في هذه اللعبة، والدليل هو أن أكثر من أربعين ألفاً من العلويين-النصيريين قد دفعوا أرواحهم دفاعاً عن هذه العائلة الفاسدة المفسدة، ودفاعاً عن نظام لم يكن نظامهم وإنما نظام عائليٌّ التفَّت حوله مجموعة من المنتفعين من أبناء الخؤولة والعمومة!
الآن… الآن وليس غداً يجب أن تفتح الأبواب من قبل المعارضة ومن يساندونها لـ”العلويين”، والآن يجب أن ترتفع عالياً راية التسامح، والآن يجب تذكّر ما قام به نيلسون مانديلا، فوضع جنوب إفريقيا على بداية هذا الطريق السَّوي والصحيح التي تسير عليه الآن، فالانتقام جريمة والعزل مرفوض، وعلى كل من يفكر بذهنية انتقامية أن يتذكر أن نظام بشار الأسد يريد أن يكون بديله البطش والمذابح الجماعية، لخلق مبرر لاستبدال الدولة السورية التي تغرق حالياً في الدماء حتى العنق بدولة علوية في جبال النصيريين، وعلى شواطئ اللاذقية وكسب وجبلة وطرطوس وبانياس، وهي الدولة التي يريدها الروس، ويسعون إلى أن تكون قاعدتهم البحرية في المياه الدافئة على سواحل البحر الأبيض المتوسط.
وبالمقابل فإنه على الوطنيين من أبناء هذه الطائفة الكريمة، التي لا يجوز التعامل معها على أنَّ بشار الأسد هي وأنها بشار الأسد، أن يتذكروا أنَّ أول ما فعله حافظ الأسد للاستفراد بالحكم، وتحويله من حكم “البعث” إلى حكم العائلة، هو التخلص من محمد عمران بعملية اغتيال قذرة تمت في طرابلس اللبنانية في بدايات سبعينيات القرن الماضي، والتخلص من صلاح جديد بعملية تذويب جسدي في زنازين سجن المزة، وأيضاً التخلص من إبراهيم ماخوس الذي انتهت حياته بعد أكثر من أربعين عاماً قضاها لاجئاً سياسياً في الجزائر.. ثم بعد ذلك تواصلت التصفيات في أوساط خيرة ضباط القوات المسلحة الذين فكروا حتى مجرد تفكير في عدم السمع والطاعة لـ”العائلة” وأبناء الخؤولة والعمومة، إلى أن وصل الدور إلى غازي كنعان، وإلى أن وصل الدور إلى كفاءات عسكرية وسياسية و”إعلامية” بات رموزها يقضون أحكام سجن مؤبدة، ولكن في بيوتهم وتحت “الرقابة” الشديدة، ومنعهم حتى من مغادرة البلاد التي تحولت إلى سجن كبير.